بقلم الباحث : ابو علي الغزيوي
لقد ظل التاريخ وفيا لمبدأ الذاتية والوحدة والفردانية، وتتحدد بمنطق التناسب والمنسجم، غير أن ظهور تيارات حداثية وما بعدها، بدأت الأرضية تتعرض لهزات عنيفة تتجاوز المعجم التاريخي الفيلولوجي، الشيء الذي جعل الباحث سمير بوزويتة بطرق عدة أبواب قيمية وإنسانية بشيء من رؤية حضورية التي لا تتنافى مع السلطة المغايرة، فيبقى البعد الحضوري البوزويتي خاضعا للدرس التحليلي والتأويلي وهذا ما سنراه في العناوين المدونة عنده، لأن سمير بوزويتة لا يفكر من خلال المؤسسة السائدة، بل يتبع منطق اللعبة ليفتح إمكانية البناء الممكن للاقتراب من الزوايا التاريخية المرتبطة بالمجتمع، فالتاريخ عند المؤلف سمير بوزويتة هو اختلاف ولا تحديد لمنطق التناسب والوحدة والكلية، لأن سمير في اختياراته المعنونة هو إثبات لفواصل الذات رغبة في الوصول إلى الجوهر، عبر التعدد والتنوع وليس عبر الوحدة، ورحلة تاريخانية تبحث في المثقف والمختلف وفي التضاد قصد القبض على المتقابل، لكن السؤال المطروح: كيف يختار المؤلف العنوان؟ وما هي مرجعيته؟ وما علاقة العنوان بالمؤلف؟ هل العنوان له علاقة بالمتلقي؟ أسئلة تتنوع وتتعدد تبعا لسنة التطور وقانون الممارسة الإبداعية، فسمير بوزويتة يمارس التعدد لكي يتخذ العنوان جوانيته كإمكانية تاريخية متطورة وكمعنى مشترك بين العنوان والمؤلف ليجعل ملكات المتعالي ينتعش، وأن يكون العنوان كأنطولوجيا جديدة يفكر من خلال الحاضر والماضي.
فالباحث سمير يهدف إلى تقديم عناوين تراعي مستوى القارئ، وفي الوقت نفسه علام التضحية بالجانب العلمي والمعرفي، عبر تقديم معرفة تاريخية لتتيح المتلقي لتكوين رصيد منهجي أساسي، يؤهله لمزاولة تحليل العناوين، وقراءته خلال كل مراحل حياته النصية، لأن امتلاك العناوين الموجهة ضرورة تحفز المتلقي على إقامة علاقة مع النص المقروء، عبر الاحتكاك به، والتساؤل عما يزخر به من قضايا إنسانية ورمزية، ولهذا فهو من بين هذه الأهداف التي يسعى إليها المؤلف وذلك من خلال تحليلات عناوين تيسر على المتلقي في ملاحظة وتفسير النص وفهمه وتأويله، حيث لم يبقى التاريخ مرتعا لتلقين المعلومات، وشحن المتلقي بها، وإنما أصبحت مطالبة بتغيير أفق انتظاره، وهذا ما حتم عليه اعتماد المقاربة بالكفايات، لكونها تعد مدخلا جوهريا للتحديث البيداغوجي التاريخي، والمراهنة على إعداد القارئ على مسايرة تيار العولمة.
فالعناوين هي التي تحفز القارئ على قراءة هذه المؤلفات بطريقة منهجية عقلانية، والتوقف على مواطن قوتها، واكتساب بعض المهارات التاريخية التي تؤهله لقراءة هذه المؤلفات، ومن بينها بيعات أهل الصحراء المغربية للسلاطين وملوك الدولة العلوية، وتجارة العظام البشرية خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومكر الصورة – المغرب في الكتابات الفرنسية (1832 – 1912)، العلاقات المغربية النمساوية الهنغارية – الاحتلال العسكري الفرنسي للمغرب (1912 – 1934)، المغرب وبلجيكا – التاريخ والذاكرة المشتركة ليوطي ومؤسسة الحماية الفرنسية بالمغرب (1912 – 1925)، توحي لنا هذه العناوين بصور متنوعة وغير متناهية، وغالبا ما تكون مرفقة برسالة زمنية تحد من التأويلات المضفاة عليها، وتضطلع هذه العناوين كما قلت بوظيفة تثبيت عناصر المرحلة الزمنية، أي أنها تحيل على السؤال الآتي: كيف نقرأ هذا التأريخ المعاصر؟ وما علاقته بواقعنا المتحول؟ تتكون هذه العناوين من إيحاءات معينة من خلال تأطير عناصرها وإدماج أبعاد ثقافية ورمزية فيها على مستوى التأطير حيث يحاول الدكتور سمير بوزويتة أن يتعامل مع اللحظة الاستعمارية كما لو كانت صورة فوتوغرافية ملتقطة بالآلة المصورة، وفي هذا التصوير يتبادر إلى أذهاننا أن المؤلف يشير بالصورة التي عاشها المغرب سواء مع فرنسا أو مع الدول الأخرى، أما على المستوى الرمزي والمعرفي يتضح من خلال التحديد الزمني الذي ينتمي إلى حضارتين مختلفتين (ثقافة المركز وثقافة المتخلف)، حيث أن المؤلف يختار هذه العناوين لتؤشر على انطلاق الأحداث، ويحدد حجمه بالنظر إلى الغلاف الزمني لكي يشكل نية تناصية متواليات متسلسلة منطقيا، وتتخللها استرجاعات تميط اللثام عن البواعث الحقيقية التي استمدها من الذاكرة المنسية، لأن الأحداث تتعاقب بطريقة كرونولوجية، فهي لا تخلو من مفارقات زمنية تبين أن زمن الحكي لا يسير على وثيرة متسلسلة، وإنما تتخلله ارتدادات إلى الوراء (الاستراجاعات) أو قفزات إلى الأمام (استباقا)، حيث أن سمير حافظ على شحنة الاختيار التعبيري بكل متغيراته الترسلية، ليبرز لنا مختلف المستويات الأسلوبية على إبراز موقف كل مؤرخ على حدة من الوجود المؤسلب، فالعناوين إذن تمثل نموذجا للكتابة التاريخية التي تعالج العلاقة الاستعمارية والحضارية بين المغرب والغرب من خلال العلاقة اللاتوافقية بين المثقف والأرشين المؤدلج، فالمؤلف خصص كل قسم على حدة لحدث ما، حيث يهم الصدمة الحضارية والثقافية التي تعرضت لها الشخصية المغربية، حيث أضاء الجانب الإيديولوجي والاجتماعي والتاريخي لكي يكسر المسار المهيمن في الكتابة الكلاسيكية، لجعل الذات الكاتبة حاضرة لكل أبعادها الإشكالية ووعيها الشقي أمام نفسها وأمام الآخرين، وهي على هذا الأساس تحولت الكتابة عنده إلى فعل للحضور الأنطولوجي.
إن العناوين نشاط إبداعي وقراءة غير متصالحة مع الذاكرة، بل امتداد في الزمكان لإظهار مزايا العمل ومؤلفاته.
فالعناوين إذن كما قلت مفارقة مثيرة للانتباه ودلالات تقوم بدور الإغراء من أجل كيل تكون عليه الشخصية التاريخية معروفة استقدمت من التاريخ القديم لنعيش معها ومعنا، الشيء الذي جعل الكتابة التعريفية فهي تؤكد المؤهلات الموضوعية والمساهمات الاختيارية فيشار إليها أسفل الواجهة الأمامية، وهذا يعني أن التعريف بالمكانة الاجتماعية تتبوأ منزلة بارزة على حساب التعريف بالمكانة السردية، إنه حضور للذات المؤلفة من داخل التقابل الواعي / واللاواعي، والحضور والغياب والذات واللاذات، لأن المؤلف – سمير – ظل حريصا على التفكير في إحياء الذاكرة لإحياء الهوية المؤجلة دون فهم الآخر الغرب الذي هو النهاية، والنحن (المغرب) الذي هو الهامش، فهو البهاية الذي له علاقة بالذات وبكل الممارسات الاختبارية والاحتيارية التأليفية التاريخية، فالمؤلف يرتكز على التعدد من خلال التراث لكي يؤكد لدينا السؤال التالي كما ذكرت سابقا ما علاقة العنوان بالاختلاف المنهجي التاريخي، فهذا السؤال المركزي لا ينتهي كسلطة استعارية ولا كمنطق توافقي (الترتيب والانسجام)، بل يهدف المؤلف سمير بوزويتة كما تعودنا بتكسير أفق انتظارات نقدية التي لا تتمتع بالبعد التاريخي، بل ينظر إلى النص كعنوان موازي له وجوده وحضوره الجوهري وزمني، إن سمير الباحث يبحث دون في المتون المعاصرة لكي يبدع لنا رؤى متعددة سواء على المستوى الديبلوماسي، أو الاستعماري أو المستوى الطبي.
كل منا دفعه ليكشف لنا عن لعبة الكتابة التاريخية لكي يؤسس لنا حقيقة التاريخ المعاصر داخل الاختلاف الإبستيمي، فهذه الحقيقة لا تتم إلا من خلال محور الاختلاف المنهجي الذي رأيناه في دراسة سابقة لكتاب “مكر الصورة” فالبحث البوزويتي يعوض منطق التماثل والتشابه بعتبة مفتوحة تتعايش داخلها الاختلافات المعنونة لا كوحدة ولا هوية واحدة وواحدة، لأصل أصل العنوان يأتينا من المتون المتنوعة والمتعددة كمستوى كوني وإنساني ليصير البعد المقولاتي المعلن كعنوان عودة جديدة إلى الأصل المفقود في التاريخ، لكونه ذاتية الاختلاف حسب جيل دولوز، فالعناوين إذن المختارة حسب الباحث بوزويتة واقعا مهترئا يهيمن فيه الذاتي والفرداني دون فهم أنواع التشكيلات الخطابية والموضوعاتية، لذا جعل من اختياراته العنصر الفعال الذي يبني به قاعدة ينشد منها خطابا مناصيا محددا تعييناته ووظائفه كبعد إبداعي لا يقف عند العنوان المألوف، بل يرصد الانفعالات والانقطاعات بين الكتابة القديمة والكتابة الحداثية كما يرى فوكو في كتابه حفريات المعرفة ص6 – 7، فاختيار سمير للعناوين ترتبط بفضاء الصراع السياسي والثقافي في مغرب ما قبل الاستقلال، وأن جوانب أخرى تروم تطوير العلاقات الخارجية مع المركز، لأن مساهمته تعكس قدرته في بناء أطروحة في الكتابة وفي التاريخ للدفاع عن ثقافة التحديث التاريخي، فهذه الرسالة تشكل خطاطة عامة عن طريق التأليف في تأريخ التراث من حيث معالجة النظريات أو الترابط بين التيمات عبر التاريخ المعاصر.
إن دراسة العناوين يقتضي قبل كل شيء أمرين اثنين وهما:
- التحرر من سلطة التلخيص والتبسيط.
- محاولة التطابق مع روح المؤلفات المحركة والجوانب التي تؤلف نسقها المتطور.
لذا لا يمكن قراءة أي كتاب بدون مرجعية تاريخية ومعرفية وثقافية وانتربولوجية لأن المؤلف يغوص بنا في العناوين ليتيح لنا التفكير والتفلسف والنقد لنكون قادرين على معرفة مشاكل الكتابة التاريخية، وموضوعية المؤرخ فهذه الاختيارات كما قلت لا ينبغي أن تنسينا التقسيمات (القديم – الوسيط – الحديث – المعاصر)، فالمؤلف ينتمي إلى الجذر المعاصر لأنه علمنا كيف نفكر في التاريخ ليكون دراسة لممارسة هذا العقل الغير الأداتي كما يرى هابير ماس، فالمؤلف يريد أن يكتشف المعطى الخفي الذي يبين لنا المدخل إلى الحل. فالباحث سمير بوزويتة يتناول العناوين كعتبة عليا التي من خلالها تلج إلى عوالم المتون المعروضة أمامنا، لا تقف عند الحد، بل يذهب إلى تناول موضوعات المعرفة السوسيولوجية التي تربط الخارج بالداخل، وتقدم لنا موضوعات حديثة في علوم الإنسان من قبل الممارسة المعنونة في بلدنا المغرب، ويكشف هذا التمعن الأرضية التي تقوم عليها كل المفاهيم، لأن التاريخ هو نقد لكل ممارسة سابقة، وباحثا عن تصورات جديدة، وقد اتسمت اختياراته بالسمة الشمولية ويقول عبد الله العروي <<هو مجموع أحوال الكون في زمان غابر ومجموع معلوماتنا حول تلك الأحوال>> مفهوم التاريخ المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء 1992 ط1 ص33، وانطلاقا من هذا الطرح نستشف أن هناك ثلاثة محددات – الأحوال والوقائع – والحد الثاني الماضي، والأخير المعلومات التي نعلمها حولنا، فالمؤلف سمير يتساءل عن هذا الاختيار من أجل وعي عبر التفكير فيه، لأن التفكير يقوم على محاولة للإجابة عن تساؤل ناهض قبليا، فالذات المؤلفة لا تبحث إلا في الذات الخاصة بالموضوع المنتمي إليه ولكن كيف يمكن أن تكون فكرة الموضوعية والحال هذه؟ لا يكون الانتماء ههنا، ولا يعني انتماء إلى كينونة الموضوع إلى الأمام (محمد الرفاعي – ابستمولوجيا السوسيلوجيا دار التنوير ط1 – 2018- ص212)، إن الباحث بوزويتة أعاد قراءة الذاكرة التاريخية بوعي نقدي وبتقنية غير آنية، بل أصبحت عنده مطلبا جوهريا في مختلف العناوين المختارة، والسنوات المحددة، لأن هذه الاختيارات هي سيرورة عليا من قبيل الاستدلال والفهم.
وخلاصة القول يسعى هذا المقال إلى فحص الارتباط العضوي بين العنوان والمؤلف، وبين القراءة والذاكرة، ويعزي الاهتمام بسيرورة الاختيار إلى أن هذا الأخير أمسى في مركز صناعة المتون المدونة في عصرنا المعولم، ويتعلق الأمر باختيار العنوان، لأنه يجذب المتلقي، ويثير فيه الأسئلة ايجابيا وسلبيا، وإلى جانب ذلك عمل الباحث بوزويتة إلى استنطاق الذاكرة لكي تتلاءم مع شروط المعرفة المعنونة، ولهذا أظهر متونه المذكورة في المقال معطيات تاريخية متواترة تتيح للقارئ التداخل مع الذاكرة لتطوير مهارات تفسيرية وحجاجية قصد فهم التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي عاشه المغرب إبان الاستعمار، وإجمالا يهدف الباحث إلى أن يوفر لنا معطيات نظرية وتجريبية على نمو القدرات القرائية لدى الباحث والقارئ، وارتباطها بسعة برامج تدخل المناسب لتحسين وتقوية الأداء القرائي، وأيضا تدريب الذاكرة.
قبل الشروع في التعلم النظامي للقراءة، وبناء على ذلك يمكن أن أقول بأن سمير بوزويتة من بين القراء الذين فتحوا لأنفسهم أفقا جديدا، حيث لا يقف عند حدود التاريخ المدون، بل جعل الذاكرة التاريخية تواكب تحسن الأداء في معالجة المعلومات، على اعتبار أن الطفرة المعرفية التي مر منها المؤرخ القديم تستند إلى ذاكرة عاملة عادية، غير أن بوزويتة اكتشف هذه السيرورة التاريخية لتكون عبارة عن امتدادات تطبيقية في استغلال التاريخ قصد بلورة أدوات التحليل الواقع المعاصر، ولنا عودة إلى دراسة بعض كتبه إن شاء الله.