ان المتخيل كتعبير وخلاصة هو المحدد العام لتلك الأدبية “littérarité” المقياس، وذلك ما يدعوا الى الحديث عن التمظهرات الأدبية للمتخيل أو أشكاله الأخرى والقريبة منه، ويمكن أن نطلق عليها، “sous genre” جنس تحتي يندرج ضمن كلية المتخيل. ومن ضمن هذا، هناك الفانتاستيك الذي يأتي كطفرة تعبير عن تراكم إبداع عجائبي وغرائبي وواقع تحكمه الفاكهة السوداء بضلالها الثقيلة وموسوخاته الرهيبة. إن الفانتاستيك بهذا المعنى هو تخيل طافح بترسبات اللاوعي وكوابيسه وبتالي أحلامه، كشكل من أشكال التعبير الرمزي والفني[1].
اذا كان السرد هو علم يبحث عن تشكيلة نظرية النصوص السردية، فإن الحديث عنه داخل الرواية الفانتاستيكية يقضي إلى مسلكيات جد معقدة تجعل السرد يطرح العديد من الأسئلة التي تخص علاقاته العمودية والافقية، خصوصا علاقاته بالوصف، وفعاليتهما داخل المحكي الروائي العربي، حيث تنوعت الطرائق التي اقترنت بالتجارب، والبحث عن منافد جديدة تستنطق الابعاد الغافية للمصائر والاشياء داخل النصوص الروائية.
إن السرد في المحكي الفانتاستيكي فضاء خصبا للتفاعل والعمل في تبئير التعجيب، ومده بتقنيات صارمة لها مميزاتها وخصائصها، أما الأسئلة التي يطرحها الخطاب
في الفانتا ستيك فإنها شاسعة ومعقدة، وأحيانا ملغومة، نظرا لاختلافية النوعية لهذا الجنس، وما يطرحه هذا الاختلاف، من ابتداع لبلاغة جديدة في الكتابة، تتماس مع أسماه وأين بوث both “بلاغة التخيل” –في معناها الموسع، والمشتمل على مجموع التقنيات المستعملة من طرف السارد – او المؤلف – حتى يفرض على المتلقي العالم المتخيل، مستعملا في الأكثر جدور التخيل كي “تبرز مثل الواقع القائم” وتجربة كابوسيه معيشية، يتوجه بها النص الى المتلقي، فتطرح مسألة الممكن، والتأكيد على ضرورة تصديق الحكاية”.
(gilles marregaddo le statut du narrateur dans le récit…)
السرد في المحكي الفانتاستيكي بدوره “لا يقدر على تأسيس كيانه بدون وصف، غير أن هذه التبعية لا تمنعه من أن يقوم باستمرار بالدور الأول. فليس الوصف في الواقع الحال سوى خذيم للسرد، وفق دلك فهو خاضع باستمرار. إذ هناك أجناس سردية … يمكن للوصف ضمنها أن يحتل حيزا جد كبيرا”.
(gerrard genette : erontiére du récit… p 59)
فالسرد يتكون من قطبي القصبة والحكاية لإنتاج مفارقات زمنية وترتيب معين يطبع الرواية ويفتحها على أسئلة محددة.
كيف يصبح النص الفانتاستيكي سرديا؟ وما هي المميزات السردية في النص؟
إن السرد الفانتاستيكي يشكل علامة لها سماتها تجعل من الرواية لعبة كما يقول فرويد – السارد فيها يقوم بنشر علامات متعددة، كرونولوجية مدعومة ومكسرة باسترجاعات واستباقات وتقنيات زمنية أخرى.
هذه الاحداث العجائبية تجيء سابقة – في إطار ثنائية القصة، الحكاية – لزمن السرد، كما يمكن أن تتزامن مع أحداث لاحقة / متقدمة، مثلما هو الامر في روايات الخيال العلمي، اما الخطاب الفانتاستيكي فإن السرد فيه يحقق أنماط أربعة.
- السرد اللاحق: Narration ultérieure
- السرد المتقدمantérieure: Narration
- السرد المتزامن: Narration simultanée
- السرد المدرج (المتخلل): Narration intercalée
النمط الأول: السرد اللاحق:
في هذا النمط الأول يتموضع السارد في موقع يمكنه من عرض أحداث فوق الطبيعة، مادام الحكي الفانتاستيكي هو أدب الماضي – كما يقول روجي كايوا- (roger caillois : au cœur du fantastique, France , ed gllimard 1976, p :21).
وهو ما كان بورخيص borges يدعوا اليه، مثلما دعى الى ذلك لوفكرافت H.P lovercrofet . من قبله بقليل، أو باقي الكتاب الفانتاستيكيين. ومرد هذا أن سرد رواية فانتاستيكية في الماضي يعطي الأمان للمتلقي، ويوهمه بأن هذه أحداث العجائبية قد انتهت، ففي الماضي حرية ابتداع صور غرائبية بتضخيمها، وأيضا في روايات الخيال العلمي التي تنبني على رؤية مستقبلية تزاوج بين العلم والمتخيل[2].
إن السرد اللاحق المهتم بحي أحداث ماضية، سواء في الزمن البعيد أو الزمن القريب، هو المهيمن في الخطاب الفانتاستيكي، والمعتمد في أغلب هذه المحكيات، والتي تدخل في إطار التجريب الروائي مشفوعا بتقنيات تكسر إطلاقية الماضي، وتنوعه على الحاضر والمستقبل، فالسرد في الماضي العاجائبي هو صورة منعكسة عن الراهن المقعر بتناقضاته، ذلك أن “الفانتا ستيك ياعب على التناقض بين قطبي: التجدر في الواقع وجاذبية القبة الذي يولد بلعبه مع اللغة. ( gilles marregaldo,p :75)
الشيء الذي يعطي للمؤلف قول الماضي السحيق، أو الغريب حتى يتسنى للرواية أن تكون جديرة بالثقة، والماضي هو منطقة جاذبية، وانصهار العقلي بالا عقلي في إطار رؤية تتأس وسط هذا النسيج العجائبي، إذن بلاغة التخيل الفانتاستيكي تحكم قول الأشياء، بإبهام وتقنيات سردية لأحداث في الماضي، تثغيا تمرير الواقع في راهنتيه بطريق أخر، ف “النصوص التي تبتعد عن الواقع اليومي تفقد من قوتها الفانتاستيكية”
(jacques fine, la littérature fantastique : essai sur l’organisation sur naturelle – Bruxelles, université de Bruxelles 1980, P :147)
كما تهدف الى تأسيس مخيلة مفتوحة على الداخل المظلم، بالقدر الذي هي مفتوحة فيه على الخارج، الأكثر قتامة، ولعلى مقاربة أولى لأرواح “هندسية” كمقول فانتاستيكي، تكشف أن القول بالسرد اللاحق هو أيضا إبهام إجرائي الاستكمال إحدى مكونات هذا الخطاب.
النمط الثاني: السرد المتقدم: Narration Antérieure
وهو نوع يملأ الحيز الروائي بإخبارات تفيد الوقوع في المستقبل الذي هو الاتي، ويدخل في باب الغيب والحجوب، فيكون الروائي قد دخل عالما من المفروض انه مستعص، لكن طرائق السرد الاستباقي في هذه لا ترد في المحكي الفانتاستيكي بشكل إطلاقي – كما هو الشأن في العديد من الروايات الخيال العلمي، وإنما تجيء كتنويع سردي تستريح عليه الأزمنة الأخرى، وأيضا لتبديد بعض الغموض الناتج عن الحيرة والدهشة من تلك الأحداث – والذي تلزمه من حين لأخر تفسيرات معينة تأتي على شكل استباقات تشد المتلقي، مثلما لجأ الى دلك سارد “هاته عاليا، هات النفير على اخره” والذي أنتج الحكي بهذا النمط، عن طريق التلخيص المكثف لأحدث ستقع في المستقبل، وهو امتداد لما انتهت به “الجندب الحديدي”.
النمط الثالث: السرد المتزامن: Narration simultanée هذا النوع الثالث من السرد يلجأ إليه الخطاب الفانتاستيكي قصد الابهام بتزامنية الاحداث، كما هو الامر في “طرف من خبر الأخرة” وفي ” أرواح هندسية، سليم بركات” و “الريش”، حيث تبدو الأحداث وعملية السرد، كأنهما عمليتان متزامنتان. إن عنصر الإبهام هو خاصية تحكم هذا التزامن، بقصد الرفع من حدة التوتر لدى المتلقي، لاستيلاد الإدهاش والحيرة.
النمط الرابع: السرد المدرج (المتخلل):Narration intercalée
إن السرد المزدوج، يقوم مع السرد اللاحق على خلف نواة سردية واحدة، تسوق التنويع إلى مدرات تجريبية، تخصب الحكي، وتعطي للتصور وضوحا وجلاء بعكس ما يريد النص قوله، ولعل “وقائع حارة الزعفراني” تحفل بهذا مثلما تحفل عامة كتابات الغيطاني، من خلال بينات وبلاغات وتقارير ونداءات ورسائل حسن أنور الذهنية، الشادة ومقالاته الافتتاحية التي كان يكتبها باستهام كبير في مخيلته المنهرقة، (جمال الغيطاني: وقائع حارة الزعفراني، مصر، مكتبة مدبولي – ط:2 – 1985 – ص:156-157).
وتعددية الخطابات بين 85 الشخوص في الحارة، كل هذه الاشكال السردية تتأطر ضمن السرد المدرج، والذي ساهم في إعطاء المحكي الفانتاستيكي سلطة الايهام الفني بواقعية الأشياء[3]
وعلى مستوى السرد أيضا تطفو مستويات أخرى يولدها التجريب ، واختلاف الطرائف في تجسيد القول ، يتم استشفافها في العديد من الاعمال الروائية، هو ما أسماه “جينيت” بالسرد الابتدائي-الأولى- من جهة، ثم السرد الذي يأتي من الدرجة الثانية من جهة أخرى، ولهذين المستويين علاقة متلاحمة، فالأول لا يعرف الا بالثاني، في حين يتولد هذا الأخير من الأول، ويتداعمان في نسيج متكامل.[4]
وحيال ما سبق، حيث السعي قائم على استخراج جوهر العلاقة الرابطة بين هذين المستويين، فان هناك وظيفتين تعملان بدرجات متفاوتة في الخطاب الفانتاستيكي:
1-وظيفة ذات علاقة تفسيرية
2-علاقة ثيماتية
وظيفة ذات علاقة تفسيرية: Fonction explicative
هذه الوظيفة تحيل الى القول بالوظيفة السببية المباشرة بين احداث السرد الابتدائي واحداث السرد الثاني، هذا الأخير يؤدي وظيفة تفسيرية وتأويلية، توضح بعض الغموض في السرد الابتدائي.[5]
- كما ان “باختين” قد لامس بشكل أو بأخر هذه المسألة في معرض حديثه عن التعددية العفوية وأهميتها في خلق حوارية، وهذه التعددية هي التي يفصل فيها “جينيت” Genette من خلال راو يمثل السرد الابتدائي، وبدورهم يختلفون في درجات القرب والبعد إلى ما هو أساسي، وما هو ثانوي. والمحكي الفانتاستيكي يحقق هذا المستوى بامتياز، لأنه يعمل على هذه الوظيفة التي تشكل – حسب جينتين – الوظيفة اللا تفسيرية، كمكون من مكونات الخطاب [6].
- إن الاحداث الثانية، التي لا تخرج من صميم أحداث السرد الابتدائي، هي لتفسير الأشياء عمقتها بشكل دقيق لا مباشر وإعطاء دفعة جديدة للسرد الأول، كي تصرم أكثر وتكون نافذة مشروعة على الخيال بحرية فادحة، هذه السردية بين الوجه الأول والثاني تنتعش في الفانتاستيك كما انتعشت في المحكي العجائبي القديم، من ثمة نرى تسميتها بعد الاحتكام الى النصوص الروائية، بعلاقة الانسجام cohérence، لان العلاقة بين السرد الابتدائي والسرد الثانوي ترقى في الفانتاستيك من علاقة تفسير الى البحث عن الانسجام، او الابهام بهذا الانسجام في وصف عالم مفكك، بعلاقات أكثر تفكك. لا تربطها غير “وقائع غريبة”. لهذا فإن عنصر الانسجام سيقود بدوره الى عنصر أخر يسنده ويتكامل معه.
2علاقة ثيماتية:relation thématique
إن العلاقة الأولى، المتفرعة عن نوعي السرد هي علاقة تقوم بوظيفة تفسيرية تقوم على الانسجام، دون التخفيف من صدماته الحدث ومفارقته، حيث أحداث السرد الثاني محتفظة باستمرارية زمكانية، الاحداث فيها قريبة جدا ومرتبطة، في ما أن العلاقة الثانية هي علاقة ثيماتية تفتقد لتلك الاستمرارية الزمكانية بين السرد الأول والثاني لتؤسس بديلا عن هذا،يقوم على التباين أو التجانس. فأحداث السرد الابتدائي تختلف عن أحداث السرد الثاني، والتي تجيء معاينة لتعطي رؤية مختلفة، وأعمق للأحداث الابتدائية، فتضيء جوانب الحدث البؤري، إن بأحداث قريبة أو بعيدة تتساوق والحدث الأول كي تنسج عليه حكايات تمدده وتشعذ مداه بما يعطيه نفس الاستمرارية.
أهمية هذه العلاقة، أنها ذات دلالة صلبة، فعن طريقها يتم تعضيد الفانتاستيك، ومنحه أبعاد إيحائية عدة، كضرورة الوظيفة التفسيرية، كلاهما يعطي للسرد الفانتاستيكي بعده الحقيقي، المؤسس لخطاب تجريبي قادر على التقاط كيان الشيء، وظلاله المتباينة والمتجانسة، في أن واحد، وهو لا يكتفي بهذا، ولكن هناك تنوعات متعددة تعددها ليس شكليا فقط، بل إنه يساهم في إنتاج رؤى أدق، وفعالة تمنح الخطاب بعده الفلسفي والايديولوجي، وتخصب فيه التجريب، والطرائق الجديدة، في الكتابة الروائية، شأن أعمال سليم، بركات التي تبلغ درجة عالية من التجريب والطرائق الجديدة في الكتابة الروائية، شأن أعمال سليم بركات التي تبلغ درجة عالية من التجريب جنب أعمال روائيين أخريين، عن طريق استعمالهم لتقنيات سردية دقيقة كالحذف والالحاق، والاضافة والابدال. (جاء عرض هذه التقنيات المساعدة للسرد، بتفصيل عند جماعة M خصوصا في الفصل الخالص بالسرد GROUP M :réthorique général, France ,éd .seuil 1982)
فالحذف يظهر لما يلغي “الترهين المسرود” الفضاء الداخلي، ويستوعب الخارج، سلوك الشخوص، كما نستطيع أن نتحدث (في السرد) عن حذف كلي لما يكون السبب كشيء مجهول من المؤلف، وهو مثال بعض المحكيات الفانتاستيكية، وبعض المحكيات الاستباقية، مثل هورلا horla (group M : rhétorique général, seul)، فالسرد لا يكتمل مند بدايته، كما أنه لا يقدم كل شيء، وإنما هو متدرج يستعين بالملحقات (مثلما هو الشأن في واقع حارة الزعفراني) أو الزمن الماضي، واللغة (أرواح هندسية، وطرف من خبر الاخرة، الريش) او بالذاكرة ( ذاكرة عواد، او راوي أبواب المدينة واوراق الشباب… والحفيد في طرف…) إن حذف الذي يكتسب تجليات عدة بالنسبة للسرد الفانتاستيكي 88 أساسي لأنه ثقوب سوداء تؤجج ما هو طبيعي، وتجعله مساهما في خلق الحيرة والعطش الى المعرفة.
وقد استطاع السرد الفانتاستيكي تأسيس توجهه التجريبي، بتخطيه للسرد الكلاسيكي، في صورته الهشة، مع الاحتفاظ ببعض المقومات، كالتي كانت تستعملها المحكيات العجائبية، بحيث يبرز السرد راهنا كمكون رئيسي في الخطاب الروائي، الفانتاستيكين من خلال وضعية السارد الذي يختلف بالصورة عن سارد الرواية عموما سواء في روايات الخيال العلمي او الروايات البوليسية، او في باقي المجالات الأخرى القريبة فالسارد الفانتاستيكي له خصائص ومكونات، وحدود يشتغل عليها بأحداث فوق طبيعية.
أولا: السارد الفانتاستيكي
السارد في الخطاب الروائي، كائن تخيلي يعمد المؤلف الى خلقه، حتى يدعم سلطة السرد، انطلاقا من وضعية التي هي وضعية إنتاج كلام، وسط تعددية أصوات تشكل النسيج الحي للرواية[7].
ويأتي مبعث السارد الفانتاستيكي، فهذا الباب، ضمن نسق نظري عام يعي مزالق البنيويين، وينظر الى السارد ضمن رؤية جدلية، انطلاقا من المثون الروائية الفانتاستيكة التي تحقق فرادة ساردها، وجدلية التي تسمح ببناء نسق تأويل للمحكي، ذلك أن رؤيتنا للسارد تتأسس من منطلقات تجريبية للتمحيص النظري، والاستئناس به، وهي إمكانية تتيحها الروايات الفانتاستيكية التي تخطت الطرائق السردية الكلاسيكية في خطوطها العريضة لتسطر برنامجا سرديا جديدا، يتلاءم والاحداث الفوق طبيعية، كما أن هذا المبحث يطرح مسألة تحديد هذا السارد وهويته داخل المحكي الفانتاستيكي. فهو مرسل للكلام، يتعين بنفسه في النص دون وسيط أخر، (B. combattes-j fresso- R. tomassone, de la phrase au texte, éd delgrave 1979 ; p5)
موكول بعملية الاخبار، وإيصال حكاية 89 بأحداثها، انطلاقا من وضعيات مختلفة، يحملها تصور “غولستاين” في ثلاث أنماط(idem p :8) تتنوع بين السارد والمؤلف:
- في النمط الأول: يكون السرد عن طريق السارد الذي هو المؤلف الحقيقي، بمعنى أن هناك تطبيقا بين السارد وبين المؤلف الحقيقي، وهذا النوع يجيء في السير الذاتية.
- النمط الثاني: هناك تقاطع بين شخصية المؤلف مع السارد في نقط عدة، على اثرها يتم تقاطع ما هو واقعي بما هو متخيل[8]. هذا التقاطع يقضي بالنسبة في رؤية الأشياء، حتى تغدو كل رواية اغتراف من الذاتي وغير الذاتي، من العقلي واللا عقلي، من الطبيعي والفوق طبيعي، لكن الضلع الواحد من هذين القطبين، المشكلين للرواية، يكون أكثر تجذرا من الضلع الاخر، فهذا التزاوج والتقاطع بين المؤلف والسارد هو محاولة لإبهام بواقعية الحدث، وتمرير التعجيب للمتلقي عبر أرضية الواقعي.
- النمط الثالث: وفي هذا النمط يكون التمييز العام فاصلا بين السارد والمؤلف.
“فالعناصر السردية تجيء بالضرورة لإقناع القارئ، واسترفاع المفارقة التخيلية التي تتمظهر كواقع” (Gilles Merregaddi, le statut.P :87 ) ومهمة السارد هنا 90 هي خلق الإيهام المحادث للأحداث انطلاقا من تموضع الذي يؤطر علاقته بالحكاية، والتي تجيء في ضربين اثنين.
- السارد الملتحم بالحكاية: narration homodiégétique
وهو السرد المتضمن في الحكاية، ويشغل وظيفتين في ان: فهو راو ومشارك في الأحداث، وغالبا ما يتم الحكي هنا بضمير المتكلم…
وهو أمر نادر في المحكيات الفانتاستيكية التي تلجأ الى ضمير الغائب والى السارد غير المشارك، كنظر الطبيعة الاحداث الفوق طبيعية. لكن تجريبية الرواية الفانتاستيكية الحديثة تغامر بارتياد هذا الضرب شأن “الخمسة اللأمرنيين” الرواة العجائبيون، الذين “ينصبون للرواية فخها الخيالي”.
ب-السارد غير ملتحم بالحكاية: Narration heterodiegetique
ويتعلق الامر هنا بالسرد الذي يحتفظ بوظيفة الحكي دون اشتراكه في أحداث الرواية، مستقلا عنها، غائب عن مجاريتها كفاعل، ولكنه حاضر كمنظم للحكي، يعرض الاحداث، ويربط بين أصوات الشخوص التي يقدمها…
وهذا الضرب له هيمنة السرد الفانتاستيكي، بالاستعمال ضمير الغائب…
إن “السارد يهيمن على قارئه، وعلامة هذه الهيمنة هي استعمال الماضي”
(jacques fine :p127 )، الذي يجد فيه فسحة لخلق العجائبي، وهنا أيضا يأتي فهم الماضي في الرواية الفانتاستيكية مخالفا للماضي، كما هو في المحكيات العجائبية الكلاسيكية في النثر العربي القديم، هذا الأخيرة التي تلجأ الى الزمن القديم جدا الاغتراف الخارق، الذي يسوغ كل شيء، لكن ماضي الرواية الحديث، هو ماض قريب من واقع متعين يفهم بالقرائن، فهو المهيمن مادام الماضي الذي يتحدث عنه “مجيد طوبيا” يحيى الظاهر” و”الياس خوري” وغيرهم، وهو زمن يقع في الحاضر والمستقبل.
ان السارد الفانتاستيكي ملزم بالتوفر على الشروط منها أن يكون جديرا بالثقة (le statut, idem, p :75)، وقادرة على معالجة الخطاب حتى يسوغ الحكاية، ويقنع المتلقي بالخيال، وكثافة المفرزة لأحداث الحكاية التي تولد فيه الحيرة والتردد والاندهاش، كما “يعمل على حلمنا الثقيل الخارق” (charies schsel : idem p :35(in récence , tfer)، مثلما ينفي من حديثه أي معنى يؤول إلى المجاز، بالإضافة إلى توفره على تقنيات تشغيل الازمة 92 بالإيهام والتكسير، في إطار استعمال الماضي، حتي يكون حقل التلقي واسعا، (jacques finne, idem, p :27) ، ويستطيع السارد فرض وجهة نظره المضفورة وسط رؤى الشخصيات المشاركة.
انطلاقا من هذين الضربين يمكن رؤية السارد من خلال ثلاثة أنماط أو رؤى يتمظهر فيها وهي:
- السارد البطل: وهو الذي يظهر ملتحما بالحدث، كما يكون الحدث منصبا عليه، في مجمل فصول الرواية، عن طريق الإضاءة القوية، قصد إقناع المتلقي مستعملا جميع قدراته في الحكي عن ذاته ببناء موضوعية مزعومة، وعن الاخرين في ابرازهم شيء يربطهم بالحدث، عن طريق بقائهم النفسي والعقلي.
- السارد الشاهد: والذي يرى الاحداث، وليس كمشارك، بل كشاهد (طرق وقائع…)، كلاهما شاهد يروي أحداثنا وفي سرده “يتأرجح بين قطبين اثنين” البوح والتحكم révélation et occultation، فهو يتعهد القطب بلغة تلميحيه تؤخر الكشف عن الجوهر، (la statut p :84))، عن تفسيرات عقلية او فوق طبيعية للحدث الفانتاستيكي.
- السارد المجهول: هو الذي يبقى مجهولا، لا متاعنا في نظر المتلقي، والاحداث تفاجئه، وهذا النمط نادر، فيما ينهض السارد الملتحم، أو غير الملتحم بالحكاية بعمل معرفة معينة، يختار عن طريقها تجسير السبيل بينه وبين المتلقي، بالرؤية أو المنظور السردي، والذي هو إجابه عن السؤال: من يرى؟ ومن أي موقع؟
- الرؤية من الخلف: التبئير الصفر-بتعبير جينيت.
- الرؤية مع أو التبئير الداخلي للكوابيس.
- الرؤية من الخارج: أو التبئير الخارجي.
← التحقق من الرواية الفانتاستيكية.
2 ثانيا: وظائف السارد الفانتاستيكي:
- الوظيفة السردية: هي وظيفة بديهية بالنسبة للسارد، مادام السرد هو السبب الذي وجد من أجله، فهو يروي أحداثا ويركب خطابات يضمنها رؤيته الفنية والأيديولوجية، تجعل هذه الوظيفة معقدة، لتواجده وسط أحداث فوق طبيعية، مطلوب منه إيصالها بتقنيات معينة تجعل المتلقي مقتنعا بها بعد حيرة، تتحقق هذه الوظيفة الأولى كضرورة، في كل المحكيات الفانتاستيكية لأنها تتعلق بتقديم مجموعة معلومات يتمخض عنها حكي وخطاب.
- وظيفة التنسيق: وهي الوظيفة الثانية التي تكمل وظيفة السرد، بلجوء السارد الى التنظيم الداخلي للخطاب، مهما بدا مشتتا-انطلاقا من الربط والتذكير بالأحداث، وخلق 95 إشراقات للدهشة والإشارة والتنويع في الربط. وقد كانت المحكيات العجائبية القديمة في النثر العربي، تتميز بهذه الخاصية عن طريق جمل مثل “سوف أحك لكم” إنها حكاية غريبة ترتعد لها الفرائص…وما شابه هذه النماذج، والتي هي للتنسيق بين اللحظة الصفر، لتأسيس تشويق ابتدائي لما سيأتي من احداث، وبين المتلقي المتلقي للأحداث، وهو في حاجة الى التنسيق بينهما، أما في الرواية الحديثة فان السارد “الحقائق القديمة” وكذلك “تصاوير من التراب والماء والشمس” يقوم بالتنسيق على مستويات ثلاثة. فهو يقدم الكلمة للمخمور والدركي مباشرة مكتفيا ب “قال المخمور” و “قال الدركي لنفسه” أو “حكي لصاحبته” وهي جمل رابطة لجسور الحكي، نحو ربط جسور أخرى من إشاعات متخيلة بين الواقع والمتخيل. إن وظيفة التنسيق في المحكي الفانتاستيكي يمكن رؤيتها بجدل أكثر خصوبة، خصوصا من زاوية كيف ينسق السارد للتواصل بينه وبين المتلقي لأحداث عجائبية؟
- وظيفة الإبلاغ والتواصل: وهي وظيفة السارد الثالثة، والتي يتوخى منها إبلاغ خطاب ما للمتلقي، فيأتي أخلاقيا او غير ذلك، على لسان الحيوان كما يجيء عند الطاهر عبد الله في “حكاية على لسان الكلب”، وفي هذا الباب تدخل محكيات الخوارق والتعجب الموجهة الى الطفل، تتقصد مغزى معين من ذلك. فهذه الوظيفة يمكنها ان تتجاوز هذا الى ما هو أعم وأشمل 96 ان إبلاغ المتلقي أحداثنا فوق طبيعته تولد فيه الحيرة والتردد، وتجعله بين قطبي التصديق وعدم التصديق، ويصعب أن نجد “في المحكيات الفنتاستيكية” مغزى معين يحرص المعنى الاشمل لها، ويقيده في خانته الأخلاقية، أو إيديولوجيا، إن الرواية في نهاية الامر هي أشياء متراكبة وعدة، تفصح عن أشياء غير مقولة، أو حديث بما همشه العقل ونفاه، “المنطق” إنها حرية المتخيل واللاوعي، وإدانته يعبر عنها بالسخرية او الرعب، تستغل عدة قنوات تقنية حداثية، لتبليغ هذه الإدانة، وإيصال القارئ الى منطقة الحيرة والتردد وهي منطقة الوعي، بما هو محتمل، وما ليس بمحتمل، ودعوة جديدة لرؤية الواقع والنفاذ الى عمقه المظلم الرهيب.
- وظيفة انتباهية: وتعزى الى السارد يقوم بإيجاد مكان للمتلقي وسط المحكي، حيث يوجه إليه السارد، الخطاب تنبيها أو سردا، والحكي في هذه الروايات لا يتوجه الى كائن معين داخل النص، لكن السرد الفانتاستيكي يفترض قارئا، والاحداث الفوق طبيعية، تعمل على إثارة انتباهه، كي يكون مهيئ لما سيأتي.
- وظيفة الاستشهاد: يتكفل السارد بإنجازها، كجزء من وظائفه المتعدد وتتجلى في إثبات السارد، بإنجازها، من وظائفه المتعددة وتتجلى في إثبات السارد – ان في خطابه المقدماتي او في نصه الروائي – للمصدر، او المصادر التي استمد منها معلوماته، كما جاء في “أوراق شاب” وهو استشهاد ابهامي في المحكي الفانتاستيكي بحيث تكون الذاكرة هي المصدر البهي “الشأن” “دوائر ” حيث يلجأ “مجيد طوبيا” الى الفلكلور الشعبي المختلط بما هو سحري وعجائبي لصوغ نسيج محكي فانتاستيكي كما يعمد السارد الفانتاستيكي الى الحلم والاستهام كمرجع مرفود بمصادر أخرى، (الريش، طرف …الخ). إن المخيلة، بكل مستملاتها تبقى هي الحقل المصدري الوحيد، وليس بالإحالة على الواقع، تلميحا أو تصريحا (أرواح هندسية، الريش…) وهذا اللجوء يبقى ذا وظيفة تكسيرية، من تصاعدية التخبيل، بالإضافة الى الوظائف الخمسة السالفة (إن هذه الوظائف السردية هي وظائف توجد في جميع النصوص بدرجات متفاوتة، لكنها في المحكي الفانتاستيكي تتخذ وضعية أخرى مشابهة للعديد من الاعمال الروائية.
[1] بصمات:
-المتخيل في الثقافة المغربية.
– حول الاجناس الأدبية.
العدد: 4 جامعة الحسن الثاني المحمدية كلية الادب والعلوم الإنسانية، ابن مسيك الدار البيضاء.
[2] المرجع نفسه: ص84
[3] المرجع نفسه: ص 85-86
[4] المرجع نفسه ص:86.
[5] المرجع نفسه ص:86-ص:87
[6] المرجع نفسه ص: 86-87
[7] المرجع نفسه: ص89-90