بقلم : علي البارودي
في الحقيقة رحلة البحث مستمرة …البحث عن الأنس الذي ينفي الوحشة، عن الوجد ،عن الجود ،عن الوجود ،عن الوجدان الذي يَملأ بالدفئ،عن الحب ،عن البوح ،عن الجمال ،عن المجال الذي نستطيع في أفلاكه الدوران ،عن السمر ، عن القمر ، عن المقر الذي نلجأ إليه ،عن السكن ،عن الساكن ،عن السكون الذي يُهدِّأ أبحُرنا المضطربة ،
كل الباحثين الذين تُفرّقهم المواضيع ، ومواضع بحثهم ،وتجمعهم ساعات الليل وحدها ، يفرقهم المكان ويجمع بينهم الزمان .. يوما ما سيسهرون مع حاجاتهم التي نالوها بعد سهرهم ليالي طويلة مع حاجاتهم التي ألانوا لها إرادتهم .
يوما ما ستحل مكان الخيالات حقائق ، وبدلا من الظلال المعكوسة على الجدران؛أركان يستندون إليها ، وبدلا من الظل الوحيد على الحائط كل ليلة ، ظلان كبيران وآخران صغيران على الحائط نفسه.. لحقائق متعانقة .
في الحقيقة ..من حقنا الحقيقة !
إن الحقيقة التي على الجميع التسليم بها هي أننا مجرد عابرين على آخرين يعبرون على آخرين غيرنا .
الفكرة في أن نستعد للإقامة بإدراك معنى الرحيل ، وأن نترك في قلوب الطيبين من خلفنا ما يتركه القمر في عيونهم من ضياء ، وأن نوزِّع أنفسنا أجزاء على أرواح الذين نود الخلود فيهم .
إن هذه الدنيا مراحل وكل امرئ منها راحل ، الا الذين أدركو معنى البقاء بالحروف لا بالأرقام ، ومعنى الخلود بالأثر لا بالمسير .
إن أقسى اللحظات ألما في رحيل من أحببت ، هي تلك اللحظة التي تقول فيها كل شيءٍ تأخرت عن قوله ، وتُصرِّح بكل ما خِفت أن تلمِّح به ، وتَصرخ بكل ما همست به في نفسك… أمام جسد أَبِيك و أذناه مسدودتان ، وعيناه مسبَلتان وقلبه متوقف ، وروحه صعدت إلى مكان لا يصله الضجيج الذي على الأرض ثم تقبل أخمص قدمه بعد ذلك .
ليس الموت وحده الذي يعطينا الدرس الذي نستوعبه ، وإنما أشكال الرحيل عموما ؛ فنندم على تأخُّرِنا في الحديث ، وتأْتأَتِنا في الكلام ، وتلكُّعِنا في السير ، والكلمات التي صارت بلا معنى ، أو ربما كان لها معنى قوي ،لكن وقتها فات ..فماذا يعني انتظارك في المحطة بعد مرور القطار ؟ وماذا يعني وصولك المطار بعد إقلاع الطائرة ؟ وماذا تعني 《أحبك》بعد الوداع ؟ كأنك تضع أصفارا على يمين الواحد بعد أن رحل .
نعم إنها رحلة لابد منها