ا ذا خطر ببالك أن تتعرف على مدى تعصب أي مجتمع من المجتمعات ، فما عليك وانت في الصفّ الأول أمام أي إشارة ضوئية ألا تحرّك سيّارتك لدقائق معدودات عندما يتبدّل اللون إلى الأخضر ، فستسكشف ذلك من خلال السب والشتم المخلوط بزعيق المنبهات الذي سيشنف أذنيك ويتبث أنك في بلد التسامح والتجاوز ، وإذا بدا لك أن تقيس مقدار تحضر مجتمعك ، فانزوي قبالة أي حاوية للقمامة في أي شارع من الشوارع الراقية لأي مدينة من مدن بلادك الجميلة، وكلي يقين ، أنك لن تجد من بين المارة المتأنقين في ملابسهم “السينيي” المتهادين في مشياتهم الطاوسية ، من يتكبد مشقة التوجه للحاوية ليضع بداخلها علبة الكولاكاكولا التي انتهى من شربها ، أو عقاب السجارة التي انتهى من نفث دخانها في تطاوس وتطاول ، وبالمقابل سترى كيف يلقون بها حول الحاوية ، بل وتتفنن الغالبية العظمى منهم في تطييرها بطريقة “مردونية” في جنباتها ، محولين المحيط إلى مطرح يعكس – إلى حد كبير – حقيقة واقعنا الغير الحضاري ، الذي لا يستثنى من المساهمة في استتبابه أحد ، حتى أولئك الذين طالما صدعوا رؤوسنا بالحديث عن عائلاتهم ومراكزهم وثقافاتهم وأفكارهم وعلومِهم وشهاداتهم ، وغير ذلك من الأمور التي تَخُصُّهم وحدهم، ولا تدخل في نطاق ما يبوؤهم الموقع المتميز في خرائط قلوب الناس ورب الناس، الذي أمر الناس بألا يفعل الناس للناس إلا ما يَسُرّهم ويُسعدُهم ليفعلوا لهم ما يَسُرّهم ويُسعدُهم. فلنكن منصفين لأنفسنا قبل غيرنا ، ولا ندَع الناس ترى منا ما يغضبهم أو يُؤلِمُهم أو يهينْهم أو يجرَحهم ، ولا نغضب من ضجر ولوم وعتاب الناس لنا ، إذا نحن قمنا بذلك ، ونحن نعلم علم اليقين أنه لا يطاع إلا من يطلب ما يستطاع، فهل يا ترى يمكن أن تزول من طباعنا مثل تلك الترصفات الرعناء المسيئة للناس ورب الناس، وتختفي ، واقعيا وسلوكيا ، الى غير رجعة ؟ هيهات ثم هيهات أن يحدث ذلك ، ونحن قوم نفتقد أبسط الأسس والمعايير النقدية ، ولا نميِّز بين العقلانية واللاعقلانية، ونتمسك بالتعصب والتذبذب والإنغلاق الفكري المقيت، والأنانية وحب الذات الغير المنطقي ، ونقدس الثقافة السالبة والوعي الشقي البائس ، الذي ولدته ظروفنا وتربينا وتعليمنا وجيناتنا المصابة بكل الأمراض الصغيرة الخطيرة المتفشية في طباعنا البائسة التي لا نكف عن الشكوى والتبّرم منها ، ونصر ونجدُّ في البحث عن شماعات التبرير التي تعطينا الحق في ممارسهتا بشجاعة أكبر وصلافة أنضج ، ونغض الطرف عن كل ما يقودنا للتوقف عنها من أخلاقيات ضبط علاقات الناس ، والتي لا نحتاج إلى مقالات ، ولا بحوث، ولا كتب ، ولا معلِّمين ، ولا دورات تدريبية ، للتشبع بها ، لأنها في حقيقتها ، أخلاق وممارسة ومنهج حياة ، لا تخص فئة دون غيرها ، حيث أنه كم مِن غير متعلمٍ وغير مُثقفٍ قد فاق بمراحلَ في أخلاقه أساتذةً جامعيين ومثقَّفين كبار ، وكم من فقيرٍ ومستور الحال ، قد تجاوزت أخلاقه أثرياءَ كثيرين! ولكي نصل الى بر الأمن والأمان، إننا بحاجة الى ثورة ثقافية وفكرية شاملة تغير نظرتنا لإختياراتنا الغير صائبة الغبية الجاهلة المتخلفة التي تجعل شوارعنا غاية في الوساخة، بينما بيوتنا على النقيض من ذلك ، مرتبة نظيفة وجميلة ، الأمر الذي دفع بــ “روبرت فيسك” لطرح تساؤل في غاية الأهمية : لماذا تبدو بيوت العرب غاية فى النظافة وشوارعهم والاماكن العامة تملؤها القاذورات ؟! ثم يجيب بجواب بسيط لكنه في غاية الخطورة بأن السببهو : أن العرب يشعرون أنهم يمتلكون منازلهم ولكنهم لا يمتلكون أوطانهم. فكفانا من “تثقيف” انتهاك البيئة ومحيطنا المعيشي!