فوبيا السفــــر

بقلم الاستاذ : حميد طولست 

هل السفر تفريج هم، أم اغتراب وفقد أحبة؟
أعرف أن ما سأكتبه اليوم قد يبدو للكثيرين غريبا، ولكنها الحقيقة التي لا يمكنني التمرد عليها، والمتمثلة في ازدواجية الشعور بكره السفر ومحبته في نفس الآن، الرغبة الكاسحة في السفر ممزوجة بالرهاب العارم منه، مشكلة أعيشها منذ الصغر والى الآن، حالة انفعالية عاطفية معقدة أشعر معها بقلق مفرط وخوف ملح لاعقلاني يداهمني عندما أفكر في السفر ولو لمكان قريب.. ويزيد ضراوة كلما اقترب موعد السفر، وحان تجهيز حقائب الاغتراب عن الديار، فأتردد وأمتنع وأفكر كثيرا وأشعر بالإحباط والعجز واليأس والاضطراب، ويتشتت تفكيري، وأفقد الشعور بالأمان والدفء العاطفي وكأني أخشى من تحمل مسؤولية ما لا أستطيع المحافظة عليها أو القيام بها، فتغرق نفسي في طوفان من الأسى ويشحب وجهي، وأصاب بالرُعاش، والنزوع نحو التقيؤ، والتبول، وتُدمر كل إمكاناتي على الصمود والاستقرار إلى درجة لا أستطيع معها السيطرة على الذات، فأكره السفر رغم حبي الكبير للتنقل وعشقي العارم للاستمتاع بزيارة البلدان، والتعرف على تاريخ الدول والترفه في مناطقها السياحية، وإيماني القاطع بأن “تبدال المنازل راحة” وأن “اللي ما جال ما عرف حق الرجال “والبلدان.
حالة انفعالية عاطفية معقدة، ومفارقة غريبة لا منطقية، وشعور عام غامض وغير سار، أعيشه كتهديد أو توقع للخطر والسوء وحدوث كل شر مستطير، مصحوب بالتوتر والخوف والتحفز، وما يزيد الأمر غرابة، هو كونها حالة تحدث مع أشخاص يحبون التنقل، ويكثرون من السفر والترحال داخل وخارج الوطن.
صحيح أن لكل منا هواياته، وأن السفر يجسد أعظم الهوايات، فمنا من يحبه لتفريج الهم، ومنا من يجده عبئا كبيرا يُحمّله أوزارا. فبقدر ما أحب وأرغب في السفر، كوسيلة أولى للترفيه و”تبدال المنازل” في آفاق الدنيا الفسيحة، وعوالمها المتسعة، بقدر ما أشعر- ولأسباب غالباً لا شعورية يبطنها عقلي الداخلي- بفقد الارتباط بحاجاتي وأدواتي ورفاقي وأهلي وبلدي وحتى جدران بيتي، وأشعر بشعور المفارق الذي ربما لن يعود أبداً، وهو الشعور الذي اكرهه، لأنه يحول السفر إلى كابوس وقطعة من العذاب، بالرغم من تطور وسائل النقل وتوفر الفنادق وأماكن الإقامة المريحة والمطاعم والمدن الترفيهية والمطارات الخيالية، ورغم ما يتيحه السفر من فوائد جمة- قيل ظلما أنها خمسه فقط- اجتماعية وتربوية وصحية وحضارية واقتصادية، تمكنه من أن يكون هواية الكثير من الأسوياء – ولا أدري ربما لست من سويا؟ لأني لا أستطيع معرفة أسباب ما يعتريني من تشاؤم كلما فكرت، مجرد التفكير في السفر، لذلك لن أدخل في تفاصيل الأسباب، ليس تعتيما، لكن لأن بعضها واضح في ذهني، وبعضها ما زال مختبئاً في خزائن اللاوعيي، ولا أستطيع أن أراها فضلاً عن أن أشرحها…!
لكني متيقن أنها لا تدخل في خانة الأسباب التي ذكرها الإنجليز في تراثهم القديم عن السفر والمسافر حين قالوا: “يجب أن يكون له عينا صقر ليرى كل شيء، وأن يكون له أذنا حمار ليسمع كل شيء، وأن يكون له ظهر جمل لتحمل أي شيء، وساقا معزة لا تتعبان من المشي، وحقيبتان إحداهما امتلأت بالمال والأخرى بالصبر”…، وليست بسبب نصيحة الأعرابية لابنها في سفره حين قالت له: “يا بني إنك تجاور الغرباء وترحل عن الأصدقاء ولعلك لا تلقى غير الأعداء، فخالط الناس بجميل البشر واتق اللّه في العلانية والسر”، ولم تكن استجابة لنصائح الحكيم الأعرابي لصديق له أراد سفر فقال: “إنك تدخل بلداً لا تعرفه ولا يعرفك أهله فتمسك بوصيتي تكتب لك السلامة، عليك بحسن الشمائل فإنها تدل على الحرية، ونقاء الأطراف فإنه يشهد بكرم المنبت والمحتد، ونظافة البزة فإنها تنبئ عن النشء في النعمى، وطيب الرائحة فإنها تـظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك وقولك دون فعلك ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والألفة فإنك إن استحييت من الفظاظة اجتنبت الخساسة، وإن أنفقت من الغلبة لم يتقدمك نظير في مرتبة”.
أما الذي أنا متيقن منه، وأحمد الله عليه، أنها حالة وقتية تتبدد مع مرور الوقت، ويتراجع الخوف عندما تنتهي النوبة عند السفر وبعده، وأني لست الوحيد في هذه الحالة وذاك الشعور،
وقد تفرق الناس في السفر ، كعادة بني البشر في قضاياهم عامتها ، من مؤيد للسفر ومعارض له. وحفل الأدب العربي بالكثير من قصائد الشعر والنثر التي تحث على الأسفار والرحلات كما حفل بالكثير الذي يعارض ذلك. كقول المتنبي في عشق السفر والترحال:
ذراني والفلاة بلا دليـل ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذي وهذا واتعب بالاناخة والمقـام
وذاك الذي نسب لأبي البلاغة الإمام علي بن أبي طالب (ع) يمتدح فيه الغربة امتداحا ويجد فيها أفضل وسائل لتفريج الهم واكتساب المعيشة والتعلم وتعليم الآداب والرفقة الجميلة، حيث يقول:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل وغربة
وقطع فياف وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته
بدار هوان بين واش وحاسد»
أما المعارضون للسفر والرحلة فقد عبر عنهم شاعرهم بقوله:
تفكر إخوان وفقد أحبة
وتشتيت أموال وخيفة سارق
وكثرة إيحاش وقلة مؤنس
وأعظمها يا صاح سكن الفنادق
فإن قيل في الأسفار كسب معيشة
وعلم وآداب وصحبة فائق
فقل كان ذا دهراً تقادم عهده
وأعقبه دهر كثير العوائق
وهذا مقالي والسلام مؤبد
وأجمل مما سبق قول أمير الشعراء شوقي في مرارة الشعور بالتغرب:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ــ نازعتني إليه في الخلد نفسي
وفي الختام لا يسعني إلا أن أغني مع ناس الغيوان رائعتهم التي تقول:
“شفتي الحالة يا عيني دوي.. ما بديا ما ندير..” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *