إنجاز: د الغزيوي أبو علي / باحث مغربي
دة بن المداني ليلة
شغل الإبداع الأدبي عبر تاريخه بالإجابة عن أسئلة تتصل بمصدر النص وماهيته وتفاعلاته الذاتية والموضوعية وكيفية تناول هذا المؤلف وسبل إصدار الحكم النقدي، ويبدو أن الإنجاز الذي تم في هذا المجال غير وجه خريطة الكتابة، فاعتنى بالبحث عن أسئلة التي تبدو للقارئ كأنها بديهية أو مسلم بها ولكن هذه القراءة لا تهتم إلا بسؤال محوري هو كيف نقرأ هذا المؤلف؟ وما الإضافة التي أضافها إلى الحقل الإبداعي الأدبي والفكري؟ فالمؤلف هو شبكة من المعطيات الألسنية وممارسة دالة ونص جامع كما يرى رولان بارت في (نظرية الأدب) ص69، وادريس لكريني في مؤلفه المعنون “طفولة بلا مطر” طرح العديد من القضايا الاجتماعية والنفسية والبيئية، حيث أعاد تشكيل الواقع عبر الرمز، وقام بتفجير اللغة وتنويرها لتعبر عن واقع مهمش، واقع تؤسسه الذات لكي تتحول إلى أكثر من كونها أداة فيما لو أتيح لهذا المفهوم أن يستمر ويغدي بتطبيقات يغلب عليها طابع الإبداع النقدي الحقيقي أكثر من الطابع النقدي التقني، لأن التفكير في إشكالية الكتابة عنده باعتبارها الفضاء المشترك للإنسانية الذي يسمح بإمكانية تحقيق تعايش الماضي بالحاضر بتعددية ثقافاته واختلاف توجهاته الإبداعية وفقا لغايات لا تستهدف سوى هذه الذات بوصفها غاية وليس مجرد وسيلة، يظل بظلها مهووسا بالاسترجاع كسؤال غيري بما هو قدرة على إمكانية التفاعل مع الوجود والذوات، إن الغيرية من خلال هذا الطرح الأنطولوجي المستحيل تغذو إمكانية غير مسيجة لإعادة تأسيس الممكن الهارب، بمعنى تأسيس إمكانية المؤلف ذاته في أفق تحريره من هيمنة الانكسار الوجودي، ومن الفناء الصموت، وإنما هدفه في هذا المؤلف الإحساس بالقدرة على الاختلاف والانفتاح على الغير، لذا نقول فما لا يختلف لا يستطيع أن ينفتح، بمعنى أن المؤلف كسر وهم التماثل لكي يصير ادريسا آخر منفتحا على العوالم دون جذور الوهم المتأصل في التربة الخيالية، وادريس الكريني سمح لهذه الأنا لتؤرخ خصوصياتها لا على أساس البيئة وحدها، وإنما على أساس إبداع سبل جديدة للانخراط في الجغرافية المؤساستية، فالباحث والمؤلف ادريس الكريني لم ينخرط في هذا الأفق الإبداعي لكي يتصادم مع الواقع، بل أن الأساس الحفري والجنيالوجي الذي يسعى إليه هو أن يظل المكان العماري (بني عمار) يتحدث كثقافة وكلغة شعبوية وعملية وكهوية التي تحيل في معناها التاريخي وفي سيرورة التفاعل الإنساني، لأن الوجود (بني عمار) حدد لنفسه منطلقا حضاريا يسمح بإحداث ثقوب في ما هو مؤسساتي ومدني، وهذا ما يظهر في حدوث التباعد داخل الهوية (المدني – البدوي) فأبدع لنا تصدعا بالمعنى الإيجابي لا السلبي، لأن التصور الذي قدمه في مؤلفه “طفولة بلا مطر” لا يتعدى عتبة التماثل والمطابقة الموروثة (المسيد – المدرسة – المعلم – الدار – الخالة – الجد – الأم – الأب – الغربة – الزيتون – الحوانيت – التلفاز – الامتحان – المدينة – الأقارب – الجفاف – الجسد – الغناء – اللعب…)، إن هذه الرحلة البطولية الغير المحاصرة هي ذات غير منفصلة عن البعد الزمكاني وعن الوصف الدقيق، لأنه منح لهذه اللغة لكي تؤصل المسؤولية الثقافية ولكي تغدو هذه القصة مشروعا تأصيليا، وقدرة الالتحام بالمكان وبالحداثة المعطوبة كما يقول أدونيس، فوجود الذات الكرينية (الكريني) رهين بإحداث الحركة داخل التاريخ المضمر والمؤجل حسب تعبير ميشيل فوكو، إنها هوية التي تنفلت من النسيان والمحو، ومن التطابق الشيخوخي الذي يغدي المعتاد والتماثل، فالبطل (الطفل) يمنح لهذه الرغبة والإرادة في أن توجد وفق منظورها الخاصة، لأنها تجعل نفسها بجانب الأجناس الأدبية الأخرى كرجوع إلى الطفولة، والأيام ودفنا الماضي، وأوراق – والغريب، والخبز الحافي، ولعبة النسيان، وكان وأخواتها والمعلم علي، وفي الطفولة…، فهذا الاسترجاع هو القدرة الذاتية التي تغدو مفعولا جديدا تستطيع أن تعيد الأسئلة المؤجلة وأن تستحضر هذا الغياب في متخيل المركز لتكون صورة بني عمار تعبيرا عن لحظة اكتمال البعد الميتافيزيقي بحسب هيدجر، فالذاتية الكرينية (نسبة إلى ادريس الكريني) هي القوة القادرة على اختلاف المألوف والمطابق كفعل مصيري غيري، وهذا الثماهي هو ما يعيدها إلى حالة الذوبان الرمزي والدلالي والمعجمي والتركيبي لتكون قوة ممكنة لتتحول دون بروزها كإرادة وكسلطة فاعلة، فالذاتية أجبرت البطل بالخروج من مرحلة الكمون إلى مرحلة النعل كقدرة الانخراط في لعبة الكتابة المدونة (السيرة الذاتوية)، فالإمكان لا يعني الائتلاف بين الذات والواقع الخارجي، بل تصير الذات المنكتبة لعبة إيحائية، لا تقف عند الكائن الثابت، بل تتحول إلى كائن فاعل وشامل كنسق يجعل البعد الاجتماعي هو الماهية والانفصال الفعال عند الثابت المطلق، فالطفل الذي تذكر المسيد، والمدرسة، والتلفاز، والجد، والأصدقاء، والأقارب، والمزارع، والقبور والرحلة، واجتياز الامتحان، وفاس ومولاي ادريس زرهون، والسويقة، والحوانيت والحقول، وغيرها من الأشياء، كلها تلقيات إدراكية تثير في الباحث الاجتماعي والأنتربولوجي والتاريخي أسئلة بلورية تتجاوز العالم الذاتي الإبداعي الأقرب إلى الخيال والحلم، وإذا ما نتساءل في هذا البعد السردلوجي بقولنا من يتحدث؟ وكيف يتحدث؟ وكيف تعامل مع هذه الذاكرة الممتدة؟ وماذا يشاهد؟ أسئلة تقربنا من العنوان الذي هو عبارة عن عتبة عليا التي من خلالها نلج إلى عالم المؤلف، لأنه يدل على الحدث المحوري بجميع تفاصيله وأبعاده الهندسية والمعمارية الفنية، وشخصياته العابرة والأساسية، إنه وصف بانورامي يستدل على الموصوف، لأن نظرة المؤلف في ذاته هو التحول الأكثر للإدراك الماضوي، ذلك أنه يحيل هذا الاسترجاع من إدراك ثابت إلى إدراك متحول ومتحرك، وهو في الوقت يرتقي بهذه الذات من المونولوج إلى الديالوج لتكون أكثر صدقا وتواصلا، بحيث تصبح اللغة العالمة لغة خالية من التشبيت، لأن المؤلف ادريس الكريني يعمل على توليد الحقائق الذي يحدثها سقراط، وينسجها سيزيف ويعلمنا كيف نقرأ ونستقرئ الذوات ببعد جدلي وواقعي، ويقول الكاتب الأمريكي وندل هولمز <<إن الإنسان كل إنسان بلا استثناء، إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة، الإنسان كما خلقه الله والإنسان كما يراه الناس، والإنسان كما يرى هو نفسه>> د أحمد بنطامه “فن السيرة الذاتية” ص45، فالطفل الذكي يقوم بسرد المشاهد على شكل المقاطع الوصفية، الموزعة بين الشخصيات في شكل ردود متناوية، وهذه الوظيفة الإنسانية تتحدث بفضل استخدام.
إن العلاقة بالمحيط هي علاقة اشتراكية أي وجوده في هذا العالم الذي يتقاسم فيه وجوده الفردي، ووجودنا نحن، فهذا المشترك لا يلحق أخذنا بالآخر، بل يشكل صورة حياة الإنسان نفسها، لكن ألا يسعى ادريس الكريني بجعل هذه الذات التي تسعى إلى تأسيس هذه الكينونة المفقودة، الشيء الذي يجعله يرفض التواصل مع الأم، الأب وهذا النوع سيستبعد فيه كل أشكال التعاطف، فادريس الكريني يحاول أن يوظف الصمت كتعالي لكي يفرض وجوده لخلق نظرة إنسانية اتجاه الكون، والوجود والحياة، والقيم، لأن حوله الأب إلى موضوع ينفيه ويخضعه لكي يكون الرجل في الدار، فالحياة المشتركة تتواصل لكي يفهم ادريس الغير الباحث والغريب حتى يكتسي وجوده عبر الامتداد البيولوجي، لأن فهم الذات الكاتبة تقتضي منا أنسنة نظرتنا للدوار، والجماعة والأفراد، فوجوده غير مستقل عن وجود المكان، فهو مفروض بدون قوة أو عنف، لأن فعاليته اتجاهه تدرك عبر المسجد، والبيت والمدرسة، حيث تظل منفتحة ومتطورة، تعترف باختلاف الولد الذكي، لأنه هو الذي يقدم لنا المعرفة ويحول الكائن إلى ممارسة إبداعية وإنسانية، وبذلك فالمؤلف إنتاج تأملي للفكر، يستند إلى الخيال والمعرفة لتكون انعكاسا له، ورسالة شاملة في إحداث منظم للظواهر الاجتماعية وفق مبادئ العادة والتقاليد، إذن فالبطل ادريس يبرز لنا نظرية عجائبية بارتكازها على الوصف الدقيق ليصير تجريبيا للوقائع والأحداث كمعرفة بدون ترتيب الوقائع المخزونة في الذاكرة، فالمؤلف هو استراتيجية عامة لتفكيك المفاهيم المألوفة والمضمرة من أجل بناء فكر إبداعي منظم، وانطلاقا من هذا التجديد الحفري في المؤلف، خلق مسافة بين البطل والمكان وبين الذاكرة والشعور والإرادة وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وهكذا يعني أن الماضي المسترجع لا ينفصل عن الحاضر، لأن هذا الأخير يربطه من خلال الأثر كما يرى جاك ديريدا (هامش الفلسفة – 1972 ص13)، فالأثر الإبداعي هو جزء من بنية أوسع هي ذهنية الجماعة التي تصبح بدورها جزءا مكونا من لطبقة دون العودة إلى المساءلة، وهذا التصور يرسم المجتمع بأنه صراع بين الفرد والجماعة لأن الوعي الممكن لا يعكس رؤيا العالم، بل يظهر لنا التناقض ما بين الهامش والمركز (فاس – مولاي ادريس زرهون – فرنسا) رغم أن المؤلف لا يقر بأسبقية الواقع عن المحتمل (النص) أو العكس، لأنه يعيش واقعه ويفكر خارج الهامش، إذن أعتقد أن الصفات التي سجلها في النص احتلت مكانة في الذاكرة، فإدراك البطل الوجداني أن كل تجربة لا تعبر عنها إلا لغة تستوحي صيغتها التعبيرية، وصورها البيانية وإيقاعاتها الموسيقية من التجربة الذاتية، ومناخاتها الطبيعية، فلغته أكثر صلابة تتجاوز مصطلح السهولة نظرا لارتباطها بالصورة المتعالية التي أصبحت مقياس الحداثة، بكل صفوفها، فهي ليست ضربا من ضروب التقليد، بل إدراك جديد لمعنى الحياة، ورغبة في جعل وظيفة الصورة نابعة من تجربته ومن رؤيته للحياة، ولم يعد التدبيج والزخرفة، هدفه الأساس من استخدامها بإيقاع موسيقي مركب، وبوظائف أخرى التي تشكل بؤرة جوهرية لهذا المؤلف، فالوحدة العضوية، والموضوعية، والإبداع المتنوع، والموسيقى الصامتة جعلته ينخرط في خريطة جغرافية كتاب الحداثة.
إن المعرفة السيكولوجية هي التي تهتم بالميكانيزمات التي يستطيع من خلالها الباحث أو المحلل أن يلتقط بعض البرامج ليعالجها ويضعها في فضاء الذاكرة، فهذا المنهج إذن يقوم بدراسة الأنشطة الذهنية التي تسمح للكائن الحي أن يتمثل هذا الواقع لمعرفة العالم الخارجي، وذلك باتخاذ القرارات سواء على مستوى الإدراك والفهم والتذكر، حيث أن هذه العناصر هي التي تنظم هذه المكونات لتجعلنا نحس ونفكر، لهذا تهدف هذه المعرفة السيكولوجية إلى تحدي الميكانيزمات لمواجهة المشاكل التي تعترضنا، لذا تتأسس على بعدين بعد بنيوي ينطلق من العنصر البيولوجي بالنسبة لعملية الإدراك، حيث أن هذا الأخير هو المكيف مع المحيط والبنائي لهذه الأنا حسب جان بياجي، وهناك بعد آخر الذي يتمثل في الكتابة، فالمؤلف يمنح لذاته المعرفة التواصلية ككفاءة للوصول إلى صورة الطفل الهارب من الهامش إلى المدنية، فينفتح على العالم لكي يسحر الأشباح ويثري القلوب ويطرب القراء، وهذا الصمود أمام العالم الأصم يظل ادريس الكريني يعترف لكي لا يكون الظالم أمام المحكمة، لذا يعترف الطفل بهذه الكشوفات والرحلات لكي ينسج مع العالم علاقة إيحائية بابتسامة التي ترافقه عبر الأمكنة والأزمنة، لأن الطفل المبدع يكشف عن نواقص الكون أمام هذه الكون، وهذه النمطية التي تجر الإنسان، والفراغ الذي يفجر النفوس دون إطلاق شرارة العودة لكن يظل يحمل سره وصليبه ليسقى إكسير الحياة التي تقرأ تباشير الأفواه والوجوه، فالطفل يتوغل في سراديب الممكن بلغة درامية لكي لا يلازم الوجود الهامشي، وهذه الخلخلة البلورية هي وهم اليقين المرتبط بالحقائق الواقعية دون أن يكون قاضيا عصيا ولا متمردا كما يقول الشاعر بلمو في قصيدته (طعنات سحيقة) إذن فالمؤلف هو السؤال الوجودي لماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ ولمن أكتب؟ أسئلة عبارة عن إنتاجية إبداعية مؤطرة بإنتاجات ثقافية واجتماعية، فهو فضاء تشكيلي ودلالي، وهو لعبة مؤلفة من المبنى والمعنى، إنه مركب يشتمل على أجزاء تمثل دلالة تفصيلية، وعلى قدرة الإنسان وكفايته الإبداعية وتاريخ النوع المكاني والأغراض تؤطره مجموعة من استراتيجيات التواصل ومقصديات الإبلاغ، إذن فالاتجاه النفسي لعناصر الكون ومفاهيم الأحلام الطفولية (باشلار) التي تهدف إلى توفير الأساسيات من أجل بناء سيناريو بيداغوجي لإدماج هذا الجنس السردي، الشيء الذي يتطلب معرفة السبل الكفيلة بضمان أداء الفعل السردي للقيم وللنظريات التي يمثلها هذا المؤلف فالمؤلف إذن هو كتابة مرتبطة بالإبداع وتمرد على اللغة والأسلوب، لأن اللغة هي معطى اجتماعي سابق عن المؤلف والأسلوب كبعد بيولوجي ذاتي، فالكتابة هي مجال ممارسة الحرية، وتجاوز اللغة التي تقمع سلطتها لأن العلاقة الجدلية بين اللغة والأسلوب هو تجاوز للفردي من أجل الجماعة، المرتبطة بالحرية، فالمؤلف هو وعي بالمجتمع الذي حدث في الزمكان، وتلقي بالتاريخ لأنه نمط من الجدل بين الطفل والذاكرة، وبين الحقيقة والوهم، وعبر الكتابة، تأخذ الذاكرة بعدها الجدلي وضرورة اجتماعية وحقيقة فردية، لذا تستوجب الممارسة التشكيلية على المؤلف أن يمتلك أدوات كشرط أولي وأساسي، تسمح له على توليد لغة نقدية ضمن لغته ومرجعيته الأصيلة، وحتى يستطيع حصر المفاهيم بشكل أدق إلى المجال المعرفي الذي يتحرك فيه، وفي سياقه، وعلى ضوء هذه المعطيات المذكورة يبدو الفكر التشكيلي الحديث والمعاصر غير عاجز عن بلوغ الدرجة الحداثية وما بعد الحداثية، حيث تؤهله لممارسة دوره الوصفي على المستوى الإبداعي الخيالي، لأن هدف المؤلف ليس إلغاء التراث أو التنكر له، وإنما إبداع رؤية فكرية وثقافية جمالية بشروط التاريخ والواقع الممكن، ويرى فالنتينا غراسي في هذا الصدد “هكذا وبعد قرون عدة من معاداة الصور، كانت الاستعانة بإبستمولوجيا الشكل مناسبة للغاية لإعادة الاعتبار أكثر فأكثر إلى اجتماعية socialité ما فتئت تهيكل بواسطة الصورة (مدخل إلى علم الاجتماع المخيال) ص53، فالصورة هي التي مهدت الطريق لظهور المبدع بنفس حداثي، ولم يعد الحديث عن الكلام المنطوق كأداة فعالة للتواصل مع المتلقي أو المشاهدة، بل عمل المفكر على مخاطبة الوجدان والإحساس الدفين، لأن اللغة الفكرية هي نتاج اجتماعي، لذلك فإنها تخاطب المبدع والفرد والجماعة من أجل تأكيد الذات الجماعية، ولما تتفرد بما من تكثيف دلالي وقدرة على استفزاز الوعي المغيب قسرا من طرف الأعراف الاجتماعية، تمتزج فيها الرغبة والرهبة، الرغبة في معرفة هذه العوالم المستورة والقريبة منا ومنه، وقصد الانخراط لكنه وفي اللحظة ذاتها إقدام مشوب بالرهبة من حيث أن التفكير الحداثي يرتبط بالخلخلة لهذا المقدس، والسلطة وزعزعة القناعات، لكونه ممارسة غير نقدية ولا تنويرية، فالمؤلف هو ممارسة تحرض الفكر ليفكر بنفسه دون الأحكام المسبقة ودون وصاية تذكر، وأن يفكر دوما في انسجام مع ذاته بطريقة متماسكة، لذا المؤلف يقدم نفسه على أنه ممارسة للتفكير.
إن التظافر معا في إحداث التغيير المطلوب كظاهرة فكرية ما، وإن اختلفنا معا في إحداث التغيير الجوهري المهيأ للإبداع الفكري وآلياته، فلا أظن أننا يمكن أن نختلف على أن تأويل المؤلف يعد شرطا ضروريا للإبداع المعرفي والتلقي ويرى هانس جورج غادامير أن التأويل يتسع ليشمل تفسير كل شيء رأي شيء يكون قابلا للفهم والتعقل (Philosophical, Robert R – Apprentice ships trans – Cambridge p80 1985)، فالتأويل الفكري يتجه إلى المعاني والغايات لكي يزيل الغموض كمشافة زمنية التي تفصل بيننا وبين الفكر، لأن الأشياء تتراجع وتتباعد بتباعد الزمن الممكن، فالمؤلف يحاول في مؤلفه المذكور أن يذكر هذا الإقصاء ليرى على المستوى المعيشي اليومي والعمراني والاجتماعي، لأن خطابه هو خطاب يرفض كل سلطة خارج عن هويته، لأنه يحمل وعيا شقيا الذي يجعله ينظر إلى الأشياء دون تأويلها، فتبقى العلاقة بين الهامش والمركز هي علاقة لا مطابقة سواء على المستوى الفكري أو المستوى السياسي أو الاقتصادي، فيبقى المهمش كمشروع يبني المعارف دون بناء نظرية في المعرفة، بل همه هو إرضاء ذات والجماعة عند حساب جميع المقولات والمفاهيم والمنظومات، وهذا العمل لن يتأتى له إلا في مجال التاريخ المنسي ولكنه سيصطدم بصنم العرفي والعادة والطقوس الشيء الذي سيحوله إلى أدوات ومفاهيم يمكن ن نعتمد عليها كبعد تاريخي كلاسيكي، لذا يبقى الاهتمام بهذا المهمش هو الانكباب لرصد عواقب الانقطاعات وراء الاتصالات لقطع الطريق أمام التراكم اللامحدود للمعارف التي يستغلها المركز كي يصبح هو صانع التاريخ.
إن تحول المفاهيم وانتقالها من الهامش إلى المركز هو انتقال قطيعي لأنه يشكل نفرا وتاريخا يختلف عن تاريخ المركز سواء على المستوى الفكري التكويني أو النظري كما يقول ميشيل فوكو في كتابه (حفريات المعرفة ص86)، فالكتابة أمست كتجسيد لتجربة إبداعية توضح من خلالها أن الواقع اليوم لا يمتلك صفة الثبات، بل هناك سيرورة مغايرة تجعل الفعل الحفري يسير نحو كينونة مغايرة لما هو كائن، لأن الإبداع التكويني والوجودي للذات الفاعلة والمبدعة ليس للكرسي المخلوع، فالغاية هو امتلاء العالم بالإنسان وليس بالأشياء حسب تعبير جان بول سارتر، إذن فهذه الكتابة في المؤلف قادرة على دفع ما لم يتم هضمه خارج المعدة لا لشيء، بل لإعادة الاعتبار لرجل الإبداع بكل شرائحه العريضة، لأن الذات الكرينية في تلاقيها بالذات المسيسة لا تحمل نفس المؤامرة – وليست هي ذاتها نفسها كما يقول – سارتر – في كتابه “الغثيان” (رواية)، إذن فالمؤلف يحاول جاهدا أن يسلب لهذه الأنا المتعالية حريتها لكي يحولها إلى مجرد شيء ويحكم عليها ويسحب عنها صفة الرؤيا الإبداعية، فهذا الحكم هو عينه ما يقربنا إلى هذه الأنا المتحاورة كيف كانت؟ وما هي المهمة التي كانت تزاولها؟ وكيف ترى الغير؟ هل هو موجود بالقوة أم بالفعل؟ أسئلة كثيرة تقربنا إلى الأنا أن أكون، وهذه الصيغة هي الولوج داخل كينونة اللغة كموجود منظور إليه، لا ككائن سائد، فالأجرأة والصياغة العملية هو مبدأ ملموس في إطار الفعل والتطبيق ووصف المتغيرات التي ينبغي قياسها لدى ادريس الكريني، فالنتائج التي بنى عليها الحوار في صيغته الملموسة، قد يكون هو الواصف، والباحث، والتقني، والهارب وغيره، قادر على تحديد مواقع في خريطة السياسة الحالية، سواء في اكتساب المعارف والمعلومات أو تفكيك المنظومات وخلق مهارة الحكم والتقييم، وأجرأة الأهداف، وتأسيس استراتيجيات موحدة من جهة، ومحاربة بعض العادات الجهوية، فمبدأ التوافق هو الذي يضمن التوازن لهذه الذات مع المجتمع، لأن المؤلف يسعى إلى خلق المواطن الواصف الصالح، فإن الدلالة التي يحملها هذا التعبير تفيد من بين ما تفيد أن يكون الفرد مندمجا اجتماعيا، منظما بالقيم والمواقف الاجتماعية، يمتلك حسا اجتماعيا ووطنيا وشعورا بالواجب اتجاه الوطن وقادرا على إدراك حجم المسؤوليات وتحملها، وانطلاقا من هذه القولة ندرك أن المجال اليوم قادر على دفع بعجلة النمو الاقتصادي والعلمي، والثقافي، وكذا خلق منافسة عالمية بين المؤسسات العالمية والوطنية، لأن الوعي بالاعتراف الحفري هو طرح أسئلة على السياسي والباحث والنقابي، والتربوي، أسئلة تتغيا إثارة عمليات التفكير في قضية – الهوية – والإنسان، والوطن، ويعتبر سؤال التكوين في عالمنا <<جرح نرجسي>> يحتاج إلى الإرادة والعناية والمعالجة الموضوعية بمختلف انفتاحات تحليل هذا الخطاب التربوي لوضع سؤال التربية والتكوين <<في إطاره النظري والفكري للتيرم من أشكال التشنج التي تطغى على العديد من الكتابات>>، فادريس الكريني ينبغي أن يتعامل مع المركز الإيديولوجي وفق طبيعة الموضوع الذي يحده رؤيته، إذن فالخطوة في كل عمل هو تحديد جوهر الموضوع المعالج لكي يكتسي أهمية كبرى عندما يتعلق الإمر بموضوع الإصلاح بالنسبة للفكر المضمر المعاصر، حيث يخضع في تحديده ليس لمكونات الأرض، بل أيضا للفاعلين الاجتماعيين، والتربويين، غير أن هذا التنوع الوظيفي يقف شاهدا على حالة محددة واستثنائية ولا يستطيع أن يمدنا بمفتاح واحد لفهم رهان القصة بالمعنى الذي استخدمه جاكبسون، لأن هذا المؤلف ينهض على أساس مادة حكائية معاشة متكاملة، تبنى على وظيفة مركزية وجوهرية يمكننا اعتبارها نواة هذا العمل وبؤرته، هذه البؤرة هي التي تتولد من الاسترجاع ومن الاستباق، ومن مختلف تناسل من البداية إلى النهاية ونحن مطالبون في نقدنا بأن نتمسك بهذه البؤرة كوظيفة جوهرية كما يؤكد ادريس الكريني، فالمؤلف في هذه المؤلف النموذجي يقربنا إلى مجموعة من الضوابط التي تتنازعها جدلية الذاتي والموضوعي، لأن الكتابة هي كيان وفعالية معرفية تضع نفسها في عالم الماضي والخاص بها، وهذا ما يميز معرفتها وفعلها وتأثرها بأشكال مختلفة من التاريخ، والمجتمع والإنسان، إذن فالتحقق التزامني هو مسافة زمنية تتراوح بين الطول والقصر، وترتبط بالتقدم والقطيعة، وهذا الوعي هو وعي تاريخي يفسر في ضوئه المدلولات التاريخية، والتأويلات المتعددة والمتغيرة، فالمؤلف يبحث عن هذا التشاكل العائلي ليجسد علاقة مادية في التأرخة والاستبدال كيقين حقيقي، فالمؤلف “طفولة بلا مطر” اعتمد على البعد الأنطولولجي من أجل انتزاع الأصلي واللانموذجي لكي يكون نظرية في الأعمال الأدبية، حيث تتجسد في تكرار لنموذج سابق كما فعل عبد المجيد بن جلون، وحميد لحميداني، وخناتة بنونة، والطاهر بن جلون، وعبد الكريم غلاب، فهذا النموذج هو تاريخ مؤجل للذات المبدعة والأسرة، والمسيد، والمدرسة والمدينة كلها عبارات ومعارف يوتوبيات التي تدعي المثالية الممكنة دون أن يمتد جسر للعبور بين النظرية والواقع، ويقول محمد الأسعد <<عندما تبدأ في محاورة أي إيديولوجي عربي فعليك قبل كل شيء أن تثبت له وجود العالم لأنه غير وارد ضمن معطياته>> ص67، فادريس الكريني كما قلت قادر على بناء رؤية تنويرية إذا توفرت الظروف المادية والوجدانية والمعرفية، وهذه الطريقة في الرؤية لها شروطها الواقعية، إذ تنبع من التحول التاريخي أصوات كأشكال جديدة من تتجه صوب عالم كمعطى وكصناعة الثقافة، عالم سريع التحول بلا مركز انتصرت فيها الخدمات المألوفة، وأخلت فيه السياسات الطبقية الكلاسيكية الميدان لسلسلة واسعة من سياسات الهوية، فهذا التقويم يتطلب منا الدرجة والممارسة المنهجية لا الوصفية ولا التاريخية، لأن الأطروحة التي ينطلق منها تتخلص في أن الفكر يمثل مرحلة انتقال في تطور الفكر العربي والمغربي، فضلا عن التطور الاجتماعي الذي لامسناه في التيار الإبداعي المركب الذي غاير المألوف وتجاوز رنين بعض الفضوليين، ولعل مصطلح تعددية التحديات أن يكون أقل أحادية وصلادة كما يقول إيغلتون في كتابه “أوهام ما بعد الحداثة”، لذا شكل التواصل هاجسا نظريا وفكريا، بين الواقع والذابل فهو سيرورة تدل على أساليب التبادل الإنساني بين المرجع والمرجعية لاسيما في زمن الثورة الإبداعية التي جعلت من العالم قرية تلتقي فيها كل الأجناس البشرية، والثقافات والتجارب، وكلما زاد التواصل بين ادريس والمكان، كلما زاد التفاعل بين الكائن والممكن، والقول والفعل والخيال والعقل، وخلاصة القول، يتضح من خلال العنوان أننا أمام مقاومة اجتماعية لظاهر أدبية كالوعي الكائن والوعي الممكن، ورؤية العالم، والإنسان والمكان، والجنس كلها مصطلحات تختلف حسب اختلاف الأزمنة والتوظيف، لأن ادريس الكريني يحاول أن يصوغ لنا عالما غير العالم نعيشه، عالم يحمل رؤية العالم كطموحات وحلول التي يقدمها لتجاوز الكائن لقضية ممكنة الذي ما انفك يعمل على نقده وتعريته، ويستدل المؤلف على هذا الاهتمام بالواقع الاجتماعي بقضيته التي تعج بالمآسي المسلوبة، لأن ادريس الكريني يدعونا إلى التقرير إلى ما هو كائن لا إلى ما هو ممكن، وهذا التعبير هو تجاوز للتصوير، باعتبار هذا المؤلف يتكلم فيه اللغة عن نفسها وعن الأشياء وهذا يقربنا من الرؤية السردية التي تجعل المؤلف يعرف كل شيء عن العالم المسرود والموصوف، كما يرى رولان بارت في كتابه “درجة الصفر في الكتابة” ص36، لأن اهتمام بالمؤلف هو إعلاق باب الكتابة وردم هويته وولادة القراءة (نقد وحقيقة) ص25، فالأنا الكرينية حاضرة ينكتب في البياض عبر السواد ويقرأ ذاكرته من دون السند إلى الفكر والشعور، فهي (الأنا) هي العبور نحو الموازي دون زلزلة العوالم السائدة وعدم الانصياع للذوق، بل الثورة على الكليشيهات الإجناسية وانزياح وانبثاق جديد مما يمنح للنصوص تفسيرات جديدة وتقاطعات يتوالد عبرها باستمرار فلا يتوقف بموت كاتبه كما يرى جاك ديريد “معرفة الآخر” ص115، فالقراءة إذن لا تنتهي بنقدها، ولا بتأويلها، ولا تأويله، يتداخل مع الأجناس المعرفية تمتد داخل العالم بأسره لهذا، فهو يهدف إلى تحطيم المركز والمضمون والوحدة الموضوعية (في نظرية الأدب) ص202، ويبقى هذا المؤلف تأريخ لمرحلة طفولية التي تلوك أطياف الذكريات وتستشرق نحو آفاق جديد، فالمؤلف حاول أن يطرح عدة أطروحات منها على الخصوص قضية (التمثال) كمقدس وطقس، وقضية التلفاز، وقضية الهامش، والمدينة المرتبطة بالغربة والضياع، وقضية الجامعة وغيرها من القضايا المفاهيمية والاجتماعية.