تحليل مسرحية “هكذا تكلمت ميديا عن التفكير في زمن التكفير”

إنجاز: د الغزيوي أبو علي / باحث

تقديم:

يعد العنوان من بين الوظائف المتنوعة، لا تتوقف على جذب انتباه القارئ، وإنما أيضا على إثارة تشويقه، لأن الغاية هي حفز المتفرج على إرجاع القصة الدرامية لهذا تفتن الأستاذ ابراهيم الهنائي في صياغة العنوان كي يكون جذابا ومستفزا وأن يستخدم المتلقي الدرامي تشغيل خلفياته المعرفية لتحديد البعد النحوي والدلالي، وأيضا تحديد الفضاء الذي تجري فيه الأحداث لذا أقترح الفضاء الذي تجري فيه الأحداث الذي تجري فيه الأحداث لذا أقترح أن تكون هذه القراءة عبارة عن جهاز مفاهيمي تتمتع بمرونة فائقة لكي تفجر هذا النص لمعرفة من يتحدث؟ وكيف يتحدث؟ ومن يتحدث ولمن يتحدث؟ إنها جنس يبحث عن ذاته ويفحصها ليعيد النظر في كل الأشكال المكتسبة والموظفة، فهي ليست منطق الحكي الذي يتكون في دائرة العلامة، بل هي ممارسة تربط بين المؤلف والعالم الخارجي بصورة متخيلة، لأنه يحرص بين توقعات الجمهور وبين ابتداع مدونات الحكاية لإثراء الواقع.

لقد عمل ابراهيم الهنائي على تحقيق مشروعه الدرامي ليتجاوز المنهج التأثري والذوقي، وهذه القفزة النوعية أظهرت للنقاد أن المسرح هو علم الجمال والفلسفة والميتافيزيقيا والتاريخ والسياسة، والتجربة الدرامية الغير النهائية، والحضور المرجعي والمنهجي، يقول “حسن المنيعي”: <<لا يستطيع أن يقوم بدوره إلا إذا وجد المادة التي تخول له تحقيق طموحاته الفكرية، لذلك فإذا كانت الحركة المسرحية عندنا قد عرفت ازدهارا خلال الستينات، فإن النقد قد عرف أيضا ازدهارا مماثلا، لأنه كان يتحرك فوق أرضية فنية خصبة، كما كان يمتلك أساليبه الفنية خصوصا عند بعض النقاد العارفين والذين ولجوا هذا الميدان بعد أن تشبعوا بثقافة مسرحية ساعدتهم على تحليل العمل المسرحي وكشف أبعاده الفنية وتأويله من خلال منظور إيديولوجي وعملي>>1، يسعى ابراهيم “إلى تطوير ممارسته عن طريق شحن أدواته، ومساءلة إنجازاته إحساس بموضوعه في إطار التعالق الحاصل بين الدراسات النقدية وين الدراسات اللغوية والفلسفية، حيث نجده يصوغ لغته الواصفة الممتلكة للأسس النظرية والاصطلاحية ليقوى بها على نسج أنساقه وسننه الخاصة، وليستطيع أن يفتح أفاقا جديدة في الدراسات النقدية المعاصرة، وإذا كان كل نص يقوم على نقد الذي يدفعه ليكتسب هذه الصفة المنهجية، فإن النقد المسرحي يتميز بلغته الاصطلاحية والتحليلية ويريد لنفسه <<أن يكون نقدا شاملا يتعامل مع العرض المسرحي ككل، أو كبنية مكونة من مجموعة عناصر أو أحداث دالة يمثل النص أبعادها>>2.

يقصد من كل هذا أن منهج تجاوز دلالته اللفظية والمعجمية لتأطير تصورات فكرية ونقدية، وليقوى على تشخيص وضبط المفاهيم التي تنتجها المعارف ممارسة وتنظيرا، فالمسرح بهذا المعنى هو الذي يستطيع الإمساك بالعناصر الموحدة للمفهوم، قصد التمكن من انضباطها في قالب لفظي يمتلك قوة تجميعية وتكثيفية، وإذا كان هذا المنهج كقوة تفكيكية وتحليلية، فالاشتغال به كأداة وكقوة فاعلة وكقدرة على التحكم في المعرفة، كضبط لأنساق العملية الدرامية3، ولتمكن ابراهيم من إظهار الانسجام القائم بين المنهج والمفاهيم، لأن فعل التحديد يشترط لتحققه أن يحافظ على العناصر المفهومية التي شكلته، ويتمكن من خلق تواصل متبادل بينه وبين النقد الذي ينتجه ويدفعه، وبين الموضوع الذي يريد معالجته، لأن المسرح في حاجة إلى تبيين ما يجري معه من أفكار ومفاهيم، سواء كانت مفردة أو متعددة وسواء كانت هي التي يكونها عبر تشكله من حقول منهجية متنوعة، والمنهج بهذا المعنى أذاة واصفة وذات جوهر متنوع، وليس دالا فقط وإنما أداة ترسخ كل أنماط التفكير الراغبة في البناء المفهومي4، هكذا نجد أن للمنهج المتبع انتماءات إلى الأصول الفلسفية والتاريخية والاجتماعية واللسانية والنفسية5، هذه الانتماءات عملت على تطوير الفعل الدرامي بغية استجلاء حمولته الفكرية والمفهومية، خاصة وأن أغلب الأدوات التي وظفها مستوحاة من حقول معرفية ذات مرجعية غريبة، أو أنها تحمل دلالة تراثية لأنها ستحدد مسار البحث في مسافة معينة لتحصل أخيرا الاستجابة عبر مجموعة من الآليات التي تخدم الموضوع أو الروائز المرتبطة بالموضوع ذاته أو بفضائه الخاص.

إن ما يثيره هذا التعامل المنهجي مع النص الدرامي، هو الغاية المنهجية والمعرفية، لأن تقديم المنهج من صميم المكاشفة والمثاقفة، بحيث يدرك ابراهيم أن مفهوم الاستجابة بين النص والعرض، والخطاب الدرامي المقدم من طرف المؤلف والمخرج والناقد، في تنوعها وأهميتها، من شأنه أن يطرح علينا الأسئلة التي تثور المفاهيم ولتؤسس الفعل المنهجي، ولكي يتحقق ذلك التعاقد الضمني بين النص والعرض وفي ذاكرتنا لتنسج تأويلات في مخيلتنا وفي إحساسنا، لأن التفاهم يضع الوحدة القرائية والمنهجية في إطار وظيفة تواصلية، لأن في هذه الحالة تشتغل المناهج بمثابة مؤشرات، من هنا لا يمكن التعبير في أصالته، إلا في إطار الحوار الذي تبنيه وتؤسسه الذات مع المناهج ومع نفسها، أي في إطار ما سماه “هوسرل” بالحياة المتوحدة للروح La vie solitaire de la vie، فالتوظيف المنهجي علامة ممتلئة بإرادة ارمز والقول كإرادة تخييلية وتدوينية تسبق فعل القول، لأن المنهج ينطلق من داخل الذات وبما أنه تعبير خالص فهو لا يرتبط بأي عنصر يتعلق بالزمكان والقصدية التي هي من صميمه لا تتوجه إلى العالم الخارجي، يقول “جاك ديريدا”:  <<فالخطاب التعبيري لا يحتاج بصفته كذلك، وفي ماهيته أن يكون متلفظا به فعليا داخل العالم>>6، فالقراءة توليد وإخراج للدلالة ولمحتوى الإدراك المنهجي، هذا التوليد لا يبني أية علاقة مع العالم الخارجي ولا يرتبط بالغير، بل يجعل الذات ترتبط بالتطور المنهجي وتسمح بفهم المرجعيات المتحكمة في هذه المناهج، لأن الذات المغربية عرفت القطائع الإبستيمية مثل الغرب، واستوعب الشرائط المنهجية في صيغة عقلانية أو اختيارية.

لا يمكن الحديث عن الشروط الاستيعابية ولا الإفهامية ولا التوظيفية إلا في الإنصات للنص وللحياة الموحدة للروح يقول “هوسرل”: <<إنني لا أوصل شيئا إلى نفسي، إنني فقط أتمثل ذاتي كذات متكلمة ومتواصلة>>7، لهذا فإننا لا نحتاج إلى أن نبرز ذواتنا من خلال الكلمات، بل ينبغي اختزالها في شكل قطائع تاريخية وإبستيمية قصد خلق علاقات يمكن أن تبني قارتنا من خلال الكلام بصفة خاصة، وبمعنى آخر، إن الاستراتيجية المقترحة تجد مدى غرضها في معالجة هذه المسرحية لأن التيمات التي تثوي وراء هذا الهدف تقوم على أرضية صالحة للحقائق، إنه يعتبر المسرح وحدة كلية لا فرق بين مستوياتها التداولية، مقصدية هذا الهدف تتجه إلى اعتبار النص المسرحي مجرد وسيلة تستهدف ربط أواصر الاتصال بين الناقد والنص على مستويات، لا يتم التصريح بها، فالمبدع وعى بوظيفته الأدبية والفنية، وقادنا إلى مواطن هذا الوعي ليضعنا في بؤرة تسمح لنا بامتلاك متعة الجمال والقراءة، ولذة الحوار والجدل المستمر مع مكونات الثقافة المسرحية، مما نتج عنه نظريات في المسرح العربي والمغربي، مدخلا للحديث عن هذا المنهج الذي يتحرك داخل سياق حركة النقد بكل تنوعات مقدماته ونتائجه، وتفكير في الواقع العربي كإشكالية عامة التي وجهت الخطاب النقدي منذ بداية نشوئه داخل الأسئلة النهضوية والحداثية، هذا التنوع يجعلنا نجرؤ على وصف هذا النقد بأنه عتبة ثقافية لا ينفصل عن الممارسة النهضوية، يبحث عن إنجاز فعال يحول الواقع من حالة إلى أخرى.

ونرى أن المؤلف وظف الحوار، واللغة الدرامية والإرشادات المسرحية، والإكسسوارات والشخصيات والزمكان لتكون هذه القراءة عن محاولة ترقى إلى مستوى الإيحاء، وتضاهي التيارات الدرامية والسردية، إذن يرد هذا الفعل القرائي في هذا المتن المدروس لكي يكون عبارة عن استراتيجية تستكنه أولوياته في حيتياتها النفسية وملابساتها الدقيقة، لأن اللاشعور النصي هو بنية لغوية حسب لاكان (كتابات ص145، وأيضا فلسفة اللسان يدمجنا في الفنون المتحررة)، فالمؤلف يقربنا من غاستون باشلار لكي يظهر لنا كل العناصر المادية المكونة للخيال الثقافي التي تختلف من نص إلى نص ومن خلال اللحظة التي يأخذ فيها الكون معنى عملية بواسطة اللغة التي تمثله وتشكله كما يرى جون بيير ريشار، إن هذا الخلق هو إبداع ثاني للذات والعالم والإنسان، ومن عمق النص يتجلى المعيش، والموت، والإرهاب ويحتل كل هذا عمق المؤلف كما يرى باشلار (الشعر والعمق) ص10.

إن استحضار الشخصيات والبعد الزمكاني واللغة، والديكور كلها تيمات تتداعى بشكل لا إرادي في ذهن المؤلف، وتكون في أسطورته الشخصية التي تزيح النقاب عن إبداعه وخلفياته، لأن اللغة هي معطى اجتماعي ودائرة من الحقائق المجردة حسب رولان بارت في كتابه (لذة النص) ص29، أما الأسلوب فهو بدوره صوت مزخرف يعمل كما تعمل الضرورة، يتصل بالذكرى المنغلقة للذات، فهو سرد مغلق كما يرى بارت في (درجة الصفر في الكتابة) ص10، أما الكتابة عند المؤلف ابراهيم الهنائي هي واسطة بين اللغة والأسلوب، إنها الأدب المضاعف، ومنطقة الإبداع وهي مجال ممارسة الحرية كما كانت عند زرادشت، فاللغة تتسم بالعلامة، أما الأسلوب يخترق هذه اللغة دون أن يسقط في أسير سلطة بيولوجية (الذاتية) وينفصل عن القوى الاجتماعية.

فالكتابة الدرامية عند مؤلفنا ضد سلطة اللغة الاجتماعية، والأسلوب البيولوجي، فهي جدلية تربط بين الحرية والضرورة، فهي موضوع الشعرية، إنها حرية تعترف بالآخر المهيمن في صورته الجماعية (اللغة) والفردية (الأسلوب)، لأنها تظهر لنا الشخصية المضمرة كما يرى شارل مورو في كتابه (التيمات)، لأن الحرية المفقودة عند الحاكية هي عدم اعتراف بها عندا الآخر، وعلى هذا الأساس، فالكتابة الهنائية هي التلقي بالتاريخ، التاريخ هو وعي بالمجتمع الذي حدث في الزمن وسيحدث في المستقبل، فالكتابة الهنائية إذن هي نمط من الجدل وتركيب بين التيمات المتناقضة وبين الضرورة الاجتماعية والحقيقة الفردانية.

المراجع:

1– حسن المنيعي: حول أزمة النقد المسرحي، مجلة المحرر، عدد 1021، 20 غشت، 1977، ص8.

2– محمد مسكين: حول النقد والتنظير في المسرح المغربي، مجلة الأساس، ملف خاص حول المسرح، عدد 16، سنة 1985، ص13.

3– عبد الرحمان بن زيدان: إشكالية المنهج في النقد المسرحي العربي، مرجع مذكور، ص111 إلى 169.

4– Emilie Benveniste : Problème de linguistique générale, coll. P286.

5– انظر أسئلة المسرح العربي، النقد والدراما، المسرح في مفترق القراءة لعبد الرحمان بن زيدان.

6– J. Derrida : La voie et le phénomène, P.U.F, 1967, P34.

7– E. Husserel : Recherches logiques, trad : Français, H / elie, R. Vel. R. Scherer,   Tome II, éd, P.U.F, Paris, P42.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *