التقييم الصحيح لأي حدث أو ظاهرة أو موقف ، سياسيا كان أو اجتماعيا أو دينيا ، لابد أن يكون بتجرد و حيادية و بموضوعية ، لا تحركه المشاعر والعواطف والأهواء الشخصية ، ولا تتحكم فيه الأفكار المسبقة والمبيتة ، حتى لا تجيء معظم الأحكام خاطئة متقلبة تقلب القلب والعاطفة ، كما هو حال الكثير من الأحداث والظواهر والمواقف المتعلقة بالدين ، التي حُكِّمَ فيها القلب أكثر من العقل ، و أَصْدِرَت فيها وعليها الأحكام المبنية على مدى حب أو كره فاعلها ، والتي غالبا ما يُهمل صلب موضوعها و جوهر كينونتها ، كما هو الحال مع الأحداث والقضايا التي اعتبرتها الكثير من منصات التواصل الاجتماعي ومواقع البحث ومحركاته ، نصرا مبينا للإسلام ، وعزة ورفعة للمسلمين، والتي منها على سبيل المثال فقط: حدث ما اشتهر بـ “قطة الإمام” التي تسابقت جحافل “الفيس بوك” على التهليل والتغني بملاطفة الإمام الجزائري وليد مهساس، للقطة التي وقفت على كتفه أثناء إمامته المصلين لصلاة التّراويح ، وكخبر وصول عدد المسلمين لملياري مسلم ، الذي تنافست كتائب “الفسابكة” المتأسلمين ، على الاحتفال به ، وكقضية القس الكاهن الأمريكي “هيلاريون هيجي” ، الذي تصدر الاحتفاء بإعلان إسلامه ، كل العوالم العربية والإسلامية ، وغيرها من الأحداث الغريب التي اختصر الإسلامويون فيها عزة الإسلام ، وأوجزوا رفعته في حدوثها ، صد تعاليمه وقيمه السامية وشريعته الغراء، والمتمثل في سجدة البرتغالي رونالدو على أرضية الملعب احتفالا بتسجيله هدفا لفريقه “النصر” السعودي في مرمى غريمه “الشباب” ، التي فاق ما عرفته كلٌ من قصة الإمام والقطة ، ومسألة بلوغ المسلمين لمليارين ، وقضية إعلان القس الأمريكي لإسلامه مجتمعة ، من تفاعلات ومشاركات المسلمين وتباريهم بالملايين على التكبير لها و لاحتفاله بها، الذي لا يعيبه في شيء ، بقدر ما يعيب أولئك الجهلة الذين لا يعرفون أن السجود ليس حكرا على دين دون آخر، وأن المسيحيين يسجدون هم أيضا شكرا لله سبحانه ، وإن الدين الإسلامي الحنيف لا ينتظر من ينصره أو يعزه ، حتى لو كانت سجود نجم كبير ، و الكثير غيره من النجوم -غير المسلمين- الذين سجدوا قبله في ملاعب كرة القدم ، كليونيل ميسي نجم باريس سان جيرمان الفرنسي ، وكوستا بارباروسيس النيوزلندي ، وجون جميل “مانجا” لاعب فريق النصر ، وإيرلينج هالاند لاعب مانشستر سيتي ، وتيري هنري نجم منتخب فرنسا وأرسنال ، والذين لا يزيد سجودهم لدين الله الحق قيمة أو عزة ، أنه لا يحتاج إلى من ينصره ، بل بالعكس هو الذي يرفع من مكانة من يشاء من عباده ، مصداقا لقوله تعالى: “إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” آل عمران:160.
الحقيقة المنطقية التي أوجزها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله البين والوا ضح :”كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله” ، الذي أرخ به لأثر الإسلام على العرب أفرادا ومجتمعات ، الذين وجدهم وهم أضعف أمم الأرض وأكثرها جهلا وتخلفاً ، فوحد اختلافاتهم السياسية وتنافراتهم الثقافية وتناقضاتهم الإثنية ، وجمع شتاتاتهم العرقية ، ورتق تمزقاتهم الاجتماعية ، وجعل منهم قادة الدنيا وسادتها ، قبل أن يتخلفوا عن الركب ويتخلفوا عن التحضر ، ويسقطوا في غياهيب التخلف ،الذي لا يعني بالضرورة تدني المستوى الاقتصادي فقط ، بل يعني الجدب الاجتماعي والسياسي وحضاري والأخلاقي ، والتردي العلمي والتقني، والجمود والبطء في حركة الاجتهاد إزاء قضايا الدين ومستحدثات الدنيا ، الأمر الذي عجل بظهور الكثير من النواقص المذمومة في مجتمعهم ،كالظلم ونقض العهود والخيانة والتزوير والاختلاس وتبديد أموال الشعوب والتناحر من أجل السلطة والاغتناء غير المشروع ، وغيرها من مظاهر التخلف التي لا يمكن كسر قيودها إلا باستنفار المشاريع النهضوية التي تحي حركة المعرفة والعلم ، والانخراط في الثورات العلمية وتوظيفها في الارتقاء بمستوى التعليم، والقضاء على الأمية، وتحرير العقل البشري من التحجر والتبعية الفكرية ، وإعادة تشكيل منظومة التحليل والتفسير في الأذهان المتزمّتة ، وإيساع المساحة الرمادية في تقبّلها للأحداث والقرارات بالتجرد والحيادية التي تحرسها المعايير الأخلاقية.