الدكتور عبد الكريم بالرشيد
فاتحة الكلام
انت القارئ الذي يقرا هذه الكتابة، ويعنيك ويهمك معنى هذه الكتابة، يقول لك الكاتب الاحتفالي:
(انه لا يمكن لك ان تحيا نفس الاحتفال مرتين) و(لا يمكنك ان تعيش في حياتك الواحدة مرتين) وانه (ليس في عمرك ( إلا الساعة التي انت فيها) وان انت غادرتها غادرتك، فكن فيها ولا تكن في غيرها، واعلم ان ( الغائب الحي، في الأزمان الاخرى وفي الأوطان الأخرى، ومهما طالت غيبته وغربته، فإنه لابد ان يعود إلى وطنه وإلى بيته)، وهذا هو حال الاحتفالي المسافر دأئما، له وطن ينطلق منه ويعود إليه، وله مدن يسافر إليها، ويعود إليها، وهذا ايضا، هو نفس ما أكدته المقالة السابقة من عمر هذه الكتابة، والتي اختارت ان تكون بعنوان :
( سفينة الاحتفالي وسفينة ثيسيوس)
هي نفس السفينة إذن، بنفس الاسم وبنفس المسمى، ولكنها موجودة في اكثر من صورة، وفي اكثر من ميناء، وفي اكثر من شاطئ، وفي اكثر من زمان، وفي اكثر من عمر، وفي اكثر من بحر، وبالنسبة لفعل الاحتفال، في معناه الوجودي والاجتماعي والوجداني، والذي ملأ الدنيا وشغل العالم، وذلك على امتداد التاريخ، والذي قراناه نحن الآن هنا قراءتنا العيدية الخاصة، فإنه يمكن ان نقول عنه نفس الشيء، فهو في كل الأحوال يظل نفس ذلك الاحتفال المشترك، ولكن المحتفل فيه متججد، وهو يخالف نفسه بشكل دائم، وبغير هذا لا يمكن ان يكون للاحتفال اي معنى واي دور في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات والمجتمعات، وفي حياة الشعوب والأمم
وهذا الاحتفال، والذي قد يكون مجرد يوم من الأيام، او مجرد ساعة من الساعات الهاربة، هو دائما ذلك السفر الوجودي الذي يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان زمان إلى زمان، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن بيئة الى بيئة، ومن عصر إلى عصر، ومن حالة وجدانية إلى حالة أخرى غيرها، وفي كل تلك الاحتفالات التي يعيشها، ويحياها، ويحيا بها الإنسان المحتفل، فانه لابد ان تتغير أعماره، بكل ظلالهت وتجلياتها، من احتفال الى آخر، وأن يتغير حاله ايضا، وأن يتغير مزاجه، وأن تتغير اولوياته، وأن تتغير شبكة علاقاته، وان يتغير ذوقه الجمالي، وأن تتغير قناعاته الفكرية، ومع كل ذلك، يبقى الاحتفال هو الاحتفال، اي ذلك الثابت الذي لا يمكن تغيره متغيراته الزائرة والعابرة والطارئة
وبخصوص هذه السفينة الاحتفالية، الوفية لذاتها ولاسمها ولوجهتها ولمسارها، والتي يمكن ان يتغير ربابنتها، وان يتغير ركابها، يقول ذ، كبير ديكار
(مهما تعددت موانئها، و مهما استبدلت ألواحها وتجدد ربابنتها، ستبقى الاحتفالية، بالنسبة لنا نحن الاحتفاليين، السفينة الأصل التي تبحر بنا نحو التجديد والتجدد، وتجعلنا ،عند كل ميناء، نجدد دمنا وجلدنا دون الانسلاخ عن أصلها و جوهرها، او الانفصال عن هويتها. نسافر، نرحل، نجتاز كل حدود الزمان والمكان . نتجاوز الكائن نحو الممكن، والعادي نحو المدهش، لكن نظل اوفياء للهوية التي وضعتها استاذنا الفاضل، و نظرت لها سنين طويلة. و إننا على دربك لسائرون. وهذا شرف لنا)
الاحتفالية محطات وكل محطة حياة أخرى
وماذا يمكن ان نقول اليوم عن سفينة ذلك الاحتفالي القديم سوى انها سفينة واحدة؟
وماذا يمكن ان تكون السفينة سوى انها جسد واحد حي، تواجه امواجا متحركة كثيرة، وذلك في بحار ومحيطات كثيرة ايضا؟
هي سفينة قديمة وجديدة ومتجددة في نفس الآن، وهي تنجدد ويتجدد معها وفيها ربانها، وذلك بتجدد المرافئ البعيدة التي وصل إليها وأدركها، وهءه السغيمة الاحتفالية، مثلها في ذلك مثل سفينة ثيسيوس اليونانية القديمة، والتي جددت كل شيء فيها، من اجل ان تبقى على قيد الماء وعلى قيد السماء وعلى قيد الهواء، وعلى قيد الحياة ولقد جدددت اجزاءها، وجددت اشرعتها، وجددت طاقتها، وبذلك استطاعت أن تقاوم الموت عوامل الموت، وكذلك هو الحال بالنسبة لسفينة هذه الاحتفالية، والتي مازالت تجدد منظومتها الفكرية بالأفكار الجديدة، ومازالت تتحدى الجغرافيا بالحركة، وتتحدى التاريخ بالفعل فيه، وان تعيش في الجديد دئما، وان تحيا بفعل التجديد، وذلك على امتداد خمسين عاما من عمر قرنين ومن عمر ألفيتين اقنتبن
ولهذا، فانه لا يمكن إلا ان نستغرب، عندما نجد النقد المسرحي، المغربي والعربي معا، يتحدثان عن الاحتفالية وسفينتها الفكرية والإبداعية في المطلق والمجرد.. في المطلق من المكان، وفي المطلق من الزمان، من غير ان يحددا عن أية احتفالية يتحدثان، وعن اية احتفالية يكتبان، هل هي تلك التي كانت، في ذلك الزمان السبعيني من القرن الماضي؟ ام هي هذه الاحتفالية التي وصلت البوم الينا، والتي قادتها الرياح إلينا؟ ام هي تلك الاحتفاليات الأخرى، والتي سوف تاتي مع الاحتفاليين الجدد والمجددين، والتي اصطلحنا على تسميتها بالاحتفالية المتجددة، والتي سوف تاتي غدا بكل تاكبد، مع الزمان الآتي
وهذه الاحتفالية الواحدة، هي فعلا حياة واحدة، بمحرك روحي وفكري ووجداني واحد، ولكن بأعمار متعددة ومتنوعة ومتعاقبة، وقد تكون متناقصا تناقضات تكتيكية ومرحليا، وهي محطات فكرية وجمالية واخلاقية كثيرة جدا، وبخلاف ما قد يظن البعض، فإن هذه الاحتفالية ـ وعبر كل مسيرتها ومسارها ـ ليست حلم ليلة واحدة، وليست حلم فرد واحد من الناس، ولكنها حلم أمة كاملة من الناس، او هي حلم كل الإنسانية، في بحثها المشروع عن إنسانيتها، وفي بحثها عن حياتها وعن حيويتها، وفي بحثها عن المدينة الاحتفالية الفاضلة، وفي بحثها عن الفرح وعن الجمال وعن الكمال
والمحطات الأساسية التي قطعها اسم الاحتفالية كثيرة ومختلفة، من (بيان المسرح الاحتفالي ) 1976، والذي لم يكن يحمل رقما، ولم يكن يحمل نعتا آخر سوى انه بيان المسرح الاحتفالي في المطلق، واعترف بانني، في ذلك البدء التاسيسي. كنت اعتقد بانه بذلك البيان الواحد الأوحد يمكن ان أؤسس تيارا مسرحيا متكاملا، ولم اكن اتصور اطلاقا بانني قد ادخلت نفسي في متاهة فكرية، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، ولعل هذا هو ما يجعل كل كتاباتي، الفكرية والجمالية معا، والقديمة والجديدة ايضا، هي مجرد بيانات جديدة في المحطات الاحتفالية المتجددة
الاحتفالي بين الواقع والحقيقة
ورغم أن بيانين للاحتفالية، صدرا في أواخر السبعينات من القرن الماضي يحملان اسم (الاحتفالية الواقعية) فإن الاحتفاليين لا يؤمنون بالواقعية، خصوصا منها الواقعية الطبيعية والواقعية الفوتوغرافية والمرآوية، وبدلا عن ذلك، فهم يؤكدون دائما على
الحقيقة، والتي لها وجود في درجة عليا من درجات ما فوق الواقع، أو ما خلف الواقع، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
( أنا لست مصورا، وليس لي في عيني آلة للتصوير الشمسي.. وهذا العالم الذي في مسرحي هو عالمي أنا، وليس عالم نفسه، وفيه شيء كثير من جمال رؤيتي، وفيه أشياء أخرى من أوهامي وأحلامي، وفيه مدن قد يكون لها وجود، إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد، وفيه أيضا، جمال وعدل، وفيه سكينة وطمأنينة ..) هذا تحدث الاحتفالي المسافر في رحلته الافتراضية، والذي دونها في كتاب (الرحلة البرشيدية)
ولهذا يكون من الضروري أن نعود لنفس تلك الأسئلة التي رافقت الاحتفاليين في مسيرتهم الوجودية والفكرية، ومنذ النشاة الأولى وهذه الأسئلة هي:
ــ ما الاحتفالية؟ وما حقيقتها؟ وما هي العلامات الدالة على وجودها؟
ــ وهل يكفي بيان واحد ليبينها؟ وهل يكفي شرح واحد ليشرحها؟
وهل تكفي محطة واحدة من محطاتها، لتكون هي الاحتفالية، كل الاحتفالية؟
ــ وما الظاهر في هذه الاحتفالية المتحركة والهاربة والزىبقية والغامضة والملتبسة، وما الخفي السحري فيها؟
ــ وما هي الحدود الكائنة فيها، وما هي حدود الممكنة، وما هي الحدود المستحيلة الوجود؟
هكذا تساءل الاحتفالي دائما، وهكذا أجاب عن تساؤلاته، فهذه الاحتفالية هي عنده حياة وحيوية، وهي عين جارية، عين تتدفق ماء من الأعلى إلى الأسفل، ويمشي ماؤها الصافي والرقراق في عروق الحياة والأحياء، وفي مقابلها هناك عين أخرى، عين ترى الماء وروح الماء ومنابع الماء، وترى الجمال وروح الجمال، ويؤكد الاحتفاليون دائما على أن من كان احتفالي الروح والوجدان والعين والقلب والخيال مثلهم، فإنه لا يمكن إلا أن يبصر جماليات هذه الاحتفالية، في كل تجلياتها المتعددة والمتنوعة، والتي هي ـ في مجموعها ـ جزء أساسي وحيوي من جماليات الحياة ومن جماليات الطبيعة ومن جماليات الوجود ومن جماليات التاريخ، ولا يمكن أن يعمى بصر أو بصيرة عن عمقها وعن سحرها وعن مضمونها الغنى لحد الترف والبذخ، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفاليين يقولون دائما بأنهم ينتمون إلى شجرة الحياة، وإلى نبع الوجود، ولقد قالوا وكتبوا ما يلي:
(أبونا الوجود وأمنا الحياة وأختنا الطبيعة وأخونا التاريخ) وبالتأكيد فإن الذي ليس في عينه وفي روحه وفي وجدانه جمال لا يمكن أن يرى في هذه الشجرة الاحتفالية ـ والتي هي الأصل ـ شيئا جميلا ..
ومن طبيعة هذا المسرح الاحتفالي، والذي هو جزء صغير جدا من هذه الشجرة الاحتفالية الكبرى ـ أن يكون له بين الناس الأحياء أهل وأحباب، وأن يكون له خصوم، وأن يكون له رفاق وأصدقاء وأعداء.. وفي كل الذين عاصروا هذه الاحتفالية، نجد الذين ينتجون ويبدعون، ونجد الذين يستهلكون، ونجد الذين يعملون ويفكرون ويكتبون، ونجد الذين يتكلمون فقط، ونجد فيهم من يهمه أن يكون هذا المسرح سلطة إنسانية ومدنبة، ونجد فيه من لا يهمه سوى (مسرح السلطة) وهم الكثرة ( الغالبة) دائما، وبتعبير آخر هم ( السواد الأعظم)
هذا الاحتفالي موجود دائما بين حدين اثنين، حد الواقع وحد الحقيقة، وحد الكائن وحد الممكن، ولهذا فهو يسأل نفسه دائما:
(- أيهما ينبغي أن نغير هذا اليوم، أحلام الشعراء غير الواقعية، أم نغير هذا الواقع، وذلك بكل وقائعه غير الشعرية؟) هذا مات قاله الاحتفالي في كتاب (انا الذي رأيت) والذي صدر عن منشورات ايديسوفت بمدينة الدار البيضاء
جوابا على هذا السؤال، أو هذا التساؤل، يقول الاحتفالي (تغير الواقع طبعا، وذلك حتى يصبح في مستوى علم العلماء، وحتى يرتقى إلى مستوى حكمة الحكماء، وحتى يصبح الحكام فلاسفة، وحتى ينزل الفلاسفة من أبراجهم العالية، ويصبح لهم دور كبير وخطير في تغيير الواقع، وفي تغيير وجه العالم، وفي تصحيح مسار التاريخ، ويذكر أبو حيان التوحيدي أنه قيل لديوجانس (ديوجين) (متى تطيب الدنيا فقال: إذا تفلسف ملوكها، وملك فلاسفتها) من نفس المرجع السابق
ولأن الحقيقة عنيفة، ولأنها سريعة مثل رصاصة، ولأنه يجوز للفنان ما لا يجوز لغيره، فقد كان من حق هذا الاحتفالي أن يقول:
(لقد قلت دائما وكتبت، بأن من حق الكاتب المفكر أن يكون هادئا ومهادنا، ولكن (أفكاره) والتي هي أفكار نفسها، وهي أفكار لحظتها وأفكار مناخها وطقسها وسياقها، لا يمكنها ذلك، لأنها تنتمي إلى ذلك العالم الرمزي الخفي، والذي تمثله الحقيقة، ومتى كانت الحقيقية هادئة ومهادنة ورمادية و لا لون ولا طعم لها؟) وهذا بعض ما جاء في ( بيان اربيل الاحتفالية المتجددة) والذي صدر في اطار مهرجان مدينة اربيل الكردية
يقول ألبرت أينشتاين (إذا تعارضت النظرية مع الواقع، فغيروا الواقع)
ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن النظرية الاحتفالية، والتي تتعارض اليوم تعارضا كاملا مع الواقع، لأنها تختلف عنه ولا تشبهه، ولأنها تسبقه بمراحل كثيرة جدا، ولعل هذا هو ما يبرر أن يعمل الاحتفاليون -نظريا وفعليا- من أجل تغيير هذا الواقع المتخلف، وذلك حتى يصبح في مستوى تقدم وحقيقة وجمال وكمال ونبل وشفافية النظرية الاحتفالية، والتي هي أساسا حلم في مستوى البشرية كلها، وفي مستوى العالم، وفي مستوى التاريخ، وفي مستوى الأبدية.
بحثا عن ذلك الواقع الآخر إذن، وبحثا عن المدن الأخرى الممكنة الوجود، وبحثا عن الفن الآخر، وعن الفكر الآخر، وعن المجتمع الآخر، وعن العلاقات الإنسانية الأخرى، وعن المؤسسات الاجتماعية الأخرى، تأسست الرؤية الاحتفالية، وظهرت النظرية الاحتفالية إلى الوجود، وكانت ضرورة من ضرورات شعرية الحياة، وكانت بجمالياتها وبشعريتها استجابة لشعرية الوجود) من نفس كتاب ( انا الذي رايت)