بدر شاشا
عندما نتحدث عن الجيولوجيا في المغرب، فإننا نتحدث عن رحلة طويلة عبر الزمن، تبدأ من أقصى الشمال في طنجة، وتمتد حتى أقصى الجنوب في الكويرة. هذه الرحلة ليست مجرد استعراض للجبال والصحاري والسهول، بل هي تأمل في تاريخ الأرض وتغيراتها، وكيف تفاعلت القوى الطبيعية لتشكل هذا المشهد الجغرافي المتنوع. المغرب، بموقعه الفريد بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وجبال الأطلس والصحراء الكبرى، يمثل نموذجًا جيولوجيًا مميزًا يروي قصة تطور طويل ومعقد.
في الشمال، حيث تقع طنجة، نجد أن المشهد الجغرافي يتميز بالتلال والوديان التي تشكلت نتيجة لتصادم الصفائح التكتونية على مر العصور. هذه المنطقة، التي تعد جزءًا من سلسلة جبال الريف، تشهد نشاطًا زلزاليًا مستمرًا بسبب تقارب الصفائح الإفريقية والأوراسية. تاريخيًا، كانت طنجة والمنطقة المحيطة بها جزءًا من القارة العظمى القديمة بانجيا، وعندما بدأت هذه القارة في التفكك قبل ملايين السنين، بدأت جبال الريف في التشكل، حيث ارتفعت الصخور القديمة لتكوين تلك السلسلة الجبلية.
بينما نتجه جنوبًا نحو الأطلس المتوسط، يصبح المشهد أكثر تعقيدًا. هذه المنطقة، التي تتميز بوجود بحيرات وجداول مائية، تحتوي على تربات غنية بالمعادن، نتيجة للتكوينات البركانية التي شهدتها المنطقة في العصور الجيولوجية القديمة. الأطلس المتوسط يمثل خطًا فاصلاً بين المناخين المتوسطي والصحراوي، حيث تلعب الجبال دورًا حاسمًا في تحديد أنماط الهطول المائي وتوزيع الغطاء النباتي. هذه السلسلة الجبلية، التي تتراوح أعمارها بين 65 و135 مليون سنة، تتكون من مجموعة متنوعة من الصخور، بما في ذلك البازلت والجابرو والحجر الجيري، مما يجعلها غنية بالموارد المعدنية، مثل الحديد والفوسفات.
بينما نواصل رحلتنا نحو الجنوب، نصل إلى الأطلس الكبير، الذي يضم أعلى قمة في شمال أفريقيا، جبل توبقال. هذه السلسلة الجبلية الشاهقة تعد جزءًا من نظام الجبال الأطلسية، التي تمتد عبر المغرب من الشمال إلى الجنوب. الأطلس الكبير، بتضاريسه الوعرة وشموخه، يعد شاهدًا على قوة الديناميكية الأرضية. هذه المنطقة، التي تشكلت نتيجة لعملية الاصطدام بين الصفيحة الإفريقية والصفيحة الأوراسية، تحتوي على طبقات صخرية تعود إلى العصور الجيولوجية القديمة، بما في ذلك الديفوني والكربوني، ما يجعلها مصدرًا غنيًا للمعلومات حول تاريخ الأرض.
وفي الجنوب، عندما نصل إلى سوس والأطلس الصغير، نجد أن المشهد يصبح أكثر جفافًا، مع تضاؤل الغطاء النباتي وازدياد الصحاري. الأطلس الصغير، الذي يمتد على طول الحدود الجنوبية للصحراء الكبرى، يتكون من سلسلة من الجبال المنخفضة التي تحتوي على صخور أركية قديمة تصل أعمارها إلى ملياري سنة. هذه الصخور القديمة تعرضت لعمليات تآكل طويلة، مما أدى إلى تكوين تضاريس منبسطة وشبه صحراوية. منطقة سوس، التي تقع في ظل الأطلس الصغير، تعد من أهم المناطق الزراعية في المغرب، حيث تسهم الأودية التي تنحدر من الجبال في ري السهول الخصبة.
عندما نصل إلى أقصى الجنوب، إلى منطقة الكويرة في الصحراء الكبرى، نجد أنفسنا في عالم مختلف تمامًا. هنا، تسيطر الكثبان الرملية على المشهد، وتقل مصادر المياه بشكل كبير. الصحراء الكبرى، التي تعد واحدة من أقدم الصحاري في العالم، كانت يومًا ما بحيرات وأنهار قديمة قبل أن تجف تدريجيًا على مدى ملايين السنين نتيجة لتغيرات مناخية هائلة. الكويرة، بأراضيها الشاسعة الخالية من الحياة تقريبًا، تمثل النهاية الجغرافية للمغرب، ولكنها أيضًا بداية لفصل آخر من التاريخ الجيولوجي الذي لا يزال يتطور.
التركيبة الجيولوجية للمغرب تعكس تاريخًا طويلًا ومعقدًا من التغيرات التكتونية والبركانية والرسوبية. هذا التنوع الجيولوجي جعل من المغرب منطقة غنية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك المعادن والفوسفات والنفط القليل. كما أن التربة التي تغطي هذه الأرض الغنية تعكس هذه التركيبة المتنوعة. في الشمال، تكون التربة أكثر خصوبة، حيث تشكل السهول الزراعية في الغرب مركزًا للإنتاج الزراعي في المغرب. هذه التربة، التي تشكلت نتيجة للأنهار التي تنحدر من جبال الريف والأطلس المتوسط، تحتوي على كميات كبيرة من المواد العضوية والمعادن، مما يجعلها مثالية للزراعة.
أما في المناطق الصحراوية الجنوبية، فالتربة تكون أكثر فقراً وتغلب عليها الرمال. ومع ذلك، فإن هذه المناطق تحتوي على خزانات مياه جوفية ضخمة، تكونت منذ ملايين السنين عندما كانت المنطقة أكثر رطوبة. هذه الخزانات تمثل مصدرًا حيويًا للمياه في المناطق الصحراوية، ولكنها أيضًا هشة للغاية، حيث يمكن أن يتم استنزافها بسرعة إذا لم يتم إدارتها بشكل مستدام.
الهيدرولوجيا في المغرب تلعب دورًا محوريًا في تشكيل هذه الأرض. من الأنهار الكبيرة مثل أم الربيع وسبو التي تجلب الحياة إلى السهول الشمالية، إلى الأودية الجافة التي تنحدر من جبال الأطلس نحو الصحراء، نجد أن الماء هو القوة المحركة وراء الكثير من التغيرات الجيولوجية والبيئية في المغرب. الأنهار لا تقوم فقط بنقل المياه، بل تعمل أيضًا على نقل الرواسب وتشكيل الدلتا والسهول الفيضانة، مما يساهم في خصوبة الأرض.
إضافة إلى ذلك، فإن النظام الهيدرولوجي في المغرب يعتمد بشكل كبير على الأمطار والثلوج التي تسقط على جبال الأطلس. هذه الثلوج تذوب في الربيع، وتغذي الأنهار والوديان بالمياه اللازمة للزراعة والري. ومع ذلك، فإن تغير المناخ يهدد هذا النظام، حيث يتوقع العلماء أن يشهد المغرب انخفاضًا في كمية الأمطار وزيادة في فترات الجفاف، مما سيؤثر على الموارد المائية ويزيد من تحديات إدارة المياه.
تاريخ المغرب الجيولوجي هو تاريخ من التحديات والانتصارات الطبيعية. من التشكل الأولي للجبال إلى تآكلها على مدى ملايين السنين، ومن تكوين البحيرات إلى جفافها وتحولها إلى صحاري، يعكس المغرب بشكل مثالي كيف يمكن للقوى الطبيعية أن تشكل الأرض وتحدد مصير المجتمعات التي تعيش عليها. في نهاية المطاف، يمكن القول أن المغرب، بموقعه الجغرافي الفريد وتاريخه الجيولوجي الغني، هو بمثابة كتاب مفتوح يمكن قراءته لفهم تاريخ الأرض والكيفية التي تتفاعل بها القوى الطبيعية لتشكيل العالم من حولنا.
ونختم فإن المغرب، بجغرافيته المتنوعة وتاريخه الجيولوجي المعقد، يعكس لوحة رائعة من التفاعلات الطبيعية التي تستحق الدراسة والتأمل. من طنجة إلى الكويرة، كل منطقة في هذا البلد تحمل في طياتها قصة مميزة ترويها الصخور والتربة والمياه. هذه القصص ليست فقط دروسًا في الجيولوجيا، بل هي أيضًا شهادات حية على قوة الطبيعة وتأثيرها الدائم على الحياة البشرية.