سنة 1857، نشر شارل بودلير ديوانه أو عمله الأهم على الإطلاق: أزهار الشر، وهي المجموعة الشعرية التي اشتغل عليها بودلير على مدى خمسة عشر عاما، والتي تتضمن ما يقارب المئة والخمسين قصيدة، هذا العمل الشعري الثوري، الذي قَسَّمَهُ شارل بودلير إلى ستة أقسام هي على التوالي: “السأم والمثالية”، “لوحات باريسية”، النبيذ”، “أزهار الشر”، “تمرد”، وأخيرا “الموت”، ويكفي أن نلقي نظرة على المعمار أو الهيكل الذي اختاره شارل لديوانه هذا، لنعرف أنه كان ديوانا خارج التصنيف الكلاسيكي، وحول اختياره لهذا البناء والتبويب، كتب شارل بودلير لصديقه الكونت “ألفريد دي فيني”:
“إن المديح الوحيد الذي أود أن يتلقاه هذا الكتاب، هو الاعتراف بأنه ليس مجرد أضمومة من الصور الشعرية، بل بأنه كتاب يحظى ببداية ونهاية متصلتين”.
إذن، بالنسبة لبودلير، كان يتعين على من سيقرأ أزهار الشر، أن يقرأه بالترتيب الذي حدده له من خلال الأقسام، حيث إن كل الأشعار الواردة فيه تتبع خيطا ناظما محددا، ومن خلال تتبعه يصبح بإمكان القارئ أن يفهم فكر ورؤية الشاعر، الذي اختار أن يصور الصراع الأزلي بين الرب والشيطان، الجنة والجحيم، والملذات الجسدية والروحانيات، بعبارة أخرى، إن بودلير يتدرج من خلال تيمات/ أقسام ديوانه انطلاقا من السأم والمثالية، هذا القسم الذي يحتوي على أكبر عدد من القصائد، والذي يشكل عماد الديوان ويحتوي على كل التيمات التي سيتطرق إليها الشاعر في الأقسام الأخرى، إن الجزء الأول “السأم والمثالية”، هو بمثابة رسم لتأرجح الشاعر بين السأم، الأسى، الجحيم الأرضي الذي يعيش فيه المبدع، والحلم بحياة مثالية ملأى بالبهجة وخالية من السأم، لكن خلال رحلة البحث هذه، يعاين الشاعر “لوحات باريسية” تنضح بالألم، فيختار الهرب من بشاعة العالم غير العادل إلى “النبيذ” الذي هو بمثابة جزء من الجنات الإصطناعية الخاصة بالمبدع، كونه كما قال واصفا إياه: ” بلسم من أجل القلب المتضرر للشاعر”، في رحلة بودلير بحثا عن الفرار من الألم الإنساني والسأم اللصيق به، يهيأ له أن المجون والفجور إكسير مضاد لمعاناته، لكن مع ذلك، تتبرعم “أزهار الشر” في قلبه النازف، لذا، يصاب الشاعر باليأس، ويتسرب إلى روحه السخط، ومن هنا ينبثق “التمرد”، تمرده على الرب الذي خلق كل هذه المعاناة البشرية، ولم يعد يفعل شيئا حيالها، مما يجعل الشاعر يغني ويصلي لمجد الشيطان، ويدعوه للإشفاق على بؤسه المقيم، غير أن كل محاولات الشاعر تبوء بالفشل، ليصير الموت في نظره مرادفا للتحرر والخلاص والسلام الروحي: “أيها الموت، أيها القبطان العجوز، آن الآوان! فلنرفع المرساة!”.
لا ريب في أن شارل بودلير تنبأ بأن أزهار الشر سيكون عملا مهما وخالدا، غير أنه لم يتصور أبدا أن هذا الديوان/ اللعنة، سيتسبب له في محاكمة طويلة وفي الكثير من الألم، إذ بعد صدوره بشهر فقط، نشرت صحيفة “لو فيغارو” مقالا يتهم بودلير بانتهاك الآداب العامة والمس بالمقدسات، ومن ثم رفع المدعي العام على بودلير وناشره دعوى قضائية، وفق هذه الدعوى، كانت بعض أشعار ديوان أزهار الشر تنتهك الأخلاق العامة والدينية، في الواقع، كان مقال لوفيغارو الذي وقعه الصحفي “غوستاف بودان”، هو الذي أثار انتباه السلطات القضائية لهذا الديوان، كون بودان في مقاله/ محاكمته الرمزية لبودلير، حرص على فضح “لا أخلاقية وفجور” أربع قصائد هي: جزيرة ليسبوس، إنكار القديس سان بيير، نساء ملعونات (1)، ونساء ملعونات (ديلفين وهيبوليت). ومباشرة بعد مقال الصحفي “الأخلاقي” غوستاف بودان، كُتب تقرير مفصل لإدارة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية.
صدر قرار أولي بمنع ومصادرة نسخ الديوان، وفي العشرين من أغسطس عام 1857، مَثُلَ بودلير أمام المدعي العام “بينار”، نفس المدعي الذي وقف أمامه في وقت سابق بقليل من نفس العام، الكاتب “غوستاف فلوبير” خلال محاكمة روايته “مدام بوفاري”، لقد كان عام 1857 في فرنسا، عام المحاكمات الأدبية والمنع بامتياز، بحجة “انتهاك الآداب والأخلاقيات العامة”، التي لا تمت بأية صلة إلى “أخلاقيات الفن” المختلفة كما وضعها ودافع عنها بودلير باستماتة، لكن عكس فلوبير الذي تمكن من توكيل محام شهير، لم يستطع بودلير العثور على محامي دفاع مهم وجيد، كما أنه أصيب بخيبة كبيرة، بعدما لم يقف في صفه ويدافع عنه العديد من الأدباء المكرسين..
كانت أطوار المحاكمة غريبة وهزلية، إضافة إلى أن اختيار القصائد الثلاث عشرة التي منعت في البدء، كان يبدو اختيارا اعتباطيا، حيث إنه تم تجريم كل من: إنكار القديس بيير، ابتهالات الشيطان، قابيل وهابيل، ونبيذ القاتل، بتهمة إهانة المقدسات، فيما أدينت تسع قصائد بتهمة انتهاك الآداب العامة، هذه القصائد هي: تحولات مصاصة الدماء، لكن دون إشباع، إلى تلك المبتهجة للغاية، السفينة الجميلة، المجوهرات، إلى متسولة صهباء، نهر الليثيه، جزيرة ليسبوس، وأخيرا نساء ملعونات (ديلفين وهيبوليت).
خلال المحاكمة، طالب المدعي العام “السيد بينار” بإنزال عقوبة نموذجية ورادعة، من أجل ” حماية الأخلاق المسيحية الرفيعة التي هي أساس متين لكل الأعراف المجتمعية”، من اللافت أن “بينار” لم ينكر أن بودلير أراد عبر “أزهاره المسمومة”، التحذير من الشر المتربص بالإنسان، لكن حسب قول هذا المدعي/ الوصي على الأخلاق: “بما أن الناس ضعفاء، مرضى بدرجات متفاوتة، ويحملون وزر السقطة الأولى للجنس البشري من الفردوس، فإنه من المحبذ أن “نحميهم” ونحصنهم ضد هذه اللوحات الفاحشة التي ستقوم لا محالة بإفساد أخلاق أولئك الذين ما زالوا لا يعرفون شيئا عن الحياة”.
أما محامي دفاع بودلير، فإنه لم يكن لامعا، لقد حاول تبرئة موكله عبر مقارنته بأسلافه المبدعين، مثل دانتي الذي صَوَّرَ الجحيم والعالم الآخر والرب بحُرية كاملة في “الكوميديا الإلهية”، وختم مرافعته غير الناجحة بقوله: “إن إثبات الشر لا يعني الموافقة عليه، إضافة إلى أن إدانة بودلير تعني إدانة العديد من المؤلفين المعاصرين، أمثال بلزاك، غوتييه، ساند، دي موسيه..إلخ..”
صدر الحكم واستبعدت المحكمة تهمة “المس بالمقدسات”، واسْتَبْقَتْ جنحة “انتهاك الآداب العامة”، معبرة عن استنكارها للأثر الكارثي الذي تخلفه اللوحات التي قدمها الشاعر للقارئ، لوحات ستؤدي حتما إلى إثارة حسية للقارئ عبر أسلوب بودلير الواقعي الفظ الذي يخدش الحياء العام، في النهاية، لم تمنع سوى ست قصائد هي: المجوهرات، نهر الليثيه، إلى تلك المبتهجة للغاية، جزيرة ليسبوس، نساء ملعونات (ديلفين وهيبوليت) وتحولات مصاصة الدماء، لتظل هذه القصائد ممنوعة لعقود طويلة..
لم يستأنف شارل الحكم، واكتفى بالتماس إعفاء من الغرامة التي حكم عليه بها، أما ناشر الديوان الملعون، “الذي ارتكب كناشر خطأ الاعتقاد بأنه قوي بما يكفي ليواجه الاشمئزاز والاستنكار الشعبي” حسب قول بودلير، فقد حكم عليه بحذف القصائد الست من الديوان، لكن بودلير عاد للاشتغال عليه، لتصدر الطبعة الثانية من أزهار الشر عام 1861، بعدما أضاف إليها الشاعر خمسا وثلاثين قصيدة.
إن محاكمة أزهار الشر حافلة بالمناطق الرمادية والتساؤلات التي ظلت بلا إجابة، مثل: لماذا تمت محاكمة مجموعة شعرية كان من الأرجح أن تحدث انقلابا في مفهوم الشعر الحداثي آنذاك، ولمَ تم منع ست قصائد كان من المحتمل أن تمر مرور الكرام، بينما لم تمنع قصائد أكثر جرأة منها، ولماذا تم التنكيل بشارل بودلير دونا عن سواه، ليُحرم من تحقيق حلمه برؤية ديوانه يصدر كاملا، دونما منع أو حذف، خلال حياته.
ترى هل كانت جريمة بودلير هي طموحه لتحقيق مجد أدبي يخول له الخلود، عبر الغوص في هاويات الشر واستخلاص الجمال من قبح الحياة والبشر؟ للأسف إنه لم ينجح وهو على قيد الحياة سوى في الحصول على “مجد” التعرض لسوء الفهم والتأويل، وإثارة الرعب في نفوس أولئك الذين أجاد رسم حقيقتهم البشعة في لوحاته الشعرية القاتمة، الساخرة.
#أزهار_الشر
#شارل_بودلير
#سلمى_الغزاوي