فراقشي الماستر”

حميد طولست

ما عاد الأمر مجرد “أحاديث مشككة” في كواليس الجامعات، ولا مجرد همسات عن ماسترات تُمنح على المقاس مقابل مغلفات نقدية أو خدمات مشبوهة. إنها الفضيحة التي انفجرت في وجه جامعة ابن زهر بأكادير، لتكشف عن شبكة معقدة تستثمر في الشهادات العليا كأنها “رخصة لبيع السمك”، وتضرب في العمق ما تبقى من ثقة المواطن في مؤسسة يفترض أنها حامية للعلم ومكرسة لمبدأ الاستحقاق. قضية الأستاذ الجامعي “أحمد قيلش”، المنسق البيداغوجي السابق لأحد برامج الماستر بكلية الحقوق، التي تفجرت بعد إحالات ومراسلات من الهيئة الوطنية لحماية المال العام، ليست إلا رأس جبل الجليد في منظومة موبوءة بالزبونية، والريع الأكاديمي، والمصالح المتشابكة بين أساتذة وموظفين ومحامين وقضاة ومنتخبين. في التفاصيل، أمر قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بمراكش، مساء الثلاثاء الماضي، بإيداع قيلش رهن الاعتقال الاحتياطي بالسجن المحلي الأوداية، بتهمة تورطه ضمن شبكة تتاجر في التسجيل ببرامج الماستر، وتمنح شهادات جامعية مقابل مبالغ مالية مشبوهة، ساهمت في ترقي موظفين واستقطاب مرشحين لسلك الدكتوراه، بل واستعمال تلك الشهادات في التباهي المجتمعي والتوظيف السياسي. الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بدورها، كشفت عن معطيات صادمة، بعد استماعها لعدد من الأساتذة والطلبة ورجال الأعمال، بل وحتى قضاة ومحامين، من بينهم زوجة الأستاذ المعتقل (محامية)، وموظف بكتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية بآسفي، وابن رئيس هذه الكتابة، ومحامون متمرنون، إضافة إلى أبناء مسؤولين جامعيين ومنتخبين. المثير أن القضية لم تكن لتطفو لولا المراسلات المتكررة للهيئة المغربية لحماية المال العام، خاصة تلك المؤرخة في 22 شتنبر 2023، الموجهة للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بأكادير، والتي أشارت صراحة إلى “عصابة منظمة لتزوير الشهادات الجامعية”، رغم زيارة لجنة تفتيش مركزية لم تأتِ بتقرير حاسم أو مقلق. لا يتعلق الأمر فقط بتجاوزات فردية، بل بنموذج مصغر لمنظومة تعليمية باتت تخضع لإكراهات السوق أكثر من خضوعها لروح العلم. شهادة الماستر، التي يُفترض أنها ثمرة كدح علمي ومعيار للتميز، تحولت إلى سلعة قابلة للتفاوض والتوزيع، تُفتح أبوابها لمن يدفع أو “يُطَبِّل”، وتُغلق أمام من اجتهد أو لم يجد ظهرًا يسنده. ويبدو أن أحمد قيلش – الذي يُلقب بين الطلبة بـ”شناق الماسترات” – لم يكن يُفوّت مناسبة دون التلويح بخطابه الوطني والصوت العالي في الدفاع عن “قيم الدولة”، بينما يواجه اليوم اتهامات خطيرة ليس فقط تتعلق بالفساد المالي، بل وحتى بالتحرش الجنسي بطالبات، حسب شكايات رائجة. في خضم هذا الزخم، يطرح كثيرون سؤالًا مشروعًا يضع قانون القانون الجديد الذي أقره وزير العدل عبد اللطيف وهبي، والذي يمنع الجمعيات من الترافع أو الإبلاغ عن قضايا الفساد المالي دون إذن مسبق في قفص الاتهام: وهل كان ذلك تمهيدًا لخنق صوت منظمات كـ”الهيئة المغربية لحماية المال العام” التي كانت وراء فضح هذه الشبكة؟ ولماذا تزامن صدوره مع هذه الفضيحة ؟ القانون، الذي رآه كثيرون بمثابة محاولة لـ”تكميم الأفواه”، أتى في سياق مقلق يتسم بتصاعد الرقابة على المجتمع المدني، ومحاصرة الكلمة الحرة، في وقت أصبح فيه “الإعلام الموازي” و”التحقيق المدني” وسيلة فعالة لفضح ما يُطمر تحت الطاولات. هذه القضية لا تخص فقط جامعة ابن زهر، بل تضع التعليم العالي في المغرب على محك وجودي: كيف نثق في شهادة جامعية ونحن نعلم أن البعض نالها بفضل قرابة أو رشوة؟ كيف نضمن عدالة مباريات التوظيف، ومنافسات الدكتوراه، ومنظومة البحث العلمي؟ هذه الفضيحة لا ينبغي أن تنتهي عند حدود المتابعة القضائية لبعض الأفراد، بل يجب أن تُتخذ كمنعطف حقيقي لإعادة النظر في أساليب التكوين، والولوج إلى الماسترات، وربط الشهادات بصرامة المعايير والاستحقاق، بدل المراسلات و”المعرفة”. والختام…تحية لكل من يفضح الفساد رغم المحاولات المتكررة لإسكاته. الفساد لا ينهار إلا حين يُسلَّط عليه الضوء. وقضية “فراقشي الماستر” ليست سوى تذكير بأن سلطة القلم، إذا صمدت، قد تفعل ما عجزت عنه مؤسسات بكاملها. وان شهــوة المال والسلطة إذا أصبحــت حلــم المسؤول .. فإنـه غالبـاً مـا يفقــد كرامته ودينه ووطنيته قبـل أن يصـل إليها…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *