المخرج ابراهيم الهنائي بين القراءة العاشقة والتمسرح المضاعف

 بقلم : د. ابو علي الغزيوي

تقديم:

   لا ننطلق من معيار قبلي ونهائي، فما دامت القراءة الدرامية تظل مفتوحة وغير مختومة، ومؤقتة ونسبية، فإن قراءة المخرج والمبدع ابراهيم الهنائي المراكشي لمتونه تجعلنا ننفلت من الرقابة التصنيفية، ومن سلطة المواضعة والتقعيد والاصطلاح، حيث يتجسد هذا الفعل الدرامي الهنائي كبنية خطابية مفتوحة مما يسمح بتداخل قراءات أخرى في اختياراته النصية وفي رؤى إخراجية أخرى في تكوينه المعرفي، وإن كانت هذه المتواليات السردية والبنائية تتمحور حول شخصية المبدع والمخرج ابراهيم الهنائي والحق أن قراءة هذا القارة الفرنكوفونية والأربوفونية تكشف عن منطق الانسجام الثاوي بين الغرب والمشرق كأضداد داخل النسق الدرامي لأنها تبحث عن المواءمة بين الحس الموضوعي العملي وبين نبوءات المناصية الجذرية، فاكتمال الدلالة الواحدة يتوقف عن الآخر، هذا الترابط فيما بين هذه القراءات المتنوعة يدل على حدة انغماسها في المجتمع الدرامي وتفاعلها مع مكوناته، فهي ليست عبارة عن مفاهيم مجردة يتم نقلها بطريقة ميكانيكية، بل هي وليدة مخاطات وتحولات كان يعرفها المجتمع المغربي منذ الستينيات والسبعينيات، وقد عرفت هذا الخنديد الدرامي منذ أن كنت تلميذا بثانوية الياسمين، وقد كان أستاذا بارعا يحمل لنا من أفكار إزاء معتقداته وتراثه وتاريخه، فأفرز لنا على المستوى الفكري والأدبي ثنائية التقليد والحداثة، وطبعت بميسمها المجال الإبداعي، ومن جهة أخرى علمنا كيف نتأمل الظواهر وكيف غاور النصوص لنكون قراء نموذجيين، إذ فهو الأستاذ المؤول والكاشف عن خبايا المسرح، وذلك بجانب الدكتور – عبد الكريم برشيد، ومحمد السويرتي – وحسن هاني، وحسن اغلان والهايج – وغيرهم من الذين شربوا من معين اليسار الطليعي الماركسي لذا كانت البدايات موجودة والضرورة اللزمة، فما يحصل دائما هو التوسط كما يقول جيل دولوز.

لقد عمل ابراهيم الهنائي على توسيع مجال المسرح عبر منظور جمالي يتوخى تأسيس رؤية جديدة في القراءة التمسرحية، لهذا انبنى على جدلية التي ارتبطت بفعل القراءة في المجال المسرحي قصد بلورة رؤية قادرة على امتلاك قوة فكرية وجمالية، لأن هذا التموقع خول لي الاشتغال في الحقل الابستمولوجي، باعتباره حاملا لتجربة تفاعلية مسرحية فهو على حد تعبيره “أن الفكر والوعي بوصفه أداة لإنتاج القراءة التي لها خصوصية، وهذه القراءة هي التي تحمل معها تاريخ المسرح التجريبي”.

فهذه القراءة تعكس وتعبر عن عوائق معرفية، التي تجعل المجتمع العربي لا يتطور، وباتت تقوده تيارات فكرية خارجية، الأمر الذي يدعوني حتما إلى تعاملنا مع واقعنا المسرحي ومشكلاته الثقافية، وهذا ما نجده في مسرحية “منطق الطير”.

لأن المعرفة الإخراجية تدرس المعرفة النصية لتوضح الأسس الحقيقية للمسرح العربي، ولبيان الارتباط بين جميع التيارات التي صنعت الفعل الفرجوي، لهذا يجعل الاهتمام بها ضروريا، لأن دور الإخراج في المسرح لا يقل أهمية عن دور المؤلف قفي تطوير الفن المسرحي، بهذا فهو يريد أن يعامل الإنتاج المسرحي معاملة مغايرة، وليعيد النظر في مفهوم النص والعرض، وفي الدور الذي يجب أن يؤديه الممثل في سياق الثقافة المسرحية العربية، وبالتالي يعيد الاعتبار للإخراج ضمن تاريخ المسرح، والتحرر من هوس الاهتمام بالنص، قصد تأسيس ما يمكن أن يكون إثباتا للعرض، ورفضا كل ما هو مؤسس على “التمجيد والإطراء، وامتداح الأشخاص بوصفهم نوابغ، وعبقريات قادمة من الضباب وتعلو عن التاريخ”1.

فهذه القولة هي منهجية تحقق تصورا إنجازيا، مما يجعلها قراءة نوعية في حقل المسرح، بهذا المعنى فالقراءة عند المخرج كما قلت هي نشاط له مقتضياته الخاصة به، يمكنها أن تصير أرضية مفتوحة على كل الاتجاهات، ومجالا لنقد النقد، مما يسمح لهذه المعاودة أن تكون فعلا نقديا، وهاجسا منهجيا الذي يتحكم في بلورة السؤال، كيف يقرأ المخرج النص المسرحي؟ وهل يمتلك استراتيجية خاصة به؟ أسئلة أعطت للتجريب امتيازا في ضوء مستندات المنهجية المنفتحة، وتفعيل جميع العوامل المحيطة بالدراسة من ثقافية واجتماعية وسياسية، وهذا ما نجده في مسرحية “فاطمة”، لأن الانطلاق من موقف ابستمولوجي لهذه المسرحية هو رسم حدود المنظومة الإنسانية، وأفقها النظري نحو تنويرية عقلانية، لأن العرض في سيرورته النقدية، ومساره الاجتماعي والثقافي، حول كل الرؤى الاجتماعية إلى أدوات فنية، وتقنية التي يفرضها الراهن. هكذا انفتح العرض بمختلف أنماطه الأجناسية على ثقافة المجتمع التي تأتي في مقدمتها ثقافة التكنولوجيا، من هنا تولد لدينا المسرح المشدود بالسينما، لمي يسائل بعض القضايا التي يفرضها الواقع المعاصر، وليطرح في العرض المسرحي أسئلة ثقافية وتأملات واقعية، وذلك على شكل هندسة معمارية، أساسها التحليل والمدخل للمعرفة الاجتماعية، فقد سعى المخرج إلى التعامل مع توجهات كثيرة، وتيارات تظهر فرادة تجربته المسرحية، وذلك من خلال محطات الاستماع إلى الآخر، لاكتشاف الآخر المضطهد (المرأة)، ومن أجل إرساء الحوار معها، رافضا كل تعصب، وكل فكر أحادي، إنه دائم الإنصات للعالم ولصراعاته.

لذلك فتح حوارا مع الأفكار لكي تكتسي أهميتها من خلال نموذجين دالين، نموذج المرأة المضطهدة، والرجل الغني، ونموذج: المرأة الغنية والرجل الفقير، بالإضافة إلى الامتلاء الدلالي للصورة السيمائية، باعتبارها اختراعا صادرا عن الإنسان حيث تظل بعيدة كل البعد على أن تكون إعادة إنتاج وفية للطبيعة والأشياء، نستطيع القول، إنها تعبر عن آلامه وآماله، لكن ذلك التعبير لا يكون محايدا وموضوعيا بالنسبة للحقيقة المحسوسة2. فإعادة التذكر والتكرار، جعل المقاومة الأنثوية المهمشة تبعثر كل الأوراق المرتبطة بالآخر، لتكشف عن هذا الخيط المكون للرغبة الإنسانية، لأن الذكريات لا تظهر إلا كهوامات تشكيلية التي تربط النسيان بالتذكر، حيث يكون الانسجام بين البعد الهامشي والبعد الرمزي هو المسكن كله الذي يؤسس بدوره شبكة مكونة من قبل النظرية التأويلية، ويقول ابراهيم الهنائي: إن مسرحية فاطمة هي إعادة الاعتبار للمرأة المضطهدة في واقع هش، حتى أن المرأة البرجوازية لا تعيش الدفء مع زوجها، فكل واحد يسبح في عالمه الخاص به. فاللاتناغم يخصي المعقولية الداخلية للشخصية التي تكون بمثابة رؤية متنوعة تجمع بين رؤى خارجية وداخلية، لتلمس تجربة الحقيقة والبحث في شرعيتها الفنية، حيث اعتبرها المخرج هزة متعالية على التجارب السابقة له، لهذا كان حضور الصورة كتقنية جديدة بمثابة وعي تاريخي الذي يأتيه من الشاشة، ولكن بتفكير يعيد وضعية العلاقة بين الخيال والحقيقة المتجذرة في المعرفة الدلالية، وهذا الحضور كما قلت، تكمن أهميته في نظر المخرج في الكشف عن اللامفكر فيه، وفي تلك المناطق المطمئنة التي تمنحنا وعيا جدليا يربط بالمستويات الأخرى من المعارف، والإيديولوجيات وبالأشكال السينوغرافية والجمالية.

إن ما يؤسس موقف المخرج من هذه الحياة وحضور المرأة، والرجل الثري، وزوجته الغارقة في عالمها، غير راغبة فيه، تتدفع دوافعها الباطنية والضرورية إلى الروح الرومانسية والمثالية اللتين احتفظتا بوعي حي اتجاه الآخر، يعتقد المخرج أن الحي الاجتماعي الذي تنميه الشخصيات إنما جاء ليعودنا على الرؤى المؤولة، والشروط الخاصة لهذا النقد الجذري الذي لا يملك معايير المطلق، لهذا كان الاقتراب إلى عالم “الشخصيات” هو سبيل التعرية التي يجب البحث في مناطقها، وهذا أمر لم تكن الممارسة المسرحية فادرة على تفسيره على نحو مقنع، ويقول ابراهيم “إن الحياة والشخصيات هم أناس حاضرون وغائبون فيها، كل واحد ينسج عالمه كما يريد تتصالح وتتعارض، فيغذو الزمن غير سرمدي والمكان متعدد ومؤقت”.

فالشخصيات أحدثت كما قلت قطيعة كوسيلة وليست غاية، من أجل فهم أعمق للدينامية الداخلية للفكر العربي، وأخذ هذا المفهوم توظيفا إجرائيا في تاريخ التحولات الاجتماعية، هكذا عملت الشخصيات على طرح الواقع كإجرائي واختباري، أمام البصائر كأداة للعمل والتأمل، بهذه الرؤية التأويلية أمست القطائع تظهر كأدوات للتفكير، وكقواعد تحليلية تستفز كل الأنظمة العرفانية والبرهانية معا. فمسرحية “المفتش” هي نظام تأملي، وفكري يؤسس لأصله في الثقافة الممكنة، لذا اعتمدت الشخصيات اللغة النفسية لا العقلانية، قصد برهنة الرؤية القائمة على الانفصال، وليس على الاتصال، بمعنى أن الرؤية التمسرحية هي رؤية تعددية في حقيقتها، تعبر عن فكر اختلاف حقيقة المرأة عن حقيقة الذكر، وهذا الاختلاف يدل على اختلاف عرقي وطبقي وتاريخي، يشيئ الأنثى ويفسرها وفق قانون المتعة، واللذة.

وهذا يساوق منطق العقل العربي، لأن له عقل قضيبي يبرر به وجوده في الحياة والوجود، وليس عن طريق العقل كما هو الحال في تأسيس كينونته.

هكذا تعمل الشخصيات على إبراز النظام العرفي والعرفاني والبرهاني على مستوى الإشكالية والرؤى، دون إظهار أمر القطيعة إلا عبر صورة الذات والموضوع والخيال والحقيقة.

لهذا فالدقة النقدية هي كفاح من أجل بناء الإنسان، باعتباره فاعلا له محدداته وتجلياته، وفعل اجتماعي يعبر عن قوى يمارس عبرها نوعا من السلطة كما يقول الجابري في كتابه العقل السياسي العربي ص7. لأن هذه الوظائف التمسرحية هي محددات العقل السياسي التي تخضع للمراقبة، وليس لمنطق قوامه المبادئ الأخلاقية وإنما هو الوضع الذي يتأسس على عدة طبقات ترسبية يستحيل معرفة محدداتها اللاشعورية، فالشخصيات في وصلاتها الإيقاعية الرمزية أصبحت تشكل مكبوتا اجتماعيا وسياسيا، توجه نظام القيم، وتترجم الأخلاق ضمن الموروث الشعبي، فهذه النزعة مؤطرة بالخلفية النقدية التي تنتهي إلى عرفانية المجتمع التي تدور حول الخلاص (أي الامتزاج بالبدن وعودتها إلى الأصل، هو النفس الكلية كما يرى الجابري في مؤلفه العقل الأخلاقي العربي ص395)، فالممثلون يعترفون بإمكانية إقامة في أزمنة التي تنطوي على نوع من الليبرالية الجنسية، والتي تلزم التحرر من نظام القيم الثاوي في اللاشعور الجمعي، حسب كارل يونج، وهذه التموجات الركحية هي عبارة عن تنبؤات واختيارات إيقاعية، تحمل طابعا استنباطيا، لأن “التنبؤ مرتبط عضويا بالتفسير”، هكذا أصبح من الممكن مساءلة الواقع الركحي الذي يطرح نفسه كفن تأويلي، وكمشكل اجتماعي، يلخص دلالة الإنسان في ذاته ولغير ذاته. مع إعادة بعث وإبداع الإنتاج المسرحي ليكون رؤية ثورية، لا تتصالح مع المتلقي، بل تهدده في عقر داره، فالمساءلة الإبداعية للمؤول تنتمي إلى دلالة الفهم نفسها ويقول غادامير “لقد أعرض الإشكال التأويلي أساسا عن كل قاعدة ذاتية وسيكولوجية لينتقل إلى المعنى الموضوعي الذي تنقله الوظيفة الفعلية للتاريخ كما هو الحال في الأبحاث حول العهد الجديد، أو في منظومة النقد الأدبي أو في الامتداد الفلسفي ” غدامير، فلسفة التأويل ص87.

فالوعي التأويلي الرجعي هو ظاهرة تاريخية، يفكر في الواقع من خلال الواقعي، لأن هذه العلاقة المرآتية تؤسس للفهم التاريخي بالمعنى التجريبي، وليس العيني أو المعياري، فالانتماء إلى حقيقة الفهم الإيروسي هو انتماء جواني يربط الماضي بالحاضر، ويعمل على مساءلة الذات لتكون سلسلة مترابطة من القطائع التي يحضر عبرها الوعي، والفكر، والنقد، ويؤكد المخرج “إن الزمن الغائب الحاضر ليس هوة ينبغي محوها، بل حقيقة يعيشها الإنسان في مخيلته، وزمكانه، وهذه الحقيقة منبعثة من بائعة الهوى التي لا تريد المتعة ولا اللذة، بل تريد أن تتعايش مع اللحظة ومع تذكر الابن الصغير الذي ينتظرها أن تأتي أو لا تأتي، فهذه العودة النوستالجية يغيب فيها الفهم، والوعي، ويكون فعل التعويض هو المهيمن واعتراف زمني كمؤسسة لا مكانية في الوجود. لهذا ظل الضغط المركب دلالة مشكلة لغويا وتاريخيا، بينما تبقى المحددات الإنسانية غير مؤرخة، حيث يتم نقلها إلينا كرؤية شمولية.

فهذه السيرورة تشير إلى التحول في الخطاب الممسرح، وإلى الكينونة التي تتحقق بفعل السردلوجي، ومن خلال محاورة معرفية للمنجزات النقدية، والحقول المعروضة وإدراك خصائصها وأنماطها النوعية، وشبكتها المفاهيمية الموظفة. لأن صياغة التصور النقدي للمرجعيات المطروحة على مستوى الركح، هو وعي بالميتا نقد في تجلياته بوصفه رية غيرية، ووعي ذاتوي يولد الرغبة في تخطي النموذج الواقعي الذي أرهقه التداول السلطوي، فيصير التركيب المضاعف نتاجا جديدا لرغبة ذاتية أنتجها الحوار الفكري.

يتوخى البعد النقدي تحقيق خطاب مضاعف بنائي، حيث يتجه الممثل صوب تعميق الرؤية بأهمية الإشكالية المطروحة على الركح، وكذا ترسيخ لا يؤمن بصنمية الممثل، ولا بالمؤلف، بل يعمل على تغيير استراتيجية قراءة الواقع. فرصد المسافة بين زمن الواقع العيني والواقع الممكن، يرتهن تجاوز كل النماذج الثقافية التي تنبعث من المرجعية الممسرحة، حيث يصير البعد التأثيثي الركحي مبدأ بويطيقيا، ومركزا ثقافيا، يقوم على إدراج المراجعة والمعاودة ضمن أنساق الثقافة التجريبية الحداثية.

يتضح أن تشكل البناء المفاهيمي الجديد، يعد استجابة لجدلية الثابت والمتحول والأصالة والمعاصرة، والحقيقة والخيال، والعرض والجوهر، حيث إن تجاوز “المعطى” في قراءة الواقع بحكم رؤيته الأحادية وتقلص سيرورته التاريخية، فرض علينا تخطي هذا النموذج، وفتح ضفافه على أفاق فرجوية، بهذا المعنى الجدلي فإن الميتا قراءة صارت قراءة تفكيكية تمتد نحو الثقافي والسياسي، لذا نتساءل: ما الهدف من مسرحة هذا النص؟ إن الإجابة لا تلغي النموذج الاستيطيقي، بل تحاكمه من خلال الرمز المزدوج الذي يعكس رهانات المعاناة البشرية، حيث تحضر الهوية، والذات والمتخيل، وتجاذبات معرفية أخرى، تعمل على بلورة كل الفعاليات الإنتاجية الثقافية بهندسة ركحية جديدة، لأن الكتابة هي كشف عن أسئلة الوجود والماهية الإنسانوية، بوصفها أسئلة مرتبطة بالإنسان في تمظهراته المتنوعة، لهذا مثلت الشخصيات استراتيجية التي تعمل على تفكيك كل الترسبات التي صنعها الإنسان، إن هذا الغرض فرض تحولات تاريخية أثناء القراءة البصرية، حيث قادنا هذا التحول إلى مركزية المجتمع في خطاب الاختلاف، وصار مفهوما جديدا في استراتيجية المسرح، بهذا المعنى فالتمسرح هو الذي عمق الرؤية الإنسانوية والرمزية والإيديولوجية التي تشتغل بشكل معقلن، فيغدو الفعل المضاعف محكوم بهرمينوطيقا التي تنحث في الافتراضات الممكنة، فالمخرج في ضوء هذه المتابعة القراءة البصرية، عدل من قواعد نظام النص، وهي استراتيجية تفكيكية تكشف المهيمن وتستعيد المقصي، لذا يبقى “منطق الصراع محكوما بأفق السيطرة وهو ما تفلح فيه السلطة التي تضع الفرد ضمن سيرورة تدميرية”3.

إن نبش في الذاكرة، وسماع الأصوات المقموعة، جعلت ابراهيم الهنائي يتحقق من هذه الانتهاكات التي تتعرض لها البشرية، مما ترتب عنه قيام أنظمة ديكتاتورية، تتجلى عوالم منسية، لتشتغل كاستعارة بدائية للعالم المعيشي.

من هنا تتخذ الذات الممسرحة شعرية مقترنة بتشخيص بلاغي لإعادة تفكيك سلطة الرجل، بهذا المعنى، عمل الخطاب الإخراجي على بلورة رؤية للأحداث المسرحية مجالها الرمزي والبلاغي، والجمالي الذي هو تكسير قوة الأنا والآخر، وذلك عبر إعادة تصوير حقول مرتبطة بالمقصي وبأصوات تمثيلية التي تم نقشها خارج قانون اللغة المعيارية والتي فرضت عليها لغة إبداعية، ويقول عبد الرحمان التمارة في هذا المقام “إن إعادة تمثيل تواريخ القمع والكبت المنسية بأصوات المنظور المحلي، ونقشها خارج قانون القوة الذي فرض عليها حالة النسيان والصمت4.

فحضور العناوين المهمشة هو حضور رمزي لهذه الذاكرة التي لا تموت، حيث تعي كينونتها بواسطة لغة تموقع ذاتها في منطقة التجاذب الجنسي، حيث أن الانتماء لهذه الجغرافية يجعل الوضع المجتمعية يعري كل الرؤى المحتجبة في امتداداتها المتنوعة، لذا عمل المخرج بإحضار الفراش كوظيفة إيحائية رمزية التي تعمل على تحويل العمل المؤول إلى حصيلة ثقافية واجتماعية، لأن الدوافع الكامنة وراء هذا الطرح “الجنساني” وتحديد متن اشتغاله في المتخيل الشعبي، هو الذي ساهم في إعطاء كل التفاصيل لهذه الذوات، أن تفضي طابعا جماليا على كل الأجهزة الفنية والمفاهيمية المؤطرة للنقد السوسيو نصي، فهذه الحالة التحليلية لا تختار ما هو قابل للإفصاح فقط، بل أيضا ما يخلق الرغبة في علاقته بالآخر، ونرى هنا أن المعيار المعرفي مسير بواسطة تقنية تحليلية نفسية التي تعتمد التذكر، والبوح اللغوي ذي السند الباختيني لأن المرايا المبنية على رمزية الاعتراف دليل على جمالية الانعكاس الذاتي، وهذا التأطير المنهجي للتأثيث الركحي عمد المخرج على تأسيس مفاهيم عبر تفعيل مبدأ الصورة كتنظير تاريخي في دراسة الكتابة الجسدية داخل العرض المسرحي، بيد أن التاريخ عنده لا يتخذ بعدا كرونولوجيا واستعراضيا للأفكار الكلاسيكية بل يتخذ موقفا من الذات والعالم.

قد يسمح هذا الموقف ببناء دقيق لمكوني الكتابة الركحية، والأبعاد الجمالية، وإبراز كيفية توظيفاتها في العمل الممسرح، لأنه من زاوية الذات المهمشة، تغدو الحدود الخيالية متداخلة بين المقدس والمدنس بحكم بحكم تأسيسهما على مبدأ الإقصاء والمحو، وجعل الحدود بين الجسد المقدس والجسد المدنس، لهذا فحينما ننظر إلى العنوان باعتباره يشتغل في استقلال نسبي عن الركح وذلك وفق قواعده الخاصة، وهو في الآن عينه غير مندمج مع المناص، الأمر الذي جعلهما منفتحان على عوالم مختلفة، من كون الآخر / المرأة غير خاضعة لتوجه مزدوج نحو نسق دال محدد، ونحو سيرورة اجتماعية التي تساهم في تأسيسه، إنها تمارس لعبة الانتظار والسقوط، فهذه الثنائية الضدية تدفع التفكير في تشكل التناص مع الآخر، بناء على جدلية الداخل والخارج، وانطلاقا من كون رؤيتها الزئبقية مفتوح على كل الاتجاهات، لذا يبقى منظورها بناءا تعويضيا، تتحاور بداخله عدة خطابات لغوية أخرى، مما يؤكد أهمية حضور الصورة في بناء اللغة النوسطالجية التي تزداد حضورها وحين تتحكم اللغة الدرامية في هذه الحقيقة المقصدية، يجعل الممثل يبحث عن النص الممسرح، كآلية استراتيجية في بناء هذه اللعبة وقراءتها وتأويلها، حيث يبدأ بالتغزل، والمداعبة، والحوار والتهجين، مرورا باستحالة العيش خارج إطار البعد الركحي.

فهذا الانزياح الشرعي والقانوني، جعل الشخصية تفكر في العلاقات التناصية المتنوعة، والمحكومة بآليات التي تساهم في التداخل الفوضوي والتفاعل الجنسي الذي يغلف الواقع، فهذا الخرق والتحويل للطبقات الاجتماعية والعناصر الفنية، جعل خط المسرحية يأخذ رؤيا تعكسه عناصرها البنيوية وقراءتها التأويلية، ووظائفها الجمالية.

تعلن المسرحيات عن بعدها السوسيولوجي من زاوية مطارحة المخرج للكتابة الركحية، والتناص عبر الأبعاد الجمالية، باعتبارها نسقا فكريا يوحد بين الفكر والواقع، ويرفض كل تجربة لا تستند على بعد تجريبي حداثي، لهذا حاول المخرج أن يقدم تصورا كليا للعمل الممسرح، الذي يغدو مجالا خصبا وطريقا لسؤال البداية والنهاية، لأن البحث عن السؤال هو اقتحام المتلقي في العرض من أوسع أبوابه، وما ذلك إلا استراتيجية التي جعلت الينوغرافيا، تتخذ طابعا جماليا، وكذا الملابس التي لونت اللغة الدرامية لتكتسي طابعا ايحاشيا رمزيا، فأصبح الركح فضاءا يدعونا إلى التأويل دون التفسير، فهو مبدأ من مبادئ المسرح، فهو الطريق إلى الحكمة والمعرفة، فالعرض المسرحي هو الدهشة، والإعجاب والولوج إلى المغامرة الكبرى (محبة المسرح)، فهذا السلوك الوجودي لا ينفك عن الوجود الإنساني منذ تمسرحه على الركح، لأن المشروع الإنساني هو مشروع منفتح على المستقبل باستمرار، فهو وجود لا ينفك عن التساؤل والوجود الإنساني كما قلت، ومهما يكن من أمر فالعرض المسرحي لا يتجلى إلا في اللغة والممثل، والسينوغرافي، والملابس والموسيقى، والإضاءة، والتي هي مأوى السؤال حسب تعبير هيدجر.

فاللغة الدرامية هي التي تسمح للواقع بأن يظهر للسؤال، فهي التي تمكن السؤال، بأن يلبي نداء الواقع، لأن الشعرية التي يقوم بها الممثلون هي الصدى التي تقود الوعي التاريخي، لأن يكون عشقا وعاشقا لدى المتلقي، فالعرض المسرحي فكر غير موات، أي أنه فكر يحيا في المتخيل، وفي الثقافة، وسؤال العرض المسرحي هو سؤال إشكالي لأن يضعنا أمام أنفسنا، لماذا هنا؟ ولماذا أنا ولماذا الفرق بيننا؟ وأين يكمن الخلل هل في وجودي أم العالم الخارجي؟ وكيف نواجه أنفسنا بأنفسنا؟ وهل يوجد الصدق في الخيانة؟ فالسؤال هو رغبة في المعرفة، ووصول إلى مستوى المبادئ التي تشكل قوام القراءة التأويلية، فالمبدع والمخرج ابراهيم الهنائي لا يقتصر على التراث العربي، بل يمد خياله إلى ما هو غربي (المفتش) وإلى ما هو أسيوي << كالشتاء تحت الطاولة والغلطة والكبوط>> وغيرها من المسرحيات الأجنبية، لذا يبقى هذا المخرج كالطود الذي يسكب لنا الخير ويهب لنا الحياة في المسرح.

وجماع القول إن ما يميز هذا العرض المسرحي عن العروض السابقة، هو أنه يحاول أن يؤسس لنفسه سؤالا بصيغة الجمع، أي أنه سؤال تؤطره مجموعة من الأشياء، والأشكال الرمزية، والاستعارية، بحيث يأخذ مضمونه كسال يتكرر حول المرأة والرجل والواقع، ليبني صيغة إيديولوجية التي تجعل من هذه الوحدات صيغة جماعية، وليست فردانية، هكذا عمل المخرج على جمع المشكلات الإنسانية وجعلها متداولة بين الممثلين والمتفرجين، إنها دعوة إلى إعادة النظر في هذه الوضعية الحالية التي يعيشها الإنسان، دعوة تستنكر التسلط على أنابيب المعرفة دون هوادة، وكذا الإدماج في السلم الاجتماعي دون قيد ولا شرط، لأن هذه الصفة قد توصلنا إلى مسارنا الديمقراطي، وكذا بناء مجتمع يسوده العدل والحرية، فالإنسان هو حر وليس جبري، اختيار جوهري لا يدرك إلا بواسطة أنسجة اجتماعية وجدلية، حيث تتخذ تصورات ومفاهيم جديدة، لأن الاشتغال بالانخراط، معناه المضي قدما في بناء القارة الإنسانية، وأن الأسئلة المعروضة تكون أكثر من الأجوبة.

“منطق الطير” للعطار

فاطمة “ابن كطاف”

الكلون مشا

الشتاء تحت الطاولة

المفتش لكوكول (2000)

الغالطة بالكبوط براتسلاف ستراتييف.

إن قراءة المتن لإبراهيم الهنائي هي قراءة من الذات الكاتبة كمحفل للإنتاج المسرحي، لابد أن تصطدم بالإشكالية الذاتية لهذه الذات، ويرى المخرج أن هذه الإشكالية لا تنحصر في القراءة الأولى، سلطة النموذج، بل يمنح لها تربة خصبة توسع المخيال الدرامي الذي سيكون من فائق المعنى، لأن بنية الثقافة المسرحية ستدمج بتلك الإفرازات الجديدة المرتبطة بمجال الكتابة، والواقع، فالكتابة التمسرحية (حسب المخرج خطاب نسق مندمج جوهري يجعل المتفرج يدرك عبره وعيه الذاتي والاجتماعي والطبقي حسب البحث والمخرج يلزمه على الانسجام مع هذا العالم الذي يسيج أناه، ويجعله ينسجم مع الوعي الجماعي) بمفهوم لويسان كولدمان ليتخطى هذه الأنا وليجبره على الانسجام مع هذا الوعي واللغة، والتاريخ، المسرح العربي والغربي.

إن هذه العلاقة الداخلية بين السلطة النصية والمعرفية الركحية جعلت المخرج يتحدث عن طبقات النص كما في مسرحيات فاطمة والمفتش، مبرزا رؤية عن تاريخ الفكر بكل أصالته وتكراره، وتحليل تناقضاته. لمعرفة التغيير والتحول الجمالي والفني، وبالوقوف عند هذه الرؤيا تكون غايتها الوقوف والتركيز على خصوصية الشعرية الركحية، من هنا نرى أن هذه المسرحيات لا تخضع للخواطر التأليفية. بل ينظر إليها من حيث ممارسة تحكمه قواعد وتأويل مجازي، لكي يرتسم إرث الذاكرة المقموعة ويركن إلى المغايرة ليجعل فعل الشعرية رغبة وإرادة وكقوة مؤكدة للوجود الذاتي، ويبقى القاسم المشترك بين سلطة النص أو الفهم الذاتي الديمقراطي المفتقد، هو السبيل الأمثل لفهم هوية الركح، لأن التركيز على الهوية الدرامية معناه التركيز على الاختلاف الذي ينتجه فعل القراءة مع مخرجين معاصرين في خلخلتهم المسكوت الثقافي، وتوجيه شآبيب الرجة لسلطة النص باستبدادها وهيمنتها.

فالمخرج يقاوم بسيف المغايرة كقارئ مبدع يفكر في بنيات التاريخ المسرحي العربي المكتوب، حيث يجد له امتدادات عميمة في هذا التاريخ المسرحي وفي تربية الحرية، لمواجهة المؤسسات الثقافية حسب مفهوم عبد الله العروي، إن التركيز على هذه الشعرية كما قلت مجبرا على ترهين وتحقيق ما يسمح التفكير في النص أي ترهين الإمكانات المسموح التفكير به وفيه، وهذا الخرق هو منطق واتجاه قرائي يحفل بالإنتاج والاندماج، حيث يتموقع المخرج كذات كاتبة، تختار بنياتها السردية والخطابية واللغة الدرامية، باعتبارها فضاءا معرفيا ينكتب داخله المنظور الفرجوي والجمالي، وهذا الترابط الجدلي يمكن إماطة اللثام عنه شريطة أن تفهم دلالة المسرحيات كالساروت، وهي والقايد، وليام أليام فالاختلاف النوعي والكيفي يصاحب نمو العدول أو الخروج ليشكل قيمة استطيقية اجتماعية وفلسفية، في الأنساق المسرحية لتحيل على أنساق متنوعة استيدالية ووجهات سردية وعاملية مختلفة، لأن شهوة الممثل حسب المخرج تشكل خطابا نفسيا واجتماعيا، انطلاقا من رؤاه الدالة للعالم والإنسان، وتحرير المتلفظ كإطار التحقق الاجتماعي والمعرفي.

إن الشعرية الركحية خطاب ذاتي وموضوعي، يرتبط بوعي المخرج ورؤيته للعالم وبنيته الإيديولوجية، ويرى لينهارت “أن هذه الذات التي تصطدم بالعالم كموضوع معرفة باعتباره مجالا لحركة لا نهائية من الممارسات”، فالتحول عنده هو انخراط في الأنتربولوجية والتراث في تأويل النص الدرامي كحفل متنوع، لأدبية الذات لأن المبدع يتحول دوما إلى مرسل لنصوص يؤولها بطابعه الفردي في علاقته بواقع ممكن يندمج معه في صراع، وبهذا المعنى يتحقق الفعل الشعري الركحي كمعيار حواري يجعله معيارا منفصلا عن النص الأصلي، ذلك أن التموقع الاستطيقي، والفكري والمسرحي يترابط مع المخرج لتبقى الخصوصية التمسرحية، مساهمة في العالم الجمالي، والحداثي العربي، وكذا إشكالية توجيه الذات كما في مسرحيات “الكلون مشا – والغالطة بالكبوط” ليتم الوصول إليها من خلال الاستبطان والترسب اللاشعوري لحقيقة المخرج، ذلك أن الأدوار التيماتيكية ستترسب في لا شعور الممثل عندما يتحول فضاءا من فضاءات، ورؤية طبقية يحقق لها أهدافها كوسيط يمتلك السلطة، وما اختيار هذه العناوين إلا الدفاع عن الديمقراطية الإبداعية المسرحية والقضاء على خطاب المؤلف، لأن الصراع ضد ديكتاتورية المؤلف، جعلت شعرية الذات العاشقة هي عشق للثقافي في خدمة المسرح، إلى حد التضحية بكل شيء، وبذلك يتحول المخرج من المتفرج المتبصر إلى معانقة بروميثيوس الذي يساعد البشرية في تدبير شؤونهم الحياتية، وأصبح محفزا لهذه الذات القارئة على السير قدما نحو مغايرة الأصل / النص، من أجل التجدد والولادة، لأن الأمر يتطلب القدرة على تحمل الأعباء والعدول كي تتم عملية التطهير من الأرذان الماضية التي تكبل الأمة العربية من كل جوانب، وهذا ما نراه في مسرحية “منطق الطير”، نجد شخصيات محكومة وتحكي عن معاناتها، فأرسلت في مهمة البحث عن الممكن، لكن هذه الرحلة بما تحمل من مآسي، فيظل طائر هذه الحروف غارقا في بحور الشعر، وعاشقا للكلمة، وتائها في دروبها، فيعرف بهذا الاسم لأنه يصنع الضحك، ويعرف كيف يجمع الناس حوله، ولكي يقتل الناس بالضحك، هكذا ظل كل واحد يعبر عن حالته، متفاعلا مع الظروف التي تظهر بولادة، وهذه الولادة هي الحرية التي تحيط بنا أكان ذلك على المستوى الاجتماعي أم السياسي أم الاقتصادي، ولقد جعل المخرج من هذه المسرحية رحلة مستمرة في سيرة الحياة، منطلقها هي مشاعر الغربة، وهدفها تغيير الواقع، وهذا البعد الدياليتيكي فرض على المتفرج تغيير العالم لكي تسود الروح الإنسانية، فالواجب أن يعي الإنسان من خلال علاقته بالمسرح5.

إن قوة الدياليكتيك الركحي يكشف عن صناعة الفرجة بلغة التغريب لجعل المتفرج بعيدا عن الاندماج والتطابق لتمكينه من إعادة البناء، ويرى بريشت أن تأثير التغريب إلى تحويل الشيء الذي يجب أن يدرك، والذي يجب أن يلتفت إليه من شيء اعتيادي ومعروف ومطروح أمام أعيننا إلى شيء خاص يلفت الانتباه ومفاجئ من خلال هذا التعريف أن المخرج يحاول أن يخلق شعرية درامية يتحقق فيها التباعد ويكون فيها الاجتماعي هو فعل سياسي أيضا، وتكون الذات المضاعفة هي التجلي الروحي تصبح فيها الذات أيضا كتجربة تتعايش مع ذاتها ومع الفرد والمجتمع والكون.

إن الصيغة الشعرية الركحية هي حالة استبطانية داخلية تسيطر على الفنان الهنائي، وتنطوي على أبعاد دلالية ترتبط بالشروط والظروف التي أفرزتها كما في مسرحية المفتش، ولعل تاريخ التمسرح هو أكثر عمقا، وإثارة من تاريخ الصمت، والكتابة المقروءة والأثر المنصوص6، إذن فالهوية الركحية كما قلت هي لغة الجسد، وتموجاته في علاقته بالوعي الثقافي السائد، كما أنها تتضمن إيقاعا وتفكيكا للعقل والمجتمع، وتفجيرا للوجود، وللمعرفة اليقينية، لذلك فالبعد الشاعري للركح سيكشف عن ملامح الوجود الإنساني المفتقد كما في “منطق الطير”، لأن الوعي المنتظر هو وعي وسيرورة لا ينفصل عن الحاضر والماضي، لأن سقوط منطق السلطة، هو صراخ في الداخل وليس صراخ على المنابر، حسب تعبير جبرا ابراهيم في كتابه “الفن والحلم والفعل” ص276. يتخذ المخرج من هذه المسرحيات مركبا صعبا للرحيل من النهائي، والتأمل، إلى عالم يصير ظلال وأشواطا من التلاشي النصي وحالة من العبث وغياب المعنى، مما جعله يتخذ الرفض انزياحا وخلقا للدهشة التي تحظى باللحظة المفارقاتية يلخصها السؤال التالي، هل المخرج احتفالي، أم ملحمي؟ أسئلة تتحول وتتغير حسب المؤلف الممسرح حيث لا يركن لأي اتجاه، بل يتوحد مع كل جديد يتخذه حدثا فعليا لكي ينسخ منه مثله سخر من ميلاده القديم حسب تعبير محمد علي الرباوي (الشاعر) فالمخرج لا يخشى المغامرة التجريبية، كمملكة للماضي، يتصفح ويتحسس كل التجارب تحت موج المغايرة، بعيون تتخطى واقع الضعف والتخلف، وتقتلع جذور الصمت المجلجل بالمحنة، والألم، كي يقوي الاستيطان في أمكنة لم يجد ملاذه إلا في الإبداع والانزياح بمفهوم جان كوهن في كتابه “بنية اللغة الشعرية”ص43.

وهذا العول الرمزي والتجريبي أصبح شعرية دراماتيكية تجد خلاصها في اللغة الشعرية، والممثل، والموسيقى والديكور، والإنارة… وأيضا سعيا إلى إعادة التيه والنسيان إلى حضيرة الإنسان، لأن الإنسان العربي اعتلاه الوجد والندوب، وذابت في مخيلته القسمات، وأن حلمه تعرض للخيانة والاستيطان، إن الهنائي المغترب التائه الذي لا يقوى على الاستيطان في أي مكان ولا على الاستقرار لذا نجد في إخراجه الشعرية الركحية عبارة عن اغتراب أيقوني، يتفاعل مع الذاتي والموضوعي، ويتفاعل أيضا مع الأحداث، والواقع، والسياسة، والثقافة. ولقد تتفاوت هذه الرؤية الانزياحية عنده تبعا لسنة التطور، وقانون الممارسة الإبداعية، حيث يعيش فيها الممثل صمت الكلمات، ونفي مضاعف لجسد تيمي، يحاور المختلف في فصوله وتضاعيفه الجمالية، فاتخذ هذا الاغتراب لدى المخرج تفاعله مع كل مكونات العرض، وما يحيط به من جهة، لأن الانزياح هو حالة من التبعثر الذي يحيط بالإنسان ولا يجعله يندمج مع الممثل بمفهوم ستانيسلافسكي، بل يظل يستخدم عقله الوقاد ليرى هذا الفن الدرامي كمرحلة ذهنية ومرحلة انتقادية غير متصالحة مع اللحظة التأملية، الأمر الذي يجعلها تنظر إلى العالم، والأشياء من حولها كأنها نار تشتعل بدواخلها المحن والأهوال، إنها منفى اختياري تنبئ بالتعب والمتعة الجمالية، فالتمظهرات الحوارية هو تصوير لطبائع الشخصيات وتقديم أوصافها، بقدر ما هي رؤية تجسد الفعل الدرامي داخل النص التشكيلي، وتدفع بالأحداث إلى الأمام من خلال علاقات القوة التي تربطها الشخصيات فيما بينها في المسرحيات المذكورة، معتمدا على الدلالات المكثفة التي يمكن للشخصية تناولها في العرض المسرحي، ولعل الرؤية الشاعرية الإخراجية الجمالية التي طبعت مسرح الهنائي هي نفسها التي دعا إليها محمد الكغاط وتيمود والصديقي، وهذا التموضع المتنوع في بناء رؤية تجريبية ساهمت فيها الشخصيات بأفعالها، وحركاتها ورقصاتها، بالإضافة إلى الملابس، والموسيقى، الذي يجعل فعل التمسرح يحمل تنظيراته وتكامله الركحي إلى جانب القراءة الدرامية الممسرحة.

فإسهام هذا التموضع بين الحركة والفكرة، والكائن والممكن، منح لهذه التجربة وعيا شعوريا ونقدا، يجعل الجمهور يعيش الحدث المسرحي كما لو أن مريض يعالج ويتلذذ، انطلاقا من جعله يعايش الحال التي كانت سبب علته حسب انتونان أرطو وبهذا يخلق المخرج حوارا مع الركح انطلاقا من أفعال الممثلين التي تتمظهر في شكل أنساق تناصية تكسر جدار الصمت الذي يفصل المتفرج طرف أساسيا وجوهريا في المسرح، إن إسهامه في المسرح هو موقف من السائد، التابث، موقف مبني على عتق المتخيل، وعضد ثبوته الشعري بخطاب مفتوح مثقل بأسئلة الواقع المسرحي العربي، لذا جعل من الكتابة التكاملية رحلة في مسار التجريب، منطلقا كما ذكرت سابقا من عدة مناهج شعرية ونقدية وفلسفية هدفها تغيير الكائن إلى الممكن جعل الرؤية الفنية رؤية كلية وجماعية.

المراجع:

1– سالم ياقوت: نحن والعالم، دراسات في تاريخ علم الفلك بالغرب الإسلامي، ص13.

2– محمد اشويكة: “الصورة السينمائية” – “التقني والقراءة”، سعد الورزازي للنشر، الرباط 2005، ص11-12.

3– عبد الرحمن التمارة: نقد النقد، ط1، 2017 عمان، ص73.

4– عبد الرحمن التمارة: نقد النقد، المرجع نفسه، ص75.

5– بروتولد بريخت “نظرية المسرح الملحمي” ص143.

6– محمد ابرهيم “جماليات الصمت” دار الإنماء الحضاري حلب سنة 2000 ص14.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *