إنجاز: د الغزيوي أبو علي / باحث
دة بن المداني ليلة / باحثة
إذا كان الشاعر يحمل معاناة الإنسان والعصر والفوضى، فهو الذي غير وجه اللغة الواقعية مرتدية لباسا رمزيا وأسطوريا، عارضا براعته اللغوية والفكرية التي تنم عن قوة محاكاتية، واجه المجتمع الارستقراطي بلغة جدلية تربط بين الفكر والواقع وترفض كل رؤية لا تتساوق مع شعار الدياليكتيك، فالإنسان لابد أن يعي كينونته داخل الأصل، وأن لا ينطلق من خارج الذات لكي يكون مقيدا للأوامر والنواهي، فالشعر إذن هو فن مرتبط بالإنسان داخليا وخارجيا، لأن الشاعر هو ذلك الإنسان الذي لا يستسلم بالسهولة، بل يفكر في المؤجل، لا يعرف الحامل للحكمة والعقل فالعاقل لا يقترب إلا من شظايا الحقيقة، لذا فالجنون ليس مرتبطا بالعالم، وبأشكاله الخفية والسردية، بل هو مرتبط بالإنسان بضعفه وأحلامه وأوهامه، ولم يعد المجنون بالقارة المعرفية بل يندس داخل الذات الإنسانية لذا لم يعد المجنون فرجة، ولا مرض عضوي ولا إرادي، بل هو الذي يتعال على ذاته لمعرفة من يتحدث داخله، وكيف يتلاءم مع المألوف والمفروض، ويرحل وراء الخيال ومتجذر فيه، لأن الشاعر يمنح للصورة طابعا عفويا وحقيقة كليانية وهذا ما يجعلنا نعيش اللذة والنشوة لأننا نختلط مع الجنون ومخيلة المبدع، فهذا الشعر المتسم بالوعي المتيقظ للمعرفة التي تدمجنا في الجحيم، فالحفر والتنقيب في الجنون هو الإدراك اللامقروء في الخطاب، وتأسسه قطيعة مع الثابت بكل خباياها وأسرارها وانتشارها على مستوى الركح، وحيث يوجد الجنون توجد المعرفة والسلطة، فهذه الأخيرة هي التي تعطي جسدها للقارئ، فالأطباء يرفضون هذا الصمت الجنوني لأنهم يعرفون أن الحقيقة، فالمجنون الشاعر هو الذي يحرر الذات من الفناء قصد الكشف عن القدرة الداخلية التي تحتوينا وهذا ما أكده كانط بدوره أن قدرة العقل البشري قادر على التفكير إذا ما تحرر من الخوف، وليس معنى أن نعيد تاريخ ذواتنا في الشعر للماضي كقربان، بلا جذور، بل أن نتساءل عن معنى الجنون في القصيدة وفي الذات، والفكر والإدراك والوعي والوجود، والموجود، فهذه المفاهيم ليست سهلة التوظيف بل تبقى التعرية المتراكمة وهي السبيل الوحيد لمعرفة من يتحدث في القصائد وفي دواخلنا ووجودنا وإن القلق الأنطولوجي والرضى هو الذي يحولنا إلى مبدعين، إذن فاحتحام المحارم الذهنية وبعثرتها في تربة الشعر لكي تتعرض للنور لتهتز العادة والتقليد، وليس سهلا علينا وعلى الشاعر أن نفهم المجنون سواء في السجن أو في الصمت أو في العيادة أو في السادات، أو في الخيال أو في أرواح الوادي التي لا تموت لأن الدخول إلى الجنون هو انخراط في المتون الشعرية كعالم بلا خرائط، لذا يتطلب منا الجرأة لذا التي توازي جرأة الشاعر الذي يتصارع من أجل البقاء وتفكك كل الروابط مع المجهول والمنسي، لأن الكشف عن عالمه الثابت أو المنفصل والمتعالي يفرض علينا فتح المجال إما للذاكرة أو للاحتمال الشفوي أو للتوقع قصد تقديم قضاياه للبث فيها له خطوط يجب عدم محوها لخصوصيتها وتفردها بسبب عوالمه المنفلتة من التعريف، فالشعر والخيال والتاريخ عنده ليس نتاجا لغائية موحدة، وإنما لغائيات غير متوحدة يتعين عليه عدم احترام خصوصية المجتمع، وهذا اللاتجانس عنده هو ليس هروبا رومانسيا ولا إقصاءا بل موقف من الوجود والإنسان وهذا الإقرار هو القانون والممر نحو الأفكار قصد الوصول إلى التقديس، فالحماسة الذي يشعر به الشاعر هو أحد شكليات الشعور الجليل كما يرى كانط (جان فرانسوا ليوتار “الحماسية – النقد الكانطي للتاريخ” – تر ،نبيل ص54)، إذن فالشاعر المجنون رجل الحكمة لأنه يمتلك الحقيقة، بينما العاقل لا يعرف إلا شظايا منها فقط، فهو دائما مرتبط بالعالم وبأشكاله الخفية والسرية، يتحول من مكان إلى مكان، يردد كلمات لا يعرفها إلا الراسخ في المجون والزيف، وهذا التأمل التاريخي والسياسي ليس له حقيقة واقعة في الظواهر وحدها، في حد ذاته، بدأ أن الشاعر يتجول في شعره بقناع في بلدته الشعرية وتحولت معه الحياة المفترضة والمتضمنة لتتحول إلى أرض قاحلة جرداء، أهل التلقي إلى محاصيلهم بلون حزين والشاعر ينتظر أن يأتي الأب الناقد أو لا يأتي، فهو الحامل للأيام والأحلام يقول قديما كان الناس لا يدخل عقولهم فكرة القحط، ولكنهم كانوا يطيلون النظر إلى البيدر وإلى الحقل، ويطيلون الحلم ويطيلون الحصرة ويتخيلون وينشؤون في الخيال مزارع ومحاصل، كما يرى البياتي، هو التفاعل من خلال تقنيات يمكن أن تتخذ شكل حوار داخلي وخارجي، لذا نجده يتحدث مع ذاته ومع المحيط به، ووعيه بقدراته وحدوده لذا ندرك أنه يتحاور مع الآخرين من منظور فينومينولوجي لكي يتخذ وعي المرأة طابع متعتيا وأدوارا متبادلة بين كل الأعضاء كوحدة اجتماعية، ويأخذ هذا النمط الاتصالي من التطور عنده حقائق بارزة في سيكولوجية الاتصال كحقيقة بأن الاتصال يعمل كأساس وجوهر للعلاقات الإنسانية بكل أنواعها لذا تعتبر هذه العملية القناعية بين الشخصيات كعملية تواصلية وذلك يحكم أنها تركز على علاقة الشاعر بالمحيط الاجتماعي، فهو الحامل للمكان، والراحل بنا في المستحيل وفي الممكن، فإذا كان التواصل الإنساني يتميز عن باقي الأنواع التواصلية، وذلك باعتماد على آلية معقدة ومتنوعة وهي اللسان وهو موضوع اللسانيات، لذا تعتبر من بين المناهج الحديثة التي تجاوز الفيلولوجيا، عارضة براعتها النوعية التي تنم عن عملية لازمة للحياة الاجتماعية، ويقول الخيلز في هذا المقام <<الاتصال حاجة اجتماعية فرضتها ظروف التطور>>، وانطلاقا من هذه المنظومة الفكرية فإننا في العوالم الشعر واجدون أن الإنسان هو الذي اخترع الطباعة، ودور النشر والتلفاز والكمبيوتر، والتقنوية الشيء الذي جعله يتفاعل معها وداخلها الشيء الذي أدى إلى توليد رؤى مختلفة سواء في متونه على المستوى البناء أو على مستوى التحليل، لذا اتخذ التواصل طابعا معجميا له علاقة بين شخصين أو شخص وشيء، فالتواصل هو إخبار بالحدث من طرف المرسل إلى المرسل إليه، وهذا الأخير لابد له من إنسانية، علاقة الذات بالآخر كما يقول كولي cooly، فالتواصل هو الميكانيزم الذي توجه العلاقات الإنسانية وتتطور وتتحول تبعا لسنة التوظيف وقانون الممارسة الاجتماعية، وتختلف التصورات بصدد مفهوم التواصل حسب التوظيف الشعري، باعتباره يتحدث عن معاناة كمرآة وكظاهرة تواصلية، يحيلنا إلى تلمس إمكانيات فهم هذه الشخصية الأنثوية التي تناولت معاناتها بالتنظيم، وهذه الشكلنة المنظمة تتأسس على أشكال الخطاب وكيفية مروره في عملية سيكولوجية التواصل الشعري والدرامي، هكذا يمكن أن نتحدث في إطار النموذج عن كون الخطاب التراجيدي الشعري اليوم يشكل تغذية راجعة، كما يمكن أن نتحدث كذلك عن مجموعة من العوامل الحاضرة على مستوى التأويل والتي لا يمكن محوها عندما نريد دراسة التواصل الشعري، لأن هذا الأمر هو ما يميز النموذج الشعري المأساوي لأن الشخصيات تبقى مرتبطة بأسئلة ماذا تقول؟ ولماذا أوصلت إلى هذه الحالة؟ وبأية وسيلة؟ ولأي نتيجة؟ فالأسئلة الشعرية النسقية تحاول أن تأخذ بعين الاعتبار أيضا مختلف المتغيرات التي تحدد طبيعة العناصر التي لا تتحدد العملية التواصلية إلا من خلال المرجع.
إن التصور التراجيدي الشعري بهدف إلى تخاطب شعور المتلقي واهتماماته، بحكم أن الاتصال يأخذ أنماطا متنوعة بتنوع الموضوع المطروح، وكذا حجم الشعر الموظف للشخصيات المتواصلة، ونوعية المواضيع المطروحة على الركح، إذن فالشخصيات المقنعة هي الموصوفة بكل معاناتها السيكوباتية فهي المرتبطة بالجسد اللفظي على مستوى اللغوي وتتميز بالتفكير والسلوك والقدرة على المثابرة على نهج واحد لمدة طويلة، بل أن الشاعر فاقد لوعيه بسبب براعته الفكرية والشعرية التي يتسم بها في عالمنا لأن الدافعية والطموح يصبح غير عالة على غيره بسبب نبغه وعدم فشلهم في العمل والمؤول، لذا يحاول الشاعر المجنون باكتشاف قوانين التفاعل الاجتماعي بين الشخصيات الشعرية كتنشئة اجتماعية واهتمامات نفسية للشخصيات، فالذات الشعرية الممسرحة تشيد نفسها كخطاب يعبر عن نفسه في نسيج لغوي وكعامل يتفاعل مع الآخرين ومع العالم الخارجي، من هنا يكتسب هذا الموضوع المأساوي في الشعر أهمية خاصة، إذ هو واحد من أهم التيمات التي تندرج في إطار تأملاته حول المعرفة البرانوية، وهذه المعرفة هي مرحلة المرآة اللاكانية التي جعلت الذات الممسرحة في علاقة العالم الداخلي للإنسان بالعالم المحيط، فالشاعر يحمل الكون في تركيبته الاستعارية حتى تصبح القصائد عبارة عن مدونات جوانية التي تعمل على هدهدة القارئ واستفزازه في متخيله.
لقد وطأ الشاعر أرضية الكتابة، لكنه استطاع أ يبرز كتابته وسط الساحة الأدبية والإبداعية، داخل عالم الكلمة، كوسيلة للدفاع عن حقوقها وتحقيق هويتها الأنثوية.
فالكتابة هي مواجهة المجتمع أي سلطة الواقع والأدب، فاتخذت مسألة التحرر والانعتاق والتعبير عن الذات والحفاظ على الذاكرة التاريخية واسترجاعها كمنهج لكسب رهان الكتابة.
بهذا المعنى فإن “الكتابة مشروع للتخلص من ركام قواعد الصنعة والمواصفات التقليدية، إنها مغامرة بحث عما يشكل علاقة الكاتب بنفسه وبالمجتمع والكون: فأن تكتب معناه أن تنتقل من قراءة تقبلية إلى أخرى تأسيسية تكتمل عندما يتحرك النفسي باتجاو الكوني” (حسن مسكين: مناهج الدراسات الأدبية الحديثة – من التاريخ إلى الحجاج-، مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر، ط1، 2010 بيروت، ص9 – 10.
فالحديث عن الجنون والكتابة ليس بالأمر الهين والسهل، بل هو عالم مغلق بالعديد من المسائل ووجهات النظر، فكل من (الكتابة) والجنون يشكل موضوعي وجدلي قائم بذاته، لأن العلاقة بين الجنون والكتابة في الحقيقة هي إشكالية تاريخية حضارية عامة تنبئ بكثير من التحولات في التصورات والخطابات” (سعيدة بن بوزة، الهوية والاختلاف في الرواية النسوية في المغرب العربي، بحث لنيل شهادة الدكتوراه، العلوم في الأدب العربي الحديث، إشراف الدكتور الطيب بودربالة، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية للتعليم العالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية 2007 / 2008 ص64).
فأن يكتب المجنون معناه الخروج من شرنقة الصمت والبوح بما خزنته ذاكرته الواسعة، الشرنقة التي حوصرت فيها منذ سنين أزلية، إذ كانت ولادته بمثابة حظ يسحر القلوب ويطرب الأذن، فالشعر هو تجاوز للمألوف وانخراط في الممكن، لأن المهمة الجديدة للخطاب الجنوني هو تعيين مفاهيم تفكر في الانفصال في المركز، كالتحول مثلا أو القطيعة أو الفصل، فكان من وراء ذلك هو التحول الفكري الذي أحدث تصدعا في بنية السلسلة المفاهيمية التي يرسمها الفكر المركب دون تطور ولا تحول، فكان من اللازم أن نعرف أن التحول لا يتم كليا، بل عن طريق استقراء بعض النماذج العربية التي لا زالت تعيش مفهوم الموت الرمزي لم تستطع أن تتخلص من هذا الناموس من أجل بناء مفهوم الديمقراطية والإنسانية الشعرية ونتيجة أخرى أن هذا التحول في جسم المسكوت عهن لا يستغل إلا من طرف الشاعر معتقدا أن الهامش في تربه الكلاسيكي يرفض التفكير في الانفصال معتقدا أيضا أنه يظهر في أشكال ،دمية مبعثرة رغم مبادرات فردية، أومهما يكن من إمر فلا يتم أقصاء الهامش ، أو الانفصال عنه كعلامة التشتت الزمكاني، لأنه أصبح عنصرا مهما في تحليل التاريخ وفي بناء الحقيقة من التخلف كفعل منظم وكعتبة منظمة وليس كلحظة خلل عمل دائري مغلق كما نرى في أشعار أدونيس، وصلاح عبد الصبور، والبياتي ومحمد بنيس، ومحمد الأشعري وغيرهم، وذلك بلغة انزياحية، لأننا لا نرى في هذا الواقع العربي إلا الخنوع والخضوع، لذا يحاول الشاعر المعاصر مرارا أن يخاطب الذاكرة، والشعور كما يفعل أدونيس لتأسيس هذه الأنا الواعية، والحاملة لأوراق الإبداع، تنتظر من يجني ثماره، ويتلذذ بحلاوته، هذا كان ولا يزال محمود درويش في شعره عبارة عن بندقية مفتوحة قابلة للاغتيال، وللتمرد، وللتحرر، ومهما يكن فالشاعر العربي المعاصر غاير المألوف، وخلق قارة شعرية ضمن القارات الإنسانية، فوسع ضفاف شعره ومداركها، وأبدع تاريخها، وذاكرتها، جاعلا من هذا الجنون الشعري عبارة عن عقلانية جديدة لا تخاطب أهل الذكر وأهل المعرفة الباطنية كما تقول المتصوفة، فالبحث الجنوني في دواوين الشعراء تظل العبقرية عتبة عليا لتكون هذه الذات المقهورة، والمنكسرة، تخترق بالمنفى وبالاغتيال الرمزي وبالشهادة كما نرى عند درويش ويقول أحد النقاد <<إنه يختار من بين أحداث التاريخ الممتد من آدم وزمن الأنبياء، ومرورا بالغزاة الذين تعاقبوا من تتار وهكسوس ويونان ورومان حتى الغزو الصهيوني، لذا يختار الشاعر المهووس بالمغايرة وبالمغامرة في توليد وتجديد أحداثا بعينها، أو بمعنى أدق يختار صورا شعرية استعارية تحيل إلى أحداث ويوظفها لإعادة بناء الذاكرة>>، (إضاءة النص – اعتدال عثمان – ص151)، فالشاعر المعاصر يتفاعل مع الواقع بشكل أفقي لكي يرتبط بالفرد وبالجماعة وبالخيال كذات وكجماعة، وبالتالي فإن الشاعر المهووس بالجنون في اتصال بالفرد بالآخرين لأن نظام علاقاته بشعره جعله يهم يتحدد بهذا المنظور الفينومينولوجي للاتصال، كما يتحدد أيضا بالواقع الشعري الاجتماعي للأفراد، فهذا الاتصال الجنوني بين الفرد والآخرين ينمو عند الشاعر من العلاقات الاتصالية.
إن الكتابة هي مواجهة سلطة الواقع، ونقل للمألوف، يجعل تراثنا الشعري العربي المعاصر من الممارسات التي تعيد بناء الذات الشاعرية العربية، وممارسة عقلانية في ظل فشل مشروع الإصلاح والنهضة التي حاول الشاعر العربي فأدونيس في إعادة صياغته، إذن يبحث هذا المقال في إشكالية الإبداع المرتبط بالجنون وبالتحديث ليكون بنية فكرية ومجتمعية التي أعاقت الدخول في عصر الحداثة، إذن فالشاعر المتسم بالجنون يريد أن يحرر الذات المنكسرة من أسر التخلف ليقوم الاعتماد على الخيال والجنون والمغايرة، والفداء (السياب) والتحول أدونيس (وأيضا الانتصار – البياتي) والتمرد (درويش) والحزن (صلاح عبد الصبور) والتحديث (محمد بنيس)، فهذه الثلة من الشعراء جعلوا الإبداع لغة مضاعفة لكي يتخذ طابعا حداثيا لبناء الحرية والعقلانية والمشترك في بعض المواضيع لكل واحد وسيلته وطريقته في معالجة وبناء العمل الأدبي الخاصة الروائي، فالشاعر يجد نفسه منطلق وهو يكتب بعيدا عن كل حجر وإحساس بالدونية أو بالمنع المجتمعي وفي الوقت الحالي يلفت الانتباه لوفرة عدد من الأجناس والأنواع الأدبية والفنية التي تعقلن النصوص كبعد إيحائي.
فالاختلاف في الشعر هو اختلاف يتجاوز الناحية البيولوجية والنفسية، فهو يتجلى في الفضاءات والمجالات التي تتعلق بالفرد وبتعلقه هو الآخر بها بنحو ما وبطريقة تميزه كشخص يحمل تجربة حياتية مختلفة ومتنوعة، فهو الذي يقدم الرؤيا وليس الأفكار الشيء الذي يسمح لنا السياق، إذا، بالقول إن الكتابة هي إضافة متميزة للأب، حيث امتلاك لإمكاناتها وأدواتها ووضوح الرؤية والهدف، وغالبا ما يميز الكتابة في الإبداع هي معالجة الموضوعات والقضايا الكبرى والقضايا الخاصة الذاتية.
وعليه، فقضية الجنون الإبداعي هي في الكتابة الشعرية باعتبارها تكتب عن مواضيع متنوعة وتدور حول كينونتها من حيث تفكر وتحس وتغضب وتعشق وترفض لاصطدامها بسلوك الآخر فهي قضية مفتعلة وجانية تمتص الكثير من جهد الإنسان في المجتمع وتخلف صراعات هامشية بين الأفراد والمجتمع، لأن الشاعر المبدع يحس بالأشياء التي لا نحسها، ويرى العالم غير العالم الذي يعيش، فهو المصلح والذي يخاطب الحواس والعقل تقويما جماليا وروحانيا، وإبداعا شعريا على صدى الحياة، فهو كما قلت المقوم والمختلف والمتنوع في محيط الشعر، لأنه ينفلت من الوعي البسيط لينقلنا إلى الوعي المركب كما يقول إدكار موران، رغبة في اختيار التيمات كمعايير تمثيلية ودينامية نظرية حيث انصب الاهتمام على ترجمة الأعمال المرجعية بالنسبة إلى المفاهيم المركزية التي ينبني عليها جسد الشعر وخاصة باللغة الإبداعية والشعرية وليست علمية كما يرى كوهن في كتابه “بنية اللغة الشعرية” فالشاعر المعاصر ينزاح عن المألوف ليعطى لهذا الجنون الإبداعي مسارا توليديا في جانب التركيب الإيقاعي والدلالي والتركيبي، كما تعد هذه الرؤيا هي الموجه الجوهري لاختيار التأسيس ليكون نصا كبيرا.
إذن فالحوار مع الجنون الإبداعي هو تثاقف مفاهيمي لبناء نهاية مفتوح، ذلك على الرغم من تداولها بشكل أو بآخر داخل مختلف الثقافات الشعرية، إلا أنها في هذه اللحظة تولدت مقاربات وتصورات متنوعة بلغت على مستوى التضارب والتناقض بين الشعراء المعاصرين، ومهما تختلف الآراء في فلسفة الإبداع الجنوني قبولا ورفضا، فإن تلك الآراء الشعرية جميعا لتلتقي عند نقطة يتفق عليها القابلون على أرضية الإبداع الشعري، من هنا يأتي السؤال التالي من أين يأتي الشاعر بالشعر؟ وكيف يكتب قصائده؟ وكيف يمارس جنونه الإبداعي؟ وكيف نفهم هذا الشعر؟ ولماذا ننفر من الشعر الجديد؟ أسئلة كثيرة جعلتني أعيد النظر في هذه الأسئلة لتكون تثمينا ليجد القارئ العربي ما يحتاج له.
فالقارئ إذن يبحث في كيفية إبداع الشعر، ويجيب عن هذه الأسئلة التي طالما شغلت أذهان القراء والأدباء بصفة عامة، تلك الأسئلة التي تدور حول الإلهام والعبقرية والصناعة، ولق حرضنا على أن نقيم بدراسة على أساس من الملاحظة الذوقية والحواسية وصولا إلى التأمل والتأويل كإجابات عن القضايا الإنسانية الهامة، كالصلة بين الشعر والوجود، والصلة أيضا بين الشاعر والسلطة، ومستقبل الشعر عامة كصورة من صور التعبير الفني والجمالي، ومستقبل الشعر الحر بوجه خاص، كما تناولنا بالتمحيص بعض القضايا المنهجية الجوهرية وخاصة تلك القضية التي تدور حول مدى صلاحية الشعر في تغيير أذواقنا وثقافتنا التافهة المبثوثة في مواقع التواصل المعلوماتي.
إذن يحتل الإبداع الجنوني موقعا مركزيا في الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية والأنتربولوجية التي تندرج في مجالات تحليل الجنون الشعري، ونحو الشعر ولسانيات الشعر، حتى إننا لا نكاد نجد مؤلفا ينتمي إلى هذا المجال سوى كتاب فوكو “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، وبعض كتابات غريبة كغريك، ورانك، وفرويد ونيتشه، وغيرهم، وهذا المقال لا يدعي الأسبقية، بل يحاول أن يطرح الشعر ليكون لغة التواصل والتخاطب ويكن حلقة قصدية إبداعية، لأن هذا الاهتمام ينقلنا من سياق الكلام إلى سياق مخالف ومنسجم، ويرحل بنا أيضا من التلقي البسيط والسطحي إلى العلاقات الخفية التي تنظم النص الإبداعي الشعري.