كل كلام الناس قد يُساء فهمه ، وحتى صمتهم معرض لسوء الظن الذي يشكل أسوء مسافة بين شخصين وأخطرها على علاقات الناس ، حيث أنه في ما بين أي مقصود لم يُنطق وأي منطوق لم يُقصد ، تسكن التفاصيل التي ليست مكمن الشيطان فقط ، كما يقال ، بل لكونها هي المارد او التنين الذي يغلق نوافذ التواصل بين الناس ، ويصع الحواجز بين الأهل والإحبة ، ويضيع سبل المودة والتفاهم ، وتشيع أحاسيس الكراهية التي تقطع الأرحام . ورغم أنه من البديهيات الأولية : “أن الإنسان سيد ما يخفيه وأسير ما يفشيه ” و “أن صدقه وصراحته لا يكسبانه الكثير من الأصدقاء” ، فإن الكثيرين يستميتون في إثبات عكس ذلك لأنفسهم قبل غيرهم ، ما يتحمِّلون من اجل ذلك اوزارا ثقيلة وهموما بالغة تسرق متعة حاضرهم ، وتصادِر أحلام اليقظة لديهم ، وتقطع نياط ذكرياتها السعيدة ، دون أن يستفيدوا منها في تحرير شيء مما بدواخل قلوبهم وعقولهم من مشاعر الإحباط المرير والفشل المزمن ، أو في الحفاظ على كرامتهم، أو يحسين شكل مستقبلهم ، أو في الحد مما ألفوه من عوائد الشكوى والتبّرم من كل شيء ، والتي غدت جزءا من طباعهم البائسة التي ولّدتها ظروف تربيهم وتعليمهم وحتى جيناتهم المصابة بالأمراض الصغيرة المتفشية في وعيهم الشقي البائس المشبع بصلافة المعرفة والنضج السالبين اللذين يعطيانهم مبررات مواصلة “تثقيف” الوقوع في الأخطاء بشجاعة أكبر ، واقترافها بلهفة اعظم ،و رفض قاطع للاقتناع بالتفسيرات الأكاديمية والبراهين الرصينة التي تصطدم بمقاومتهم الخفية العنيدة التي يعود قدر كبير منها للاحجام الشديد عن التغيير، الذي يتجنبوه بقوة ويقاوموه بشدة حتى لو كان تغييرا للأفضل ، لمخالفته لكل ما جبلوا عليه من مألوف الاعتيادية ومعتاد الجمود، الذي يرهن تقدم الدولة والمجتمع.. وبعيدا عن اتفاقنا مع هذا الطرح أو اختلافنا معه ، فإنه ، و في كل الاحوال يبقى ذلك الاحجام باب من أبواب الثقافة السالبة ، التي من الصعب إقناع اصحابها الذين أعتنقوا معتقداتها عبر فلسفة ومبدأ القطيع ، بزيفها من خلال البراهين -المثيرة لديهم للنفور-التي من المفروض أن يُستعمل فيها العقل والفكر استعمالا تاما ، بعيدا عن التعصب اللامنطقي لثقافة القطيع ،التي لن تكون بأي حال من الأحوال ثقافة تقدمية حضارية لما له من دور ايجابي في رفع الوعي المجتمعي، والمساهمة الواضحة في تطوير المجتمع وتأهيله كي يكون مواكبا للمجتمعات المتقدمة..