التفكير بين زمن التكفير وتأصيل العقل التأويلي

إنجاز: د الغزيوي أبو علي / باحث

لا ريب أن الجامعة المغربية لا تقدم نفسها بسهولة إلا العقلانية والمنطق والعلم، فقد منحت للطالب  وللباحث كتابة مرسومة التكوين على مستوى التأويل والتفكيك، لا على مستوى الانغلاق الفكري والحضاري والديني، فالجامعة هي العقل النقدي والتحليلي لا البناء التجريدي الهائل بالخواء، إن لم يمتلئ بالتجريب والتجربة، وفي هذا المناخ تعرض الباحث والصديق ادريس الذهبي للمضايقات من طرف أحد فصائل المحسوبين على التيار الديني المؤلج، حيث أن هذا التيار لا يؤمن بالاختلاف ولا يتسم بالعقلانية الأداتية بلغة هابيرماس، بل يعرف لغة الإقصاء ومنطق التهميش لما هو تنويري، فالاختلاف بوصفه فعالية قرائية، وتحرر من التعصب والهمجية العارمة، وتجاوز لمنطق النصر الأوليغارشي، فهذا التيار لا يزعم الإحاطة بالنص المخالف، والمغاير، بل يرسم لنفسه أرضية معرفية تصبح هي الكليانية والصحيحة، إن الأستاذ ادريس الذهبي يرعى دوما في تأسيس المختلف للثقافة وللحضارة دون التقليل من شؤون المعارف الإنسانية الأخرى، إذن يبقى التأويل والتفكيك للظواهر النصية والحضارية والدينية والفكرية هو وسيلة والغاية ورؤيا منهجية لمحاولة الفهم والإفهام ولبلوغ الحقيقة ويرى غادامير وهيدلبرغ أن التأويل الصحيح لما هو قابل للتفسير والشرح لا يشكل عائقا معرفيا لقيام منهجية العلوم الإنسانية أو علوم الفكر كما يسميها في كتابه “الحقيقة والمنهج” ص11، فمشكلة الاختلاف المنهجي والتأويلي هي مشكلة غير مطلقة، بل ترتبط بتجربة الباحث في هذا الكون من أجل الوصول إلى الحقيقة والمعرفة كما يرى غادامير ص11، فالباحث المعقلن يسعى إلى تأسيس استراتيجية مفتوحة قابلة أن تستوعب كل شروط الاختلاف من أجل إخضاع النصوص المعرفية والدينية للتفكيك وللتأويل دون الولوج في الاغتراب المجاني، فادريس الذهبي كأستاذ باحث لابد أن يدعو مع فريقه إلى فهم الذات الباحثة وطرح الإشكالات وتحديد الأطروحات المناقضة من أجل فهم من وكيف ولماذا؟ وكيف كما يرى سارتر في كتابه (ما الأدب؟)، فالطالب الباحث لا يكون أداة للنقل ولا يحمل العقل الأداتي المتعالي التي تقوده إلى الوهم بالحقيقة، لأن النصوص لا تعطيك نفسها بسهولة، بل ترحل طبقا لسنة التأويل وقانون الممارسة والتحليلية ويقول علي حرب في هذا الصدد في كتابه “الحقيقة والتأويل” 1995 ص5، فالتأويل بما هو انتهاك للنص قد يؤول إلى التفكيك، وعندما يجري تجاوز البحث عن المعنى للحفر في طبقات وأبنيته أو للقراءة في صمت الكلام وفراغاته بما يكشف عن آليات النص في إنتاج المعنى، فالطرح التأويلي لا يعني بالضرورة تجاوز النصوص المغلقة، وإنما يعني طبع الخطاب بسمة تجعله ينفصل عن سابقه من الحداثة، حيث يعبر المبدع العقلاني بشكل أفضل عن هموم الإنسان وما يناوئه من طروحات ومشاكل، إذن لابد له من الكيفية النقدية المثلى للتعبير عنها، وما هو تأثير يحذو بنا إلى عدم مقاربتها بوصفها كلا ممكنا وبعدا متعددا، لأن ادريس الذهبي لا يملك اليقين المطلق، بل هدفه هو توجيه الطلبة إلى البحث عن المغاير والتحديث والتجديد، وهذا هو هدف الباحث الذي يجعله الشيء إنسانا، لا يباع ولا يشترى طبقا للقوانين والمراسيم، وهذا الاستقلال لهذه الذات المبدعة تجعله ليس مستلبا للأحزاب المفبركة، وكذا للنقابات التابعة دون استخدام أو مراجعة نقدية، لذا فالصحيح أن فلسفة التربية هي قبل كل شيء، نور نهتدي بها وننمو بها، لأنها العدد اللانهائي لهذه الذات المستلبة، فهي فضيلة وقوة كما يرى الرواقيون، فالإنسان هو الذي يكفي نفسه، وهو سعيد لكونه حصل على الوفاق الكامل، وإذا ما بدأ المشروع صعبا للغاية، فيمكن أن نجعل من الإنسان الحكيم على الأقل نموذجا ومن الفعل الفاضل واجبا فنحصل على هذا النحو على الوسائل التي تتيح محاكاة الحكمة ص37، فالباحث الذهبي يحاول جاهدا أن يغاير المألوف بوعي نقدي ليتلاءم مع المعطى الإبداعي التربوي، والسياسي، فهي طريقة لتبادل المعلومات واستقبالها بطرق عديدة تتراوح بين القبول والنفور، وهذا ما نراه في الانتخابات، وفي الندوات، وفي الجامعة، ومن خلال هذا نجد أن اللغة المستخدمة من طرف السياسي والباحث والتربوي وسيلة الاتصال وليس غاية، أما التربوي فاللغة المستخدمة تراعي شروط المتعلم، والمؤسسة، والبرنامج الدراسي قصد إقامة التواصل بين هذه الكائنات، فهي ظاهرة رمزية وتداولية، من هنا نرى بأن تحقيق التواصل الناجح يقتضي بذل المجهود من كلا الطرفين لإنجاح العملية التعليمية التعلمية، وهذا النموذج المتمركز حول جميع التصورات والمفاهيم، والتقنيات التي تتمحور حول النشاط التفويضي التربوي، لأن الحاجات والثقافات هي المظاهر الأكثر وضوحا وتجسيدا للدوافع الموضوعية وهذا ما يدفعنا إلى طرح أساسي، هل الاستراتيجيات البيداغوجية تمكن من تحقيق الأهداف الواردة في التوجيهات الحالية؟ وانطلاقا من هذا السؤال المركزي نستشف أن التربية في وطننا تعيش حربا بين النقابات والتنسيقيات، وبين السياسيين، الشيء الذي يجعل العملية التعليمية تعيش الغربة والكآبة، مما يجعل المدرس يطلب من الطلبة البحث كما حدث بالجامعة، وهذه الخلخلة في هذه المنظومة جعل الفكر الإنساني والعلمي يتأخر، ويتهاوى نظرا لفقر التحفيز المادي والاهتمام بالباحث، وشح في دور النشر، وغياب التنافس المؤسساتي والجامعي، لأن هدف الأوصياء هو المشي على الأقدام من وإلى دون معرفة الخلفيات، لذا يعاني المدرس بكل صنوفه من الألم واليأس نظرا كما قلت بعدم اهتمامه، كذات، وفكر وحياة، ووجود، بل أن التيارات الطلابية في المجتمع المدني، الجامعي هي المضامين التي يحمله هذا المكون لم يكن في أي وقت مضى، ا من جهة، ومن رؤية أخرى أن الإشباع التكنولوجي في تداوله الوجداني والإيديولوجي يجد إطاره المرجعي داخل الفكر العربي ومفاهيمه الخاصة وليس خارجها، إنه عبارة عن مركب إبستيمي يدهشنا بالسرعة والخفة ويغلف النظم التقليدية بألوان حديث والعلمانية بالأحزاب الحداثية والشرعنة، وسائر المؤسسات الرقمية، لذا يرى التربوي المعاصر قادر على الاندماج الكلي في هذه السياحة الرقمية سواء في التطبيق أو في النظم دون إجهاض لمشروعات النهوض في عصرنا، ودون انفصام بين اليوتوبيا والواقع المعاش، فكلما تمعنا النظر في هذه الأحزاب المفبركة، كلما أحسسنا ببؤس الواقع كلما كثر الحديث حول الديمقراطية الحزبوية حيث تتخاض منذ الاستقلال إلى اليوم معارك سياسية وثقافية باسم الديمقراطية، لكن هذا المفهوم لم يرتبط بالنزاهة والدقة، بل ظل مرتبطا بالطائفية، والعقائدية، والحزبوية، الشيء الذي جعلني أعيد النظر في هذا المفهوم، باعتباره استراتيجية التي من خلالها أطرح السؤال التالي: أي ديمقراطية نريد؟ وهل نملك الأحزاب السياسية الديمقراطية؟ وهل المجتمع المدني قادر على تطبيق الديمقراطية؟ وما علاقة الدولة بهذا المفهوم؟ وما علاقة الثقافة بالديمقراطية؟ أسئلة متنوعة ومختلف المرامي والأهداف، لأنها تثير فينا الدهشة، والبداهة، وتشعل فينا رغبة الدقيق حول هذا المفهوم، لأنه هو الذي يشيد الإنسان ويجعله قادرا وحرا على صعيد الإبداع الدلالي المستخلص من أداء وظائف معينة لعناصر البعد التربوي، الأمر الذي يخلق منها لغة موازية للغة الرمزية، كما تتجلى الإمكانات الدلالية للغة بوصفها نصا يحيل على معان عدة، بل أيضا بوصفه قيمة دلالية، يمكن من خلالها التقرب إلى العالم الممكن، أي معرفة عالم المفكر من خلال إبداعه، وهو ما يجعل منه مادة للتشكيل المجازي في كثير من حقول معرفية.

إن تمثل هذا الحضور التربوي والثقافي في إطار المعرفة الجمالية وعبر ثنائيتي (الفكر / التربية) هل لأن الباحث ادريس يفكر في الاختلاف المنهجي، كرد فعل طبيعي ضد السذاجة والبساطة التركيبية، فالحاجة إلى المفكر والمثقف الذي يمثل بالأساس الرؤية النقدية التي تستمد مقوماتها من الذات، والفرد والوجود، وهذا ما يعني أن العلاقة بين الكتابة، والرؤيا هي رؤيا تكاملية بين الطرفين، لذا فرضت الثقافة الرؤية التشكيلية التأويلية نفسها كنص تأويلي رمزي إيحائي من أجل تجاوز المشاهد المألونة والبسيطة، لفسح المجال للغة الرموز، وللفكر كذات الصفات الموضوعية، فهذا الاهتمام بالفكر والمفكر لا يعود إلى خصوصية اللغة، والخيال، والفكر، بل إلى الكثافة الدلالية لمضمون اللوجات، المنهجية بكل أبعادها الاجتماعية والنفسية والسياسية، والأخلاقية، كل هذا يتم بواسطة التأويل الذي هو التعبير عن الأفكار وبالصور المشخصة، وكل ما لفظ استخدم في غير ما وضع له في الأصل، فإذا كان الفكر ملازما للمثقف تربويا وجماليا، فإنه معنى بالاقتراب من فكره لاكتشاف بنيته بكل تمفصلاتها، وإدراك حركيتها وتموجاتها، ولن يتأتى للباحث ادريس الذهبي إلا إذا تمكن من قواعد المناهج التي تضبط سيره وتتحكم فيه ويقول رمضان محمد غانم: <<وما يعطي للنمط جوهره ليس وجوده الفردي مهما كان تصور هذا الوجود عميقا، ولكنها تلك التحديدات الإنسانية والاجتماعية التي نجدها متمثلة في العمل الفني، في أقصى تفتح للإمكانيات الكامنة فيها، في ذروة عرضها لأطرافها البعيدة، مجسدة بذلك إمكانات البشر وجوهر المراحل التاريخية >> علم الجمال عند لوكاتش – الهيئة العامة للكتاب – 1991 ص158، وانطلاقا من هذه القولة، نرى أن البعد الجوهري ليس الفرد، بل هو الجماعة التي تتخذ مظهرا يتمثل في المراقبة وفي القواعد التربوية والجمالية والتركيبية، لأن اللغة كمؤسسة تربوية اجتماعية لها استقلال عن الأفراد في التوظيف والترتيب الذوقي، فهذه التمثلات بما هي صيرورة نفسية معرفية، تشتغل ضمنها مجموعة من آليات المقاومة، بحيث تتحول الأحكام القيمية الجاهزة إلى ميكانيزمات للدفاع عن الذات، ومن ثم إلى تجاوز عوائق متعددة الأشكال ك (المقدس – التقاليد – السلطة) لتؤول في نهاية المطاف إلى عائق مركزي هو عائق التفكير الحر، وهكذا فإن إقدام المبدع على دراسة الثقافة والحضارة والسياسية، هو عبارة عن ضرورة وتوسيع نطاق الحقوق، باعتبارها سمة من سمات التقدم والنهوض في المجتمع الحديث والمعاصر، لذا اهتم علماء الاجتماع بكيفية ارتباط حقوق المواطنة والفكر والطقس بالمعايير غير الرسمية بمفهوم التضمين، أي نظرة الناس إلى الباحث كشخص ما على أنه شخص من ضمنهم، يطلق عليه المجال المدني Civil sphère ويعني بذلك حيز المواطنة بين الدولة والمجال الاجتماعي، فالدولة هي التي تمنح الحقول كاستحقاقات إنتاج المواطنة تعتمد على معايير غير رسمية تقررها الظروف الحاكمة في المجال المدني في المقام الأول، ينطوي البحث الجامعي في المجال المدني على بناء تفاهمات مشتركة بشأن أي الأفراد يحق لهم وضع المواطن، فالأمر بطبيعته مقياسي يخضع لقياس الناس لأمرئ ما، إذ يتوقف ذلك الفرد كمواطن على الاعتراف به من قبل الآخرين، إذن تقضي أطروحتنا في هذا المقال بأن أصالة البحث الجامعي لم تكن تظهر فقط في انكباب الطالب، والطالب الباحث على إشكالية التأويل للنصوص في بعدها المنهجي والمعرفي، بل هي استنطاق وتفكيك للنصوص بوعي هيرمينوتيقي ليشمل التيارات المغلقة والمنفتحة وكذا التكوين في علاقته بالحياة الجامعية وبالمختبرات المعرفية والعلمية لذا ندعو بإعادة النظر في الفكر المعرفي والحضاري والإسلامي المغلق وجعل سياسة العقل والمعرفة كبنية ودينامية للتفكير وكفضاء مؤسساتي لإنتاج وولادة المعارف دون إقصاء ولا تعصب ولا لغة بريرية، لأن الخطاب السياسي الطائفي والتربوي حظي باهتمام كبير من طرف الباحثين السوسيولوجيين وعلماء النفس، والتربويين، مما جعلت منه حدثا أساسيا بارزا لدى المتلقي، لذلك كان يعكس إلى حد ما إثبات الشرعية عند الباحث، وترسخ الفكر المركب سواء على مستوى الوظائف الأخلاقية والسلوكية، أو على المستوى التشريعي، لذا فالفعل التربوي بصفته قدرة من العنف الرمزي يمارس في علاقة تواصل، ويضمن بالضرورة كشرط اجتماعي وسياسي لممارسته، فأي فعل تربوي هادف يفترض حتما السلطة التربوية والبيداغوجية من أجل تقبل واستنباط الرسالة حسب تعبير بيير بورديو ص36، وإذا كان ادريس الذهبي حشر البعد البيداغوجي كطابع ديناميكي من أجل تتبع المعاني والدلالات التي أعطاها الطالب الباحث لتلك الشخصية كبعد إبستيمي من الإبستيميات التي تناولها الطالب في دراسته لهذه الشخصية كما سبق وأشرنا إلى ذلك في العديد من المقالات، ولا يخفى على الباحث الناقد من وراء هاته التحديدات المعرفية من تركيز على الجانب الانتظامي اللاسكوني وإقصاء للبعد الصراعي الدينامي في البحث العلمي الموضوعي، لأن الاختلاف والقراءة التأويلية العالمي هو ما يعطي للذات الباحثة قدرة لمساءلة ما هو ثابت في ضوء المنجزات العلمية والفلسفية الحديثة، ويدعو الباحث ادريس إلى تخلص المقاربات والمقولات القديمة المتمثلة في الثنائية والمادية، معتبرا إياها فرضيات على نحو سابق على خلق النظرية، لذا سيلقى هذا المقال نجاحا واسعا بسبب حرص الباحث على إيصال أفكاره بلغة مخالفة تحاول مخاطبة القارئ المتفتح والمتنور دون أن تخل بكبرياء العلم مقدما فهمه الجديد المستند إلى عدة تأويلات توفرها المناهج لأجل بناء رؤيا تتلاءم مع شروط الفعل النقدي المعاصر، وتحية لكل قارئ يستنطق الذاكرة العاملة لتأسيس برامج لتقوية الأداء القرائي، وتطوير مهارات بيداغوجية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *