إنجاز: د الغزيوي أبو علي/باحث
دة بن المداني ليلة / باحثة
تقديم:
إذا كان العنوان عبارة عن عتبة عليا التي من خلالها نطرح الأسئلة الملازمة للإنسان ابتداءا من الخيط ومرورا بلام النفي وانتهاءا بالرأس، فهذا التحول هو نقص في الجسد، فهذا الأخير (الرأس) هو محور كل بناء كلياني، فهو الذات والحياة والكون، والطقس وغيرهما من الأسماء التي تكاد تشترك في مسمى واحد، فهو هرمية طقسية واجتماعية وثقافية ودينية، إذ عمل العنوان على تبلور نظريات في التمييز العرقي بين الأمم والشعوب وفي الاستعلاء الاستعماري والاستيطاني وفي حروب كثيرة تؤطرها نبوءات هذا الجسد، والرأس كما يرى الحسن حما في كتابه طقس القربان، فالمؤلف يقف ضد الرغبات والأمنيات لكي يبرز موقفه من هذا العالم الأخرس حسب سارتر، لأنه عاش الحقيقة الوهمية التي تأسست عليها ثقافتنا، وجعلته كائنا بيولوجيا وليس كائنا فاعلا في استحداث التشريح الروحي الذي يجعل وجوده ممكنا، إذن هذا الانفصال امتحان عسير لمن يفكر في ظل ثقافة وفن فقدت كينونتها ذلك ما عبر عنها المؤلف في هذا النص الدرامي.
وتعد الحقيقة غاية كل مجهود معرفي إنساني كما تتحدث أساسيا بكونها بحثا عن الحقيقة فمسرحية بلا رأس تطرح قضية شاب منزوي، يقطع مسافات تاريخية طولا وعرضا، باحثا عن حقيقة واقعية قابلة للإدراك من طرف الذات، والمطابقة للواقع، لأن حقيقة هذه الذات الباحثة تبحث عن قيمة موضوعية وكقضية صادقة، حيث يحاول البطل أن يفجر طاقته لصناعة خريطة جديدة لحياته وسع واقع متكلس ومتكسر، ولكن السؤال كيف تعامل مع الظلم؟ وكيف تعامل مع لغة القوة؟ فالممثل صابر هي الشخصية الجوهرية للصراع لإبداع مسافة فكرية تجوب الجغرافية لمعرفة دلالات الواقع والحقيقة، حيث يشير إلى تعدد مجالات توظيفها عقلية وحدسية، لكن صابر يعيش الوهم كاحتمال يضفي باسم المعرفة الهامشية، فلا يمكن الحسم فيها منطقيا ولا عقلانيا، بل كرأي محتمل لا تدعمه الأدلة المنطقية ولا تساعده في تطوير شخصيته، لأن هذه الرحلة تستند إلى التفسير من خلال اللجوء إلى معرفة واقعه المجهول مقربا ومعرفا بوطنه، وهذه الرؤية تدفعه إلى فهم مقاصده الوظيفية التي ترجع هذا الواقع المتنوع إلى النسق المعطى ومكوناته الإنسانية، فهذه القدرة غير قادرة على مجاراة الحقيقة، فاعتماد التفهم والتأويل هو ما يناسب طبيعة وخصوصية موضوعها من جهة وذلك ما يحتفظ الوجود الإنساني غناء وتفرده من جهة أخرى، إذن تبقى المعرفة الاستكشافية بنوع من الإجماع، فهي من جهة نتاج مجهود عبر التاريخ في سياق بحثه عن تفسير هذه الظواهر على الخصوص ومن جهة ثانية يركز على الهامش الدي لا يستطيع أن يغير الوجود الإنساني، لهذا تطرح المعرفة الاستكشافية تساؤلات متعددة حول هذا الإنسان الذي ليس حرا بشكل كامل وليس خاضعا للحتمية التاريخية بشكل كلي، لأن المسرحية المعنونة “خيط بلا رأس” تقدم لنا شابا اسمه صابر يقطع المسافات طولا وعرضا باحثا عن الحقيقة المفقودة رغم كل هذا الفقدان فإنه لم يفشل في البحث عن تفجير طاقاته وبناء رؤية جديدة لواقعه وسط التناقضات والانكسارات التي يقدمها لنا هذا الواقع، فالقوة، والفقر والجهل هو الثالوت الذي يقف أمامه (صابر) فلم يستسلم بل جاب للأم الذي هو الوطن أصحاب القلوب والرحمة وأصحاب المعرفة الفنية، فعن طريق الفن يعيش هذا الإنسان ويحيا، إنها رحلة شيقة في الزمان والكون وطبيعتها، والحركة لتكون عبارة عن إجابات متماسكة عن أسئلة مهمة وأساسية تحير الممثل صابر وما زالت تحيرنا، فالسؤال المطروح، هل لهذه المرحلة حدود؟ وهل هذا الحب للفن هي بداية للمرحلة الجديدة؟ وكيف يفكر صابر خارج الهامش؟ أسئلة كثيرة ومتنوعة أصبحت عبارة عن دوافع غير مستقلة عن أحواله الأصلية، أي أن الوسائل المستعملة لبلوغ غايات مبكرة حسب المخرج تصبح غاية حسب العربي الدوش في ذاتها، فصابر يعمل عملا شاقا واضعا كل طاقاته في حبه للوطن، فالمسرحية قادرة على طرح مشاكل الإنسان المعاصر، لأن صابر صال وجال باحثا عن السعادة في هذا العالم، فلم يجد غير القلق واليأس، عشق الفن حتى النخاع فلم يجد من يساعده، فباع جسد للمسرح دون قوانين ولا اعتراف، فهو ذا حساسية مرهفة، وقادرة على الإدراك للتغيرات والإحساس بالمشكلات وأثارها، فمنظر الحياة عنده وعند الممثلين من مظاهر الترقب لما يتطلب ذلك الفن من جوانب التكيف المختلفة التي يفرضها العالم.
لقد شكل الاسترجاع قاعدة ثورية واستعارة رمزية، حيث ضم بين صفوفه عدة تيمات تؤمن التأويل وكذا التحويل، الذي منح للمؤلف تماسه الداخلي الذي أهله للسيطرة والتوليد، حيث يقوم حلا لكل مستويات التناقض والتخالف في المجتمعات وفي الذوات، ولا يرتبط بنظرية واحدة التي تتجلى في الأسئلة التالية، كيف نكتب الهامش؟ وكيف نفكر؟ وما علاقة اللغة الدرامية بالذات المفكرة؟ أسئلة تنثال علي كتيمات لتشكل كلا متناهيا، فالكتابة هي ثورة وتمرد ضد الذاكرة، فلا يمكن أن تنحصر في معرفة الأشياء كما يقول سقراط، فصابر هو ذاك الشخص المثالي والطامح والقادر على إدراك الروابط الفكرية بين هذا الجسد الفاني والعالم المتنافي، لأنه يرى الفن والثقافة لا تساوي شيئا، لذا يختبر الرحلة التي قام بها بجهده، حيث حولها إلى قراءة التي عجز أصحاب الرأي على أن يجدوا الأدلة المتعددة لإثبات ذلك، فعبقريته الفنية هي زلات أحلام ورغبات مكبوتة لا تبدع إلا من خلال الاستسلام للإيديولوجية المهيمنة، فهو ليس ميرسول (الغريب عند كامو)، فلا يمثل صورة الصانع لقاتل الفن في مجتمع يصنع الجهل والقداسة، هكذا يمكن إذن أن نجد في صورته التي على يحملها الفن والثقافة هي عبارة عن مكبوتات تراوده عبر رحلاته رغم اختلافه مع الجذر الأصلي، فحاول أن يتجاوز هذا العالم المسيج لتوليد أفكار مثالية بألفاظ وأفعال واستعارات وصور، فهذه المقاييس لا يمكن تعميم النتائج بعد ذلك إلا إذا كانت العينة ممثلة تقريبا للمجتمع، ويحاول الممثل صابر حسب العربي الدوش أن يختار معادلة إحصائية تمكنه من الوصول إلى قيمة عددية تحدد لنا مقدار التداخل بين ما هو رغباتي وما بين الواقع، فالمخرج العربي الدوش في هذه الرحلة كما ذكرت هي رحلة لمواجهة ذلك الفشل في حل لغز الرحلة المرتبطة بالفن والحياة ويمكن تسمية هذه الرؤية بالعبثية، لأنه غير قادر على تشكيل أفق زمني، وهذا ينطبق علينا لأننا غير قادرين على فهم “الفن والثقافة والحياة”، فهي الأقانيم الثلاث التي تبقى خارج المؤسساتي، وخارج حدود تقييمنا كما يقول مينكوفسكي فإن صابر حسب العامة شخص مريض لا يعرف صلته بالواقع، فهذه الصلة متناثرة وصلة لحظية لا تجد لها مكانا في الأفق الزمني، فهو الشخص سريع التأثر بضغوط العالم الخارجي، لأن الشيء الذي يقع في نظره أو عبر رحلة أو كلام يتسم بالفقر ليشبه حياة حيوان ما أو المرضى عقليا، لأنهم دمية بيد الحاضر المتغير دائما بالمعلومة التي نتلقاها فهي الوحيدة التي يعطونا إياها الطابع السلبي، فهم الحداثيون الذين يظهرون لنا أن الحياة في الحاضر لا يمكن أن تكون غنية ما لم تكن جزءا من تنظيم يتكامل مع دروس الماضي، ويدعونا المستقبل ليشبع حاجات الحاضر، لأن النشاط للمهووسين مرتبط بهذا الانكماش في الأفق الزمني، إذ لا يؤثر في مزاجنا وإن الماضي أو عدم الوثوق بالمستقبل ومزاجه يعتمد الحاضر على نحو كامل، (سيكولوجية الزمن) د. علي شاكر الفتلاوي ص112، فالمسرحية “خيط بلا رأس” حوال المخرج العربي الدوش أن يبدع لنا شخصية هولامية لا تعرف الحدود، ومبدع ذو تفكير أصيل، لا يكرر نفسه، فهو صاحب الرأي، ينفر من التكرار ومن الارتباط بالغير، يتجاوز كل معطى ثابت ليزرع الاختلاف في هذه الحياة التي هي لعب ولهو، ونضال، فلم تنصفه ليكون مثقفا أو فنانا عبقريا يعترف به المجتمع، لذا تمرد على ذاته وعلى الوجود كتمرد ألبير كامو، وأندري بروتون وذاد وأنتونان أرطو، ونيتشه وغيرهم من العبثيين، لأن شروط التقويم في نظرهم لا تحتاج إل أصالة ما بقدر ما تحتاج إلى قدرات أخرى كالتمثيل الدرامي الذي يرتبط بالتكوين الذي يلائم الشخصية المتخيلة، وقد نبه المؤلف بورحيم كستا نيسلافسكي إلى هذا الهم قائلا <<إنك يجب أن تضع نفسك في موقف شبيه بموقف الشخصية التي تصورها، وتضيف افتراضات جديدة إذا اقتضت الضرورة، حاول أن تتذكر حالتك عندما تكون أنت في موقف مماثل حتى إذا لم يكن قد مر بك موقف كهذا من قبل، فيجب أن تصنع موقفا خياليا، وأن تحس بنفسك في الدور، وأن تحس بالدور في نفسك>> عبد الستار ابراهيم “الإبداع” ص25، وانطلاقا من هذا التصور التركيبي فالمؤلف بورحيم ينتظم المقطوعات من خلال المطابقة والمماثلة، حيث تتحول الحياة إلى موت، ويتحول الفن إلى سلعة من خلال رحلته الفانية، لكي يسهل على نفسه استعذاب الموت والترحيب به بوصفه أهون من فراق كبده، لأن حضور العبثي الإنساني يشكل رؤية الفنان والممثل عبر امتداد المسرحية، سواء من خلال كنانية الموت والحياة التي تحكمه بصفة عامة، أو من خلال بعض المواقف الأخرى اليومية أو التأملية حسب المؤلف، لأنه الممثل الغير الناجح والغير القادر على بناء عقل ايروسي يمكن من خلاله صياغة السلوك، بحيث يكون مطابقا للسلوك المتخيل أو الممسرح، فالمخرج العربي الدوش جعل الممثل صابر يتحدث عن فلسفة درامية عبثية التي يعيشها، والقادرة للتخلص من ذاتيته من أجل اتخاذ بعد دراماتيكي وليأخذ الطاقم الفني انطلاقة فلسفية جديدة ليتيح لنا السبل الهادية لمعاينتها، فهذه الفلسفة تجسدت في الممثل صابر الذي لم يسطع أن يحمي ذاتيته من التشتت ليتيح لنفسه بالعودة إلى الواقع وأن يرضى مثل الدراويش والعكاكيز الصوفيين، لكن هذا التمرد المثالي يقربنا إلى منظومة أفلاطون، وإلى وجودية سارتر وهيدجر وإلى عبثية بروتون وداد وغيرهم الذين اعتبروا أن الحياة ليست سر الوجود، بل أن أنينه يستمده الفنان صابر من واقعه المفترض ليكون غير محكوم إلا بالخيال والحلم، هكذا يصور لنا المؤلف والمخرج هذه الشخصية الموظفة التي أرادت أن تصنع لنفسها موقعا ومكانا فنيا أو ثقافيا في ظل مجتمع محكوم بالتقنية وبالجهل المقدس، لأن الإبداع يتأسس في حقيقته إلا على خلق نظام جديد من العلاقات بين الأشياء بعضها بالبعض، ليربطها بعالم الخبرة الذاتية المفترضة والوجدانية، لذا يجب التفسير أن السبب في إبراز هذا العبث الذي يواجهه الإنسان المعاصر هو عبث ميتاعولمي كسلوك حيواني والمتلقي لكل الأفكار الجديدة، المسيجة بالإيديولوجية ويبقى الوعي والذات والبداهة هي مكونات لا تتساوق مع شروط المعرفة الموضوعية، إذن فالمؤلف اصطنع لنا ميثاقا مفصولا عن الواقع لكي يقوض ما هو ثقافي وما هو فني، لأن ليس لهما قيمة في الفضاء والمكان العمومي، إذن أن وجود الممثل خلق اختلافات في البناء الدرامي، مما جعل العربي الدوش المخرج يعيد النظر في الحمولات الفنية برؤية نتشوية التي تجعل الإنسان لا يتمتع أبدا بما يكفي من الخفة، بمعنى أن لا يكون أبدا حرا في علاقته بما ينتمي إلى مجال الوقائع والمجال الذي يتوقف عليه دوما هو مصيره، إن الإنسان يمثل في آن مطلب حرية واستحالتها، لذلك حسب نيتشه أن تكون إنسانا هو شيء ينبغي أن لا تكف عن تقبله ومحاولة مجاوزته في آن، ولذا نجد عنده رفضا لتقبل الأشياء كما هي حسب تعبير جان هيرش في كتابه “الدهشة الفلسفية” تر محمد آيت حنا ص400، فالطريقة التي مارسها المؤلف هي عبارة عن مغامرة فكرية التي لا تحاكي الفشل الوجودي، بل جعلته ينخرط في جنس الاختلاف من أجل تفسير العصر وليس تغييره، لذا لم يقدر صابر أن يدعم شخصيته ليغامر في مشروع طموح، وليمنحها قوة لتؤسس عالمها المفترض في العالم الملموس، لذا فأمله مفقود وجسده محاصر، لأن الروح ما زالت تفهم الجسد رغم أنه لم يكن من رواد النهضة الدرامية فلا الحياة رؤيا ولا الفن بداية الوجود الفعلي، فالمخرج جعل كل شيء عبارة عن عبث دون اعتبار البديل الجديد لهذا العاشق الدافشي، إنها مظاهر التركيب في الوجود عن تجليات الأمل في تاريخ منسى في الحداثة بطريقة لا واعية، لقد كان لطوافه وتجواله أصول واقعية وليست مقاربات ذاكرتية تحب الفن والثقافة والتاريخ الذي يؤطره، لكن الواقع يهدم هذا الأفق المرتبط بهوية مزيفة ليس لها أصل جامع، لأن التمني والأفق لا يحتمل إلا المآسي، فهو غير قادر على موقعة جمالية في زمكان، لأن الإنسان هو مخلوق لذة وليس مخلوق الحاجة، فليس القصد في الرحلة إلا الإلغاء للفنان وللمثقف العضوي.
ويرى سارتر في هذا الشأن <<أن الذات هي ما ليست إياه، وأنها ليس ما هي عليه لنشدد على واجب الذات في أن تخلق ذاتها، وبالتالي أن تتجاوز في كل لحظة ما هي عليه>> “الدهشة الفلسفية” ص400، فالمخرج تصدى لهذه المواقف بنزعة عبثية لا تنفك تتعالى على واقعها المكسور والمكلوم، فالإنسان حسب المخرج يضيع بهذا السعي في المجهول، لأنه يمشي على لوح فوق مستنقع حسب تعبير كافكا، فاللوح غير موجود أصلا، فهو القادر أن يبدعها إذا أراد المشي فوق المستنقع، وأن لا يقنع وإنما عليه أن يصنع ذاته بذاته وأن يخترع نفسه فيما وراء واقعه، من هنا نرى أن مسرحية “خيط بلا رأس” هي ثورة ضد المألوف والعادة، وضد الثبات، وبداية الإنسان الذي يريد أن يعيش الحياة لا أن يتعايش معها، وهنا نطرح السؤال هل هذه المسرحية جزء من حياة طارق بورحيم؟
خاتمة:
ومهما يكن من أمر، فالمسرحية كما قلنا هي وعي ممكن في عالم يسوده الوعي الشقي، وعي مرتبط بالإقصاء والتهميش، حيث أصبح المثقف معلقا بأمراس كتان إلى صم جندل، لا يعرف مكانته سوى في خياله، لأن الآخر الأصم والجحيم لا يعرف أنيته ولا ألمه، بل هم المجتمع هي ثقافة التفاهة لا غير، وفي الأخير أشكر كل من شارك في هذه المسرحية وعلى الخصوص العربي الدوش في الدراماتورجيا والإخراج، والعبثي طارق بورحيم مؤلفا ومشخصا، وحسن عطشان في السينوغرافيا، والملابس والماكياج من طرف جميلة المعزاوي أما الإضاءة فكانت من طرف سعاد آيت أوكدور، أما الإعلام فنجد لحسن أزيري وأخيرا المحافظة العامة لهشام بربيطة، وكل من شارك من بعيد أو قريب والتوفيق للجميع.