بقلم :حميد طولست
في انتظار مشاهدة تظاهرة فاتح ماي هنا بمصر لمقارنتها بما يقوم به العمال المغاربة في نفس اليوم ، ارتأيت نشر مقالة كنت قد كتبتها سنة 2015 عن نفس المناسبة بفرنسا ، التي أظهر فيها مدى تغلغل الرومانسية في حياة الغربيين عامة ، وارتباطها بكل مظاهرحياتهم حتى نضالاتهم العمالية ، ما جعلني أعنون المقالة بـ: تحت عنوان “فاتح ماي في فرنسا ، رومانسية ونضال ! ” وكلي شوق لما سأكتشفه عند إخواننا شغيلة مصر التي يسرني أن أحييها هي وكل عمال العالم.
المقالة : ظاهرة غريبة أثارت انتباهي في هذا اليوم الأول من ماي العيد الأممي للعمال ، هي اكتساح نوع من الزهور وتوفرها بأعداد خيالية في كل المحلات والأسواق التجارية العملاقة ، وفي كل الشوارع والطرقات ، يعرضها باعة المتجولون من التلاميذ والطلاب ، ويقفون بها أمام المحلات التجارية والمصالح العمومة ، ويتنقلون بها من بيت إلى بيت ، ما ذكرني بالحرشة والملاوي التي تملأ شوارع مدننا كلما قرب موعد رمضان ، والسكاكين والعطرية التي تغزو كل أسواقنا مع حلول أيام العيد الكبير. ورود على شكلِ أجراس صغيرة الحجم بيضاء اللون بأوراق خضراء طويلة مفلطحة ، تسمى زنبقة الوديان أو زهرة الطلسم Le Muguet ، نسبة لموطنها الأصلي كانت بالوديان اليابانية ، لا يمكن للعين أن تخطئ حُضورها اللافت ، في كل مكان من فرنسا ، يحملها الصغار والكبار ، النساء والرجال ، الأغنياء منهم والفقراء كهدية يقدمها في الغالب الذكور للإناث ، بمناسبة العيد العمالي . فما سبب هذا التقليد ، وما قصته ، وما علاقته باحتفالات العمال بيومهم العمالي ؟؟..أسئلة شغلتني وأنا أتابع هذا الرواج التجاري الذي خلقته هذه الزنبقة العجيبة رغم أصولها اليابانية .وللإجابة عن هذه التساؤلات ، لابد من الرجوع قليلا إلى تاريخ الأعياد الفرنسية ، التي نجد أنها كثيرة ومتنوعة ومتباينة من حيث الشكل والمضمون ، منها الوطني والعالمي والعائلي والمهني وأنواع أخرى كثيرة من الاحتفالات العجيب والغريبة التي يعطونها قيمة ويحاولون تعميقها بتكرارها والاحتفال بها.ومن بين اغرب ما يحتفل به الشعب الفرنسي إلى جانب أعياد ميلاد الإنسان والحيوان ، أعياد الحدائق والنباتات والأزهار التي يقيمون لها احتفاليات بتواريخ إنباتها أو بدءِ تفتح أزهارها ومواقيت طرحها للثمار ، كهذه الزهرة العجيبة التي يحتفلون بها في الأول من أيار من كل عام ، والذي اعتاد فيه الفرنسيون الذكور ومنذ عقود ، بل منذ عصور اهداء زنبقة الوادي -الزهرة التي يسندون لها خاصية القدرة على جلب الحظ والسعادة – للإناث اللواتي يفتن بها .أما من أين جاء هذا التقليد ؟ وما علاقة إهداء غصن من زنبق الوادي للأحبة والأقارب والأصدقاء بعيد العمال العالمي النضالي الخاص بالنقابات والمنظمات المدافعة عن حقوق العمال المقهورين؟ولمعرفة ذلك ، لابد من الرجوع إلى التاريخ الفرنسي مرة أخرى ، وإلى ، قصة هذا التقليد القديمة جدا والتي تعود إلى ” عصر النهضة ” وبشكلٍ أدق إلى الملك شارل التاسع الذي تلقى في الأول من أيار عام 1561 باقة من هذه الزهور الجميلة كهدية ، ويبدو انه سعد بها كثيراً وقررَ أن يهديها بدورهِ في الأول من أيار من كل عام إلى كل نساء البلاط الملكي بهدف جلب البهجة والحظ السعيد لهن، وبفضل هذا السلوك الرومنسي الملكي ، ترسخ تقليد إهداء زنبقة الوادي في فرنسا في كل فاتح ماي ، بل وأصبح عيداً يُحتفى به ، وانتشر بين كافة فئات المجتمع الفرنسي ومن بينهم العمال والفلاحين الذين تلقفوا المبادرة مباشرة بعد تخطيها عتبات القصور لتصبح ممارسة متزامنة مع عيد العمال الذي بدأ الاحتفال به في فرنسا في الأول من أيّار 1890 ، ومنها انتقل إلى الدول الأوربية الأخرى ، ومن ثم إلى مختلف دول العالم .
ومن الجدير بالذكر أن المتظاهرين المحتفلين بعيد العمال في باريس عام 1890 كانوا يرتدون ربطة عنق حمراء مثلثة الشكل ترمز لمطالب العمال الثلاثية : 8 ساعات عمل، 8 ساعات نوم ، 8 ساعات للراحة والاستمتاع ، وقد عُوِّضَت تدريجيا تلك الربطة الحمراء بغصن من زهرة زنبقة الوادي المعقود بشريط أحمر، ومع مرور الزمن أصبحت زنبقة الوادي ، وبالضبط منذ سنة 1907 ، رمزاً ليوم العمال العالمي وارتبطت بنضالياته وتضحياته ، تعطيه ربيعاً متجدداً ، ويضيف هو لها رونقاً وبهاءً ، ويمنحها ديمومة أُممية ، دون أن يبعدها عن الاعتقادات العاطفية للزهرة وبقدرتها السحرية لجلب الحظ والسعادة والتجديد والتواصل مع الربيع وإلهام قوافي الشعراء ..