إنجاز: د الغزيوي أبو علي
دة : بن المداني ليلة / باحثة
تعريف النص الغائب:
قولنا إن النص الشعري بنية لغوية متميزة، لا يعني أن هذا النص ينتج تميزه من خلال تركيبه الداخلي، منفصلا في ذلك عن كل علاقة خارجية بالنصوص الأخرى ، وإنما القصد من هذا التحديد هو اعتبار النص كشبكة تلتقي فيها عدة نصوص استطاع الشاعر أن يجعل منها كنزه الشعري، وذاكرته الشعرية ، وهي نصوص لا تقف عند حد النص الشعري بالضرورة، لأنها حصيلة نصوص يصعب تحديدها، إذ يختلط فيها الحديث بالقديم، والعلمي بالأدبي، واليومي بالخاص، والذاتي بالموضوع، مما يجعل قراءة النص الشعري بعيدة كل البعد عن النظرة الأحادية التي تتعامل معه بوعي ساذج لا يقدر على الكشف عن خبايا النص، كعمل متكامل، ومتاهة لانهائية، ترقد تحت صمته الوهمي علاقات وقوانين ونصوص يصعب معها ادعاء القبض عليها كاملة في المرحلة الراهنة من البحث العلمي والتطور التقني، على الأقل كما يقول صاحب (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب “مقاربة بنيوية تكوينية” محمد بنيس – الطبعة الثانية 1985 – دار التنوير للطباعة والنشر – ص – ب6499 – 113 بيروت – المركز الثقافي العربي – ص – ب 4006 الدار البيضاء).
إن النص الشعري هو مجموعة من النصوص، أو كما تقول “جوليا كريستيفا”: “كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى” O. Ducrot, T. Todorov, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Seuil, Paris, 1972, P446.، والنص حسب هذا المعيار النقدي، استمرار وانقطاع في آن مع النصوص الأخرى ضمن السلسلة الأدبية، الخاصة بنوع من الأداء اللغوي، والنص عندما يرتبط بالنصوص الأخرى، يعتمد قوانين متعددة ومعقدة في تعامله معها، كما أنها هي الأخرى خاضعة لمستويات من الشروط التي يصعب معها التعيين والتجديد النهائيان.
لقد أصبحت القراءة المحدثة، والبنيوية على الخصوص تحذر من السقوط في الأخطاء نفسها التي سقط فيها النقد القديم، وفي هذا الصدد يقول تودوروف “ثمة خطأ فاضح يكمن في اعتبار النص المعارض (بكسر الراء) كقابل للتعويض بالنص المعارض (بفتح الراء)، فنحن ننسى أن العلاقة بين النصين ليست من نوع التكافؤ البسيط، ولكنها تعرف تحولا كبيرا، خاصة وأن اللعب بالنص الآخر، لا يمكن أن يطمس في جميع الحالات” T. Todorov, 2. Poétique P43، وهذه الملاحظة تنبهنا إلى ضرورة إعادة النظر في نظام قراءتنا للنص، سواء أكان قديما، أم حديثا، أم معاصرا، غير أن المعاصر يحفل بقراءة للنصوص الأخرى، هي بالتأكيد أكثر تعقيدا مما هو معروف في النص القديم.
وسنستعمل في بحثنا عن نوعية قراءة شعرائنا للنص الغائب في نصوصهم الشعرية معايير ثلاثة تتخذ صبغة قوانين، وهي الاجترار، والامتصاص، والحوار، وهذه القوانين تحديد لطبيعة الوعي المصاحب لكل قراءة للنص الغائب، لأن تعدد قوانين القراءة هو في أصله انعكاس لمستويات الوعي التي تتحكم في قراءة كل شاعر لنص من النصوص الغائبة، ساد الاجترار في عصور الانحطاط على الأخص، حيث تعامل الشعراء مع النص الغائب بوعي سكوني، لا قدرة له على اعتبار النص إبداعا لا نهائيا، فساد بذلك تمجيد بعض المظاهر الشكلية الخارجية، في انفصالها عن البنية العامة للنص كحركة وسيرورة، وكانت النتيجة أن أصبح النص الغائب نموذجا جامدا، تضمحل حيويته مع كل إعادة كتابه له بوعي سكوني.
والامتصاص مرحلة أعلى من قراءة النص الغائب، وهو القانون الذي ينطلق أساسا من الإقرار بأهمية هذا النص، وقداسته، فيتعامل وإياه كحركة وتحول، لا ينفيان الأصل، بل يساهمان في استمراره كجوهر قابل للتجدد، ومعنى هذا أن الامتصاص لا يجمد النص الغائب ولا ينقده، بأنه يعيد صوغه فقط وفق متطلبات تاريخية لم يكن يعيشها في المرحلة التي كتب فيها، وبذلك يستمر النص غائبا غير ممحو، ويحيا بدل أن يموت.
أما الحوار فهو أعلى مرحلة من قراءة النص الغائب، إذ يعتمد النقد المؤسس على أرضية عملية صلبة، تحطم مظاهر الاستلاب، مهما كان نوعه وشكله وحجمه، لا مجال لتقديس كل النصوص الغائبة مع الحوار، فالشاعر أو الكاتب لا يتأمل هذا النص، وإنما يغيره، يغير في القديم أسسه اللاهوتية، ويعري في الحديث قناعاته التبريرية والمثالية، وبذلك يكون الحوار قراءة نقدية علمية، لا علاقة لها بالنقد كمفهوم عقلاني خالص، أو كنزعة فوضوية أو عدمية.
تحديد عام للنص الغائب داخل المتن:
إن الشعر المغربي المعاصر اتجه بعقله ووجدانه نحو العلوم الإنسانية، قديمها وحديثها، مع اعتبار تشعباتها في ميادين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، ثم بالفنون غير الأدبية، من تشكيل، ومعمار وسينما، ورقص ومسرح، بالإضافة إلى العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية، بل يصل الأمر في بعض الحالات إلى العلوم الرياضية (ص253)، والتجريبية، وقد انعكست هذه الاهتمامات مجتمعة في كتابة النص الشعري، بحيث أصبح من الصعب قراءة نص شعري، دون الاصطدام بهذا العالم الغريب من التركيب الكيميائي لمصادر الثقافة الإنسانية، الخاضع حتما لسلم من إمكانات الاستيعاب والتمثل.
أهم أنواع المتون التي انعكست في المتن الشعري المعاصر بالمغرب:
- المتن الشعري العربي المعاصر:
إن أسبق متن شعري مارس قراءته الشعراء المعاصرون في المغرب هو متن التجربة الشعرية العربية المعاصرة، وبخاصة من خلال روادها الذين قامت هذه التجربة على أكتافهم، وهؤلاء هم بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد عبد المعطي حجاري، وخليل حاوي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، ثم فيما بعد، شعراء المقاومة الفلسطينية، وفي طليعتهم محمود درويش وسميح القاسم، وقد تجلت هذه القراءة في انعكاس جل قوانين القصيدة العربية المعاصرة في المتن الشعري المغربي المعاصر، وهي قوانين الزمان والمكان أولا، ثم قوانين متتاليات المتن ثانيا، وقوانين بلاغة الغموض ثالثا، وقد خضعت هذه القراءة لحتميات معقدة التحديد، إلا أن هناك ظاهرة أساسية وهي عدم اعتماد كل نصوص المتن الشعري المعاصر بالمغرب على مجموع نصوص المتن الشعري العربي المعاصر.
- المتن الشعري العربي القديم:
كان خروج الشعر العربي المعاصر على قوانين المتن الشعري العربي القديم يتضمن في الأساس استخلاص العناصر المحركة لهذا المتن وتطويرها وفق تقنيات عصرية فرضها التحول الذي يشهد عالم القرن العشرين على صعيد الحساسية الشعرية، ثم الواقع الاجتماعي على مستوى العالم العربي، وهذا المفهوم الواعي قاد الشعراء العرب المعاصرين في الشرق والمغرب معا، إلى قراءة الموروث الشعري بعين متجددة، وقلب متفاعل مع وقائع العصر وإذن تحاول استيعاب دينامية التغير في مجال الإيقاع.
وفي طليعة اللذين نقرأ في نصوصهم أصداء المتن القديم نلتقي بالمجاطي، والخمار الكنوني، والسرغيني، والطبال والميموني، أما الآخرون فهم أقل احتكاكا بهذا الموروث، وربما أكثر نفورا منه.
- المتن الشعري الأوربي:
ولعل الحديث عن قراءة وإعادة كتابة شعرائنا المعاصرين لهذا المتن محفوف بالمخاطر لأن القنوات التي توصل خلالها الشعراء المغاربة المعاصرون إلى قراءة وإعادة كتابة هذا المتن في نصوصهم الشعرية ربما كانت محدودة من ناحية، وخاضعة للمصادقة لدى بعضهم من ناحية ثانية.
- المتن الشعري المغربي:
يضم جملة من المتون الجزيئية، يرجع بعضها إلى ما قبل الإسلام بالمغرب، وبعضها يلتزم اللهجات المحلية، ويبقى المكتوب باللغة العربية واحدا بينها، ولا نعثر بصفة عامة على أثر لهذه المتون الجزيئية المؤلفة للمتن الشعري المغربي باستثناء قلة من النصوص التي آمنت بطريقة أو بأخرى بضرورة الاستفادة من الشعر العربي المكتوب بالعربية الدارجة، وربما كانت جماعة الدار البيضاء أكثر امتزاجا بالشعر الشعبي، وتشمل صبري والجوماري على الخصوص، وفقر تأثير المتن المغربي في المتن الشعري المغربي المعاصر، له دلالات مهمة، تعكس قبل كل شيء، الرغبة التي يحن إلى تحقيقها الشاعر المغربي المعاصر، فهو يطمح لكتابة قصيدة معاصرة بالمفهوم الأوربي لهذا المصطلح، أكثر مما يهمه تركيب قوانين خاصة بالقصيدة العربية المعاصرة بالمغرب دون إهمال لما يمكن أن يمنحه النص الشعري الأوربي المعاصر من إمكانات تضيء له طيق تركيب نص شعري متميز.
الحضارة العربية:
تلتحم الذاكرة الشعرية بمجمل وجوه الحضارة العربية في المتن الذي ندرسه لغة وأدبا، وتاريخا، وعلوما، وفلسفة، وفنا، والشاعر المغربي المعاصر مغرم بتوسيع مداركه الحضارية، وإعادة كتابتها في نصه الشعري، وقد لا تصادفنا صعوبة في إدراك ملامح اهتمام الشاعر المغربي المعاصر بمختلف العطاء الحضاري الذي أنتجه العالم العربي، منذ العصر الجاهلي، حتى مرحلة اكتمال تألقه في ميدان الإبداع والابتكار والإضافة داخل الحضارة الإنسانية.
وجوه الحضارة المغربية:
إن ما يميز الشعر المغربي المعاصر هو تركيزه على قراءة النص المغربي الموروث، في جميع المجالات الحضارية التي يحبل بها الواقع العام الذي نعيشه، وهذه الخاصية لا يلتقي فيها مع أي متن شعري معاصر آخر في العالم العربي، فهي التي توجد له بعضا من خصوصيته، وتمنحه خطا من خطوط هويته.
الثقافة الأوروبية:
يتشعب النص الأوربي في النص الشعري المغربي المعاصر، لأن مقروءات شعرائنا غير محددة بحكم تعددهم، وتنوع اهتماماتهم الثقافية.
وإذا كانت مصادر الثقافة الأوربية متعددة ومتنوعة، فإن من الصواب القول أن شعرائنا لم يهتموا بالأسطورة اليونانية إلا نادرا، وهي التي شكلت رصيدا ثقافيا خصبا للنسبة للشعراء المعاصرين بالمشرق العربي، ومن ثم فإن الشعراء المعاصرين بالمغرب لم يستجيبوا لكل المظاهر الفكرية والحضارية التي تفاعل معها الشعراء العرب المعاصرون، وهذه الملاحظة تجنبنا بعض الأخطاء التي يسقط فيها بعض الدارسين الذين يعممون الأحكام دون مراجعة المتن المدروس بدقة وعناية كافيتين.
- تحولات النص الغائب:
تهدف في هذه المرحلة من القراءة إلى التعرض للتحولات الطارئة على النص الغائب بعد إعادة كتابته في المتن الشعري المغربي المعاصر، من خلال بعض النماذج الدالة، وحسب مراتب ثلاث، وهي المجال الشعري، والمجال الثقافي، ثم مجال الكلام اليومي، والأساسي بالنسبة لنا من هذا العمل هو محاولة الكشف عن القوانين التي تتحكم في قراءة الشاعر المغربي المعاصر للنص الغائب.
أ – المجال الشعري:
انكب الشاعر المغربي المعاصر على قراءة وإعادة كتابة المتون الشعرية التي أصبحت متداولة في الحركة الشعرية العربية، قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها، ورافق هذا الانكباب المختلف القيمة استيعاب متفاوت وتعامل غير متجانس أيضا.
- الشعر العربي المعاصر:
وهو النص الغائب الأول الذي أدى من الشعراء المعاصرون بالمغرب قراءته وإعادة كتابته، لأنه الصلب الذي انحدرت منه هذه الظاهرة الشعرية التي نحاول قراءتها، وقد تمت مرحلة القراءة، وإعادة الكتابة لهذا المتن، على عدة مستويات معقدة.
- الشعر العربي القديم:
الشاعر المغربي المعاصر قرأ المتن الشعري العربي القديم، بمستويات متعددة، وأعاد كتابته بأساليب تتنوع من حيث الوعي والإدراك، وقد أراد حسن الطريبق غير مرة اللجوء إلى مثل هذا التحليل ليثبت حقيقة باطلة، وهي أن المجاطي لم يفعل غير إعادة ما قاله القدماء.
ب – الثقافة العربية:
تظل الثقافة العربية، بمختلف اهتماماتها، حاضرة في المتن الذي جعلنا منه مجالا لبحثنا، تتبعنا لها في مجمل المتن يكون جولة في التراث العربي، لا ينفذ معينه، نظرا لما يحمله هذا المتن من قراءة متشبعة لم يستطع الشاعر الكلاسيكي الجديد أو الشاعر الرومانسي توفيرها لنفسه وشعره، وهذه الفضيلة ترد على كل المدعين القائلين إن الشعار العربي المعاصر، ومنه المغربي، مهمل للتراث ومحتقر له.
- القرآن:
وهو يسيطر على شعرائنا، ويطلع من بين أصابعهم في كل دفقة شعرية، يمتصونه ويعيدون كتابته، ولكنهم يخافون محاورته، إن القرآن يظل دائما نصا مقدسا عند الشاعر المغربي المعاصر، ويتعلم منه، ويحلم به، فهو منتهى البلاغة، ومستقبل الكتابة، مهما كان نوعها وتاريخها.
- التاريخ:
نفذ التاريخ العربي، كأحداث وشخصيات وقوى متصارعة إلى الشعر المغربي المعاصر، فحدثت رجة في هذا التاريخ نفسه، بعدما تمكن الشعراء المغاربة المعاصرون من إعادة كتابة التاريخ العربي، أدبيا وسياسيا واجتماعيا، في نصهم الشعري ليجعلوا منه قناعا فنيا آنا، ووصلا للماضي بالحاضر والمستقبل كآنا آخر.
ج – الكلام اليومي:
يقول د. محمد النويهي في مقدمته لكتابه عن “قضية الشعر الجديد”: (…محاولين أن نثبت أن الخصائص الأساسية للشعر الجديد، حتى إذا تطورت فبلغت ما نتوقعه من تغيير النظام التقليدي للإيقاع الشعري، ليست إلا استكشافا لمقدرات في اللغة لم تستغل، وتنميته لبذور لم تستثمر، وليست إلا عودة بالشعر إلى سر حيويته، وهو الاقتراب من لغة الكلام التي ينطق بها أبناء الأمة) (محمد النويهي – قضية الشعر الجديد ص6).
إن الكلام اليومي يمثل بالنسبة للشعر المعاصر عند العرب جميعا، لا تقل أهميته عن المتون الأخرى الذي سبق لنا التعرض لها.