حميد طولست
أصبح الإنسان في هذا العصر ، معرّضا بكثرة لأنواع مختلفة من الضغوطات ، وأكثرها تأثيراً ضغوطات الروتين ، التي تلجئ تأثيراته الناس للسفر بعيداً عن أجوائه الرتيبة والمللة ، أملاً في أن يجدوا الراحة النفسية والجسدية، ويعودوا بعدها محملين بالطاقة الإيجابية الكفيلة بمدهم بقوة مجابهة ما كانوا فيه وعليه من أحوال سيئة ، لكن ، وللأسف، سرعان ما تتبدد تلك الطاقة ،فيشعرون بالحاجة لتجديدها ، ويعلو حينها صوت السفر السحري الكامن بدواخلهم، يدعوهم لترك جميع الأشخاص والأمكنة والمعتقدات والمسلّمات والسياسات والحكومات ووسائل الإعلام، وكل الأحكام المسبقة التي أفقدتهم الأمل والإنسانية ، والانطلاق في سفريات أخرى يستعيدون بها طاقة الأمل .
المغامرة التي قد تصيب الكثيرين بالتعود على التنقل بين البلدان وفي فترات متقاربة ، ما يجعل السفر عادة ، تتحول إلى إدمان ، لا يختلف عن أي إدمان قد يصيب الإنسان ، رغم تكلفته المادية الباهظة الموزعة بين كلفة تذاكر الطيران وأثمان الإقامة إلى جانب الإرهاق الجسدي الذي يتسبب فيه للمسافر، وغيرها كثير من التحديات التي يحملها السفر في طياته ، والتي يمكن التقليل من سلبياتها ، بالتخطيط والاستعداد المسبق ، والتحضير الجيد ، والتجربة الناضجة التي تمكن المسافر من الاستفادة القصوى من إيجابيات السفر وفوائده العديدة على الصحة النفسية والجسدية ، إلى جانب الكم الهائل من المعلومات التي يمكن أن تعلمها المسافر عن العالم ، أكثر مما يمكن أن يتعلمه عنه من قراءة الجرائد وما يمكن أن يسمعه أو يشاهده في نشرات الأخبار ، والتي يمكن أن تخلق لديه التوازن ما بين الحكمة والعاطفة، وما بين الرؤيا والإحساس، لأن حاسة السمع وحدها لا تكفي للتعرف على عوالم الآخرين، ولا حتّى الرؤيا إن لم تكن مصحوبة بالإحساس- إذ يقولون- بأن السمع من دون الإحساس هو فعل لا مبال ، بينما الإحساس من دون الرؤيا فهو فعل أعمى ، لا يمكن لأحدهما أن يهدم الأصنام التي بناها المسافر في ذاته ، كما قال شمس التبريزي: “الأهم من سفر المكان سفر الوجدان بداخلك، فما نفع تبديل الأماكن وأنت أنت!”، القول البليغ الذي يحث من خلاله شمس التبريزي المسافر على البحث عن التحول الداخلي العميق كأولوية قبل التفكير في الرحلات المادية ، لأن التطور الحقيقي يأتي من داخل الإنسان ، والذي أسماه التبريزي بـ”سفر الوجدان” أو “الرحلة الروحية والنفسية” وليس من العالم الخارجي ، أي من خلال التنقل المادي من مكان إلى آخر ، والذي يقصد به شمس أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل المسافر، وليس فقط من تبديل الأماكن التي لن يكون لها أي جدوى في تغيير نفسية وأفكاره ومشاعره المسافر ، ولا تجعله أكثر إدراكاً للأمور ومجريات الحياة، ولا تمنحه مهارات تواصل جديدة، ولا تساعده على التعرف على ثقافات متنوعة ومختلفة ، وتبقي دواخله كما هي ، لا تجد معنى حقيقيًا أو نموًا في حياته مهما غيّر أماكن وجوده.
وبمعنى آخر ، لأنه عندما يأخذ أي مسافر افتراضاته وأحكامه المسبقة معه في سفرياته، فإنه حتما سينظر لكل شيء في سفره مختلف عن افتراضاته وأحكامه المسبقة ، بمنظور سلبي متشائم، يؤدي إلى رؤية مشوهة أو سلبية لمكان الذي يزوره في العالم ، فتتحول سفريته إلى وسيلة لتأكيد ما يعتقده مسبقًا ، وليس لاستكشاف الجديد الكفيل بتنمية شخصيته، بينما لو ترك المسافر وراءه افتراضاته وأحكامه المسبقة ، وفتح قلبه وعقله للتجارب الجديدة، فسيتحول سفره إلى رحلة اكتشاف وتعلم من الأشخاص والثقافات والأماكن المختلفة، ويعود منها بتجارب غنية توسع من رؤيته للحياة ، إلى جانب استمتاعه بعطلته وترفيه نفسه واستجمامها ..
وصدق من قال : الرحلات الجميلة، مثل الحب، تشوّش ذاتك وتتركك في مكان بين الخوف والدهشة