المثقف العربي بين تأصيل السلطة والحداثة المعطوبة

إنجاز: د الغزيوي أبو علي

تقديم:

تشير عبارة المثقف والدولة في البلدان العربية كثيرا من النقاشات والمطارحات بين الباحثين والمهتمين، حيث أن هذا المصطلح لا يزال في أطوار اللانهائية لأنه يحمل سمات حداثية وما بعد حداثية، لهذا السبب سنأتي إليه في سياق هذه الدراسة التي حولت المفهوم في غالب الأعم أشبه بانزلاقات سريعة من طرف النخب الحزبوية أنفسها فهم أولئك الذين حملوا بناصية المصطلح على غير هدى في محاذاة الغرب ومحاكاته، فهذا الانحياز للغرب صار مألوفا في التعامل مع المفاهيم المستحدثة لأن هذه الأطروحة المثقلة بأفهام وتأويلات عديدة أدخلتنا إلى سجل الماقبليات والمابعديات حيث وقع المثقف العربي في مأزق أنطولوجي حداثي مصحوب بارتباك اصطلاحي ومفاهيمي ووظيفي وتجريبي، فإذا أخذنا بعض المفكرين الذين واكبوا الحداثة كالجابري وطرابشي، وعبد الله العروي، وموليم العروسي، والعروي والطاهر بن جلون، والخطيبي، وصلاح فضل وغيرهم، حيث جعلوا الفكر الحداثي التنويري رغبة جموعة ببدء جديد، بقدر ما افترضته تطورات الحداثة الغربية، وهذا يؤمن نحو انعطاف حديث ومعاصر في مشاعل الفكر، لأن التاريخ الثقافي هو بدوره امتداد لهذه الصيحة المخبرية التي ناد بها هؤلاء المفكرين، لكن السؤال المطروح أين موقع المهمش من هذا كله؟ وكيف يحلم المهمش خارج التنظير والتجريب؟ وهل له مكانة في سياقاتهم كما عند محمد خير الدين؟ أسئلة لا تبطل السابق ولا تحاكم اليم الثقافي المذكور لتجد مكانا للهامش الذي لا ينشط على سياق آلي، بل هو فعالية سارية في حركية الإبداع التي تتأبى الانقطاع وترفض المحو والإقصاء، فالمثقف المهمش لن يكون خارج الحدث والشروط الحاكمة على الثقافة، إنه ملزم عليه أن يشرب من كأس الفقراء ليؤسس نظاما معرفيا جاهزا لتشكيل دائرة مفتوحة قابلة أن تستوعب أسئلة الجماهير ثقافيا، فليس همه من أين نبدأ، بل كيف نصل عبر هذه الثقافة إلى مركز الجاذبية، فالقصد من هذا الطرح أو هذه المقاربة هو إدراك المنزلة التي يحتلها المثقف الغير المؤدلج سلطويا والغير المحزب عرفيا وقبليا، فالمثقف يكون للعالم وليس لجماعة أو فصيل معين، إنه كوني كما يقول ماركوز.

فهذه الرؤية العلائقية أخذت معالمها تظهر في مجتمعاتنا العربية والأمازيغية، حيث لم يعد المثقف يؤدي أدواره الضلائعية كما في الستينات، بل دخل في واقع لم يعد فيه الكلام على السلطة، والحكم، والحزب، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدل، بل تحول إلى سلطة صارمة جعلت منه نقيضا وجوديا لها، وعليه يستحيل الكلام على تجاربه التاريخية والنضالية بمعزل عن ما تعرفه الساحة العربية من إفرازات وانكسارات فوقية وبنيوية، بالتالي فإن الحديث اليوم عن عودته كمنظومة معرفية وقيم إنسانية إنما ينعكس على مكانته الجوهرية والأساسية والمبدئية في إعادة تشكيل خطابه اتجاه الدولة، ومؤسساتها.

فالوعي بالمسؤولية وأهميتها النضالية في تشكيل وتنمية المعارف الإنسانية وإدراك غاياتها، والتعرف على النظريات والمناهج، يجعل المثقف يجري تفسيرات وطرح بدائل للوقوف على مقاصدها الحقيقية، فلا ينبغي أن يبدع خارج المجتمع عليه أن ينخرط في دواليه لمعرفة الجائع والباكي، والعاطل، والميت، والساكن، هو الأذن الذي تسمع، والعين التي تبصر والقلم الذي يعرى السلطة، والخطاب الذي يوزع الأخبار، فهو الصانع الأول، والفنان والشاعر والفيلسوف الذي ينفخ في قيثارته لكي يسمع صوته وأنيه الوجودي، هذا هو المثقف لا أن يكتب من برج عاجي متعالي كأفلاطون، بل عليه أن يكون سيزيف الواقع، وأن يحارب كل الطواحن الآتية من السلطة وأن يكون خطابه يغير الآتي ولا يفسر الآني.

  • دور الثقافة في مواجهة العنف الرمزي:

فالدولة تعتمد على بعدين: البرلمان ، واللامركزية، وعبر هذين البعدين نرى أن السلطة التنفيذية مسؤولة أمام الشعب، لذا فالدول العربية تخضع لقواعد ثابتة لأن تصرفاتها تتطلب القواعد العامة للتضامن الاجتماعي، والرقابة الاقتصادية التي وضعها المشروع الأمريكي، حيث لا تستطيع أن تستوعب قيمتها الكلية إلا إذا كانت القواعد الشعبية قادرة على استعمال سلطتها، وبهذا الشرط تكون الدولة قادرة على الممارسة والتنفيذ، لا مجرد ديكتاتورية أو آلة شعبوية كما نرى في السودان وليبيا، والعراق، واليمن، فهذا المشروع الأمريكي يسعى دوما إلى تفكيك العالم العربي إلى دوليات كما في السودان، وليبيل، وأفغانستان وجعلها مجرد عبارة فارغة دون بدل جهد من قبيل أجهزتها المنفصلة.

فهذه السيطرة أو الهيمنة تجعل الأقلية أو النخبة هي المهيمنة بالقانون الحديدي كما في عهد صدام حسين، والقذافي، وابن علي، وعبد الله صالح، وعمر البشير، وغيرهم، لكن هذه الطبقة المالكة لوسائد الإنتاج تجعل الشعب لا يعرف التغير، بل يكون خاضعا للأوامر والنواهي دون صراخ يذكر، وهذا مخالف للتوجهات الفكرية سواء كانت ماركسية أو فيبرية، أو سيادية أو ديمقراطية، أو بيروقراطية، لأن الغرب هدفه هو تأسيس دوليات داخل الدول من أجل التحكم في ثرواتها واقتصادها، ولغتها، إن هذا التوجه لا يكون بريئا بل محملا بوحل من الأسئلة منها على الخصوص: كيف بدع التعدد بالمفهوم الليبرالي؟ وما موقع الصهيونية من الدول العربية؟ هل استطاعت أمريكا أن تفرض سلطتها على العالم الأوحد؟

أسئلة كثيرة ومتنوعة، تجعلني أعيد قراءة خريطة الوطن العربية من ناحية التأسيس ومن ناحية اقتصادية وسياسية، لأنني أرى أن أمريكا منذ الحرب الأولى والثانية قادرة على صنع التاريخ لكل دولة في العالم، وهذا ما نراه حاليا، في السودان لأن حق الفيتو، والنقد، والأمم الشرعية كلها قنوات تستخدمها بعد الفشل الذي منيت به في سوريا وأفغانستان والعراق، وهذا التوجه الأنكلوأمريكي أبدع تنظيمات وأحلاف وتوجهات سياسية وإيديولوجية في تشتيت الدول المعارضة لها، مدعية أن الديمقراطية هي المدخل الرئيسي في المجتمع والاقتصاد من أجل الحفاظ على روح الرأسمالية، وهذا التبرير الغير المعقلن هو الذي جعل الجامعة العربية لا دور لها، والمؤتمر الإفريقي بدوره لا دور له، مما يتعين أن تكون القوة هي المصدر المعياري التي يجعلها قادرة على الاستمرارية، لأن منطق القوة التي تباشره أمريكا وأوروبا هو منطق يخلق الحروب الأهلية، والثورة ويوجه الأحداث بفكره من أجل التأثير في المسار التاريخي والمستقبلي العربي لأن اتهام الشرق الأوسط الجديد هو دخول مجموعة من الصفات التي أضيفت على مفهوم الدول، أبرزها التحولات السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية، كلها ساهمت في تشكيلات دوليات كما في سوريا والعراق واليمن، ومنح لكل دولية إيديولوجيتها ونموذجها السياسي كما يرى وائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة” ص63، فالسيادة الأمريكية هي إرادة مطلقة تفرض القانون حسب التحقق الإرادة السيادية، مما يجعل العنف ضروري لفهم سلطة الدولة، من هنا ترتسم ملامح النخبة وحدها القادرة على تشريع العنف الذي يطبق على الخارجين كالحوتيين، وداعش، وتنظيم القاعدة، والشيعة، والزيدية… وهي المالكة للحق الحصري في ممارسته كما يقول وائل حلاق في نفس المصدر ص72-73، فاللانظام الذي نراه في أوطاننا لا يمتلك سلطة ملزمة للأفراد وكل ما يقع ضمن سيادتهم، حيث تتسم هذه السيطرة بالخوف وبالقوة الخاضعة للعرف أو بمرسوم ديني، لذا فالنزعات الإقليمية (المغرب والجزائر، وسوريا وتركيا، واليمن والسعودية، وإيران والسعودية) هي عبارة كما قلت عن تفككات إقليمية وإدارية ومؤسساتية كلها تؤثر في القرارات السياسية من أجل الدولة (أمريكا) وتقوية قدرتها على التوغل ثقافيا، كما يرى عبد الله العروي في مفهوم الحرية ص80، إذن فالدول العربية إذا استخدمت العقلانية والموضوعية وأبعدت الذاتية والعدوانية فهي قادرة على بناء الذات سواء على وضع وظائف تنفيذية وكذا الإجراءات اللازمة لأعمال الإدارة والحكم، وفك النزاعات بين الأفراد والجماعات دون أن تكون الدولة الخدمات، أو الشرطي، بل الدولة المسؤولة عن الازدهار الاجتماعي والفكري والعلمي وقادرة على إبرام المعاهدات، وإقامة العلاقات والوظيفة المالية كالمبادلات الاقتصادية والسياسية النقدية كما يرى محمود حيدر في كتابه “الدولة” ص100 و101، فالتخلص من التبعية ينبغي وضع دستور عقلاني، يتجنب التخريب والانقلابات كما في السودان اليوم، وليبيا والجزائر، فهو إجراء جوهري يخلصنا من الاستبداد والقهر، ويقربنا من الاقتراع الشعبي، ويبعدنا من الممنوح أو المفروض كما في سوريا كل هذا لا يتأسس إلا بالاهتمام بالموارد البشرية، فهي مقياس كل شيء، فهي تبدع الحرية، والعدل والمساواة، وحرية التعبير، وتبعدنا عن النزعات السياسية ويقول محمد حيدر << إن معظم الدساتير الحديثة ما يفصح عن حكمة مشتركة يعبر عنها بأسلوب مشترك وتستند إلى ثلاث نقط: مبدأ سيادة الشعب وإخضاع القرارات السياسية ثابتة تتعلق بالنقد والمناقشة والثالثة تنطوي على بيان حقوق الإنسان والمواطن والحقوق الاقتصادية>> ص102-103، فالدولة إذن هي سلطة تضفي على الحكومة استمراريتها وترابطها لتنظيم السياسي والاجتماعي ويرى أندرو فنسنت في كتابه الدولة <<إذا كانت الحكومة كليا تعرف بالدولة، فإن كل إبدال في الحكومة سوف يحدث أزمة في الدولة، وهذه النقطة ينبغي أيضا أن تجعلنا متيقظين من ربط كل ممارسات الحكومة بالدولة>> ص15 – 16 تر مالك سهيوة – دار الجيل بيروت 1997، وانطلاقا من هذا الطرح ندرك أن الحكومة كانت قبل الدولة كما ترى الأنتربولوجية، فهي متعالية عليها كما يتعالى المجتمع والأمة على الدولة، فهذه الأخيرة لابد أن تكون لها الهيبة، لأن لديها مؤسسات تمثلها في تعاليمها السلطوية، فهي السلطة العليا، موجودة وجودا منطقيا، فهي الحافظ للحقوق وللمبادئ والقيم والراعية للكرامة الإنسانية، إذن كيف تمارس الأحزاب السياسية والمدنية سلطتها؟ أسئلة تطهر لنا السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل السياسي الحزبي العربي، أنه مبدع الحداثة، ثم ما لبت حتى سقط في شرك الدولة، كما في لبنان، والجزائر، وسوريا والمغرب، لأن التجارب أبدعت تقليدا نقديا طاول مجملا ما هو يساري جماهيري، لأن الأفكار التي جاءت به هذه الأحزاب الماركسية والقاعدية لا تتلاءم مع ما هو كائن، بل تعامت مع الواقع العربي كأطروحة مستحدثة أو جبتها حاجة المجتمعات إلى التغيير، وإلى تحديات الفائضة في سلم الترتيب الواقعي والسياسي والفكري، فالنقص الذي نراه في الأحزاب اليسارية البوم ليس مرده محدودية التفكير أو القصور في نحت المفاهيم، وإنما صدمت طاولة اختبارات أحزاب يمينية بأبعادها المعرفية كما في المغرب، وليبيا وفلسطين، وسوريا، والكويت والجزائر، وموريتانيا، وتونس، ذلك ما يشير بما لا يدع فرصة للشك أن فتح أفق الأحزاب اليمينية المسلطنة دخلت دخولا بنا في مجال حول هذه الأزمة التي يعيشها الإنسان العربي اليومي، لأنها أرادت أن تتجاوز هذه الأحزاب ذات الصبغة الاشتراكية كما كان في العراق وسوريا “حزب البعث”، ومصر “الحزب الاشتراكي الناصري” والحزب الشيوعي في لبنان”، و”الاشتراكي والشيوعي في المغرب والجزائر” وغيرها من البلدان العربية، فهذه الأحزاب رغم نقصها، فإنها قادت ثورات ضد الأنظمة الاستبدادية وضد الاستعمار، وضد التبعية للغرب، ولكن هذه الصيحة الإبستيمية تعرضت للنكهة والمأزق التكويني لا سيما بجهة استغراق النخبة في التماهي مع الغرب وأعراضها عن متاخهة الأبعاد الروحية والفكرية والتربوية والمعنوية للإنسان العربي، لذا خلقت السلطة الحاكمة أحزاب فينيقية لمواجهة هذه الإيديولوجيات ومحو كل ولادة أفقية معرفية تعيد تشكيل منظومة المجتمعات العربية، لأن هذا المشروع في استراتيجيته هو جعل الإنسان العربي مكبلا بالعرف وبالتقاليد وبالسحر الأسود، ومن هذه الناحية أن جل المناقشات الدائرة حول هذه الأحزاب الشعبية كانت أقرب إلى الاحتمال منها إلى التقريرات النهائية لأنها فقدت الشرعية التمثيلية والقانونية وأيضا سقطت أصنامها المعبودين، لذا عملت الدول على إبداع عالم جديد غير العالم الذي ألفناه وشيدناه، عالم يكتنفه الغموض والإبهام، وراحت كل دولة تصنع قوانينها كما يحلو لها مثل البدوي الذي صنع الإهامي الثمر وعندما عظه الجوع أكله، هكذا عملت الدول العربية بأكل هذه الأحزاب اليسارية، وولدت أحزابا تحمل الأسماء والهويات، والأجناس وتتشرع وتقنن وفق ما صنعه الأب أو الأم “الدولة”.

  • الدولة وسياسة التمركز:

هكذا باتت الدولة على عصية على قبول تغييرات جذرية في نظامها القيمي وأنماطها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية>> مجلة الاستغراب ع8 – 2017 حوار ماهابرهانس، وتبعا لفرضيتها المزعومة (الدولة) من أن الأحزاب الستينية والسبعينية ليست سوى إحدى تداعيات المترتبة على ما اقترفته الثورة الروسية سنة 1917 من عثرات في النظر إلى الإنسان، والعمل والطبقة والتاريخ والفكر، وقت العولمة، وما بعد العولمة، وصارت القراءات لا ترتكز على نماذج بوصفها ظاهرة سوسيواقتصادية، حيث يؤكد أصحاب الرأسمالية بضرورة إحياء الفردانية ونقد النظريات اللشتراكية المغلقة عن اعتقادهم بقدرة الحداثة على قيادة المجتمعات العربية إلى بر الأمان، لكن لم يفارقوا المنطق المادي التاريخي وعلم الاجتماع السياسي، والمعرفي واللافت في هذا المقام أن النزعة التاريخية لهذه الأحزاب التقدمية كونها موضوعا أنعش الإنسان، والمجتمع والسياسة، لأن السمة الأساسية لهذا العصر الحالي هو التعددية الحزبية التي تتيح المجال أمام تعايش الأفكار في مرحلة زمنية واحدة وفي إطار مجتمع عربي واحد، وهذا الاعتراف يبنى بشكل صريح عن محاولة الدولة الإقصائية وفرض نموذج عدائي اتجاه التقدمي أو الطليعي أو القاعدي، باعتباره منافسا لها في إطار ما يمكن تسميته بتحرير الوعي الإنساني العربي، غير أن يلفت النظر إليه هو هذا الإقرار الذي ينطلق من ذهنية قبلية كالسودان، والعراق، والمغرب والجزائر، وليبيا، لا أحد ينزلنا من الكرسي، كما يقول بها أحزاب إدارية، الأمر الذي يدل على أن هذه المعادلة صيغت تحت رعاية الدولة الراعية، بحيث تكون هذه الأحزاب الأوليكارتية جزءا من التنظيم السياسي والاجتماعي، والإيديولوجي، فإن هذه الأحزاب سوف تستمر بروحها وفرضياتها في الحكم على المجتمع وإدماجها في الدائرة العامة، وإذا كانت هذه الثقافة التي ذكرتها مختبرا سياسيا واجتماعيا فإنه على مستوى تنظيم البرامج، إنما يخترع الوهم لكي تمنح المشروعية المابعد الثورة الربيعية، حيث يتم توليد وظائف تدخل ضمن التصور الليبرالي كي يساير النهج السائد في المجتمع، وهو النموذج الذي لا ينبغي فيه للسياسي ممارسة السيطرة على الحياة الاجتماعية والثقافية، فهذا الموقف يعكس وجهة نظر تنتسب إلى الفضاء السياسي ما بعد الاشتراكية والشيوعية، إلا أنه يفصح عن توجس وخشية من روح اليسار ليتبوأ مقعده في الدولة، وهو ما تعبر عنه الدعوة في المغرب، وليبيا، والسودان، والعراق وتونس ليبقى هو الأصل والفصل الحاكم في تنظيم شؤون المجتمع والأفراد، أي إلى اللحظة التي تأسست فيها الدول الاشتراكية تحت ظلال شعار: العمل سيد العالم، الأرض لمن يحرثها، والبيت لمن يسكنه، ولا قيمة للفرد إلا داخل الجماعة، وهنا يطرح السؤال المركزي كيف تواجه الدول الأحزاب التقدمية الديمقراطية؟ قد لا يكون منطقيا الحديث عن موقعية هذه الأحزاب الديمقراطية في هذه الدول فلقد أظهر تاريخها على نطاق واسع من العالم العربي، لأن ممارستها لم تكن سوى منظومة من القيم الفلسفية للعقلانية ربما لهذا السبب لم يكن لها عبارة أبلغ من توصيف مآلات التحزبية في العالم العربي بأنها حداثة ضد السلفية وهذه الأطروحة المركزية هي جاذبية متحركة كتجربة ونظرية مع الحداثة وما بعد الحداثة، حيث حرصت على نزع القيادة من الأحزاب المدمجة والمخترعة حتى يتسنى لها إعادة النظر في كل هياكل الدولة وسواء قرأنا هذا التصور المنهجي كمنزع ديمقراطي حيال المجتمع، أو كرد فعل على إجابات العولمة التي سوف تنتهي بنا إلى مناطق لا يسعنا إلا محاكاة أسئلتها وتحدياتها المعاصرة، فالأحزاب اليسارية في المغرب اليوم قادرة أن تحدد ما علينا أن نقبله على أنه حقيقي، وأن كل شيء يجب أن يخضع للمحاسبة وللمراقبة كما يقول فوكو في كتابه “المراقبة والعقاب” ص96.

  • الدولة والولادة القيصرية:

لكن الدولة الحالية ترتكز على النرجسية الآدمية لأن لديها الذروة الاقتصادية في زمن العولمة، وهذه الصورة هي الطاغية في عالمنا العربي لأن الدولة لا تريد أن تنزع الغطاء على نواقص الأحزاب النووية بل تكون معهم وضدهم في آن عينه، لذا فهي حاضرة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا، لكن نطرح السؤال التالي هل هذه الأحزاب الإدارية قادرة على فهم الحداثة؟ وما حضورها في مؤسسات الرأي، والمؤسسات الجماهيرية النقابية؟ فهذا السؤال هو الذي يخلصنا من هذه الصيغة المجردة، ويعمل على تحريك الإدارة العامة لمواجهة هذه الطوابير المسكونة بالسلطة، وبالبرامج المشرعنة والتي يسودها الصدوع ولا ينفع معها تبرير إيديولوجي ولا نقد ذاتوي، وفي أحقاب متلاحقة، تطورت الموجة النقدية لتطال هذه البرامج المرتبطة بالإسلاميين، أو باليمينيين، أو بالمتطرفين، وتعرضت لهراة في بنية السلطة وفي الاقتصاد والاجتماع والسلوك الفرداني، لذا أتاح لبعض الأحزاب التقدمية أن تقود المجتمع إلى هدف روحاني واقتصادي مسيج بالتضيع وإدارة السوق، وإحلال الذات الجماعية محل الذات الفردية كما في المغرب مع عبد الرحمان اليوسفي، وهذه التجربة أنتجت سياقا معرفيا ينطوي على مقدمات تأسيسية لتكامل مفترض بين هموم القاعدة المادية وبين المشروع التنويري الحداثي، لكن المجتمعات الآنية العربية شغوفة بالبعد الليبرالي الاقتصادي والسياسي، واستغراقها في تعظيم الذات العربية، وسعيها إلى التبعية الاقتصادية المفرطة لأمريكا دون اختلاف خارج التحكيم المؤمرك، وأصبح هذا الكائن العربي رقما سلبيا في منظومة رأس المال وجوعها الظاري إلى التكاثر كما يقول محمود حيدر “ما بعد العلمانية” ص193، فالمثقف العضوي كما في الجزائر وتونس والمغرب ومصر قد انكسر أمام التحولات الاجتماعية والفكرية والثقافية، فلم يستطيع أن يستوعب التجارب الديمقراطية، بل همه أن يلوك الشعارات ويكثر من الخوخائية دون تحديد المسؤولية والمراقبة، بل يساهم في خلق نزاعات بينه وبين الدولة وبين بعض المؤسسات الغير حكومية، كالأحزاب وجماعات المصالح، والإعلام والرأي العام، لذا ينبغي أن يتدخل الفاعل السياسي والاقتصادي والثقافي لكي تخرج من هذه المقدمات الفارغة، وهذا التكرار لاستخلاص النتائج وإحلال المشاكل من أجل الانفتاح على العالم، ويقول عبد الصمد الديالمي في كتابه “القضية السوسيولوجية”: إن مفهوم الثقافة يحوي مجموع الأنظمة الرمزية والقواعد الاجتماعية والتقنيات المنظمة للحياة الاجتماعية، وبالتالي فإن اللاتكافؤ بين الثقافات ما هو الأزعم من طبيعة سياسية بالأساس يندرج في آليات السلطة ص81،لا يرتبط بالوعي الزائف، بل يظهر الصراعات بين الكائن والممكن لإبراز التحرر من عقد الماضويات، وأوثان الثقافة، لتحصيل اليقين المتشظي في زمن الحداثة الفاضلة إذن يبقى السؤال الأكثر مدعاة للنقاش وللحوار والذي لابد من طرحه ماذا بعد الحداثة التنويرية؟ وهل يستوي المثقف مع شأن السلطة السائدة على نصاب التكافؤ الخلاق؟ سؤال يسمح بالخوض في رحابه على الرغم من طابعه الاختباري، ذلك بأنه يستدرج إلى منفسح تجريبي لا يقتصر على العرب وحدهم، بل على الغرب أيضا كما في فرنسا اليوم وألمانيا ولا مناص من الإشارة هنا بوجه خاص إلى ما يتوقع من تنظيرات تقدمية وإسلامية من أن الثقافة والسفر في عوالمها لا يزال ينطوي على حذر لافت بين مفكري السلطة، ومثقفي الهامش، لذا نرى أن المثقف الإسلاموي في مواجهة ما يصطلح عليه “المثقف المخزني أو المسلم”، الذي هيمن على أنظمة المجتمعات العربية والتي تكونت بفعل مركزية الدولة المستند في حقيقته إلى التمركز السلطوي، فلم يعد ذلك الطفيلي الذي يسبقه التعبير، كما رأينا في الدولة العربية، بل حمل معه لغة التدمير لكل الحقائق التي ألفناها، وكذا الفرضيات التي شربناها، لكي يحتل التعبير والتغيير حضور في الواقع، وبالتالي فالمثقف في ظل هذا العالم المعولم لابد أن تستوعب كل العوالم لتكون خلفية نقدية لما هو كائن لبناء ما هو ممكن وليصبح نقد السلطة كأبجدية خطية هدفها توصيل الكلمة إلى الجماهير الشعبية، إذن إن المثقف هو الذي ينبغي أن يقف ضد العدمية والخنوع، وأن يبدع لغة الاختلاف والانبثاق من صمت الواقع العربي أو لنقل أنها انفجار السكون كما يقول عبد الله ابراهيم في التفكيك الأصول والمقولات ص77.

وخلاصة القول أن هذا المقال هو عبارة عن قوة إلزامية تقديسية ما هو غير مقدس عند السلطة، وتحريم ما كان غير محرم، فإن الخطاب الأصولي والسلفي والتجزيئي أسقط السيرورة التحويلية في المواصلة المعرفية والتاريخية الحداثية، وشيد لنفسه قارة تتشكل من الثنائيات الضدية، ولا تنشر داخل شرايينها وأنسجتها لغة الاختلاف، بل انفصلت عن المنطق والنقد، مما أدى بالمركز إلى إبداع جماعات ودويلات داخل الدول ترتبط بوجود الخطاب الديني باعتباره يشكل محورا من محاور العنف ضد المجتمع، وهذه المحصلة النهائية هي انتصار لأمريكا، والمغرب، والاستلاء على الموارد الاقتصادية والسياسية والعسكرية فأصبح هذه الفلسفة المركزية العربية فلسفة براجماتية جديدة وركيزة أساسية تلتف حول أطرافها كل الذوات من أجل التيوك منها، إذن لابد من المثقف التقدمي أو الديمقراطي أن يرسخ النسق الثقافي للكشف عن المضمر الرجعي الذي يهيمن على الوطن العربي، وأن يعيد التحول للنسيج الاجتماعي لكي نعرف كيف نقرأ؟ وكيف نعيد هيمنتنا؟ أسئلة سيكوسوسيولوجية تستقرئ هذه الهرميات التنظيمية التي خلقت في الوطن العربي مكانة للكاريزماتية والفردانية وللأقلية أن تخضع المجتمعات إلى منطق متغاير في توسطات الأحكام ومفاهيمها التقييمية، وأن تعتمد التلقائية والعنف كمفاهيم ضرورية دون تميزها تجريبيا وديمقراطيا بأبعاد إنسانية وبتصورات شرطية موجبة والتي تتطلع إلى نتائج التحرر، والحرية، والعدل، والإنسان وأنه الاختلاف في النسبة والتناسب يعني سنة التطور على مستوى حركية المجتمعات العربية. فالتخلص من الأساطير، وسائر الحمولات الإيديولوجية شروط بمصلحة تدافع عنها ومن أجل قيم معينة ومحددة، الأمر يتطلب إدخال الثقافة في جلب الفهم الاجتماعي، وأسبقية معرفة الحقيقة بوصفها قيمة كونية، لكونها أهم وأكبر من أي وضع خاص كالربح والسلطة، فالمثقف إذن مرتبط بحركة تاريخية تحريرية، وهذا الموقع هو الذي سمح له بفهم التحولات التي طرأت على النظرية الاجتماعية كما رأينا في الربيع العربي، من هنا بات واضحا أن المثقف الإسلاموي لم يستطع أن يتكيف مع عوامل الأثار الاقتصادي على الأسرة والقوانين التي تسوده، لذا بات واضحا أن المثقف هو أن يكون الذات والآخر في آخر، أن يتخذ من ذاته آخر، ليست إلا هذه الذات نفسها، وظني أن هذا مما يؤدي بسبب الحالة العربية إما إلى تجميد الذات وإما إلى الحياذ عنها، باسم الموضوعية نصل في النهاية إلى أن نلغيها (أي التبعية كما يقول أدونيس).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *