د. الغزيوي أبو علي
دة. بن المداني ليلة
إذا كان كل فكر وليد واقعه، ومساهم في تأطيره، فإن قراءة أي مشروع روائي لا يكون بريئا، بل يحمل تعدده وتنوعه وتناصيته، وما دامت الأرشية القرائية تختلف فبطبيعة الحال لا نسير على نفس الوتيرة التي سلكها الكلاسيكيون، من هنا يبدو لنا أن السؤال يحفر في دواخلنا باحثا عن تموقعه داخل هذا الفن المبحوث عنه، إذن ما هي الحساسية؟ هل هي إضافة أم تجاوز، تدمير، أم هي تفكيك، أم هي خدعة إيديولوجية أم اندماجية سلوكية، أم هي قفزة كينونية عرفتها الرواية الغربية؟
انطلاقا من هذه الشذرات التي يمكن اعتبارها كصيغة منهجية التي من خلالها يمكن صياغة مشروع مفتوح وغير نهائي حول هذه الحساسية، لأنها عملت على تغيير كل التقنيات الشفوية والمدونة، وما دام الفن يتغير، فتغيره دليل عن نوع المساءلة والتوتر، فأصحاب الرواية الجديدة عملوا على إعادة النظر في كل المرجعيات التي تتأسس على مفهوم المتعة والخفة والأسلوب الممنمق والطلاوة، ووحدة الدال والمدلول، وكذا القراءة الخطية، وهذه المعاودة ليست إلا اختراقا وانزياحا وانتقال من نظام فكري إلى نظام فكر آخر حسب مفهوم ميشال فوكو في كتابه “نظام الخطاب”.
فالانتقال من القرن 16 و17 هو نفس الانتقال للقرن 18، حيث يستطيع الباحث أن يستخلص كل الخلاصات اللغوية والفنية، كما يرى بذلك “شاليشل” (اللغة معناها ومبناها) د. تمام حسان – انظر كذلك أصل اللغة – د تمام حسان) لكن في القرن 19 حاولت هذه الجماعة أن تضع جدارا بين ما هو كلاسيكي وما هو حداثي، عارضين بذلك تلوينات كتابية جديدة تتغيا الجذرية، وتنبني عن الموضوعية الذاتية، وتتأسس على رؤيا واسعة تجعلنا نستشف ما يلي:
الروائي مثقف + كاتب + مبدع + قارئ + ايديولوجي
موقعه
المجتمع يصوغ عالمه صياغة كليانية أي يتكلم بالضمير الجماعي بمفهوم دوركايم أو بالأنا الأعلى حسب جو لاكان.
فالروائي في تكسير لهذه الخطية سواء على مستوى الإنتاجية (بناء النص) أو على مستوى الوظيفية (تلقي النص)، اكتست الرواية طابعا تعدديا وتناصيات وتداخلات بين الأجناس حيث لم تعد تعتمد على الشعر أو النثر أو الخطابة، بل اعتمدت على تذويب كل شيء في نص كبير الذي يسمى بالرواية، وهذا الانصهار بين ما هو تخيلي وما هو واقعي وما هو ذاتي جعل الروائي ينكتب بدوره في عالم الخيال، فأمست الكتابة بديلا لكل تأريخ ساذج وكله كتابة أحادية، ويرى بارت أن الكتابة الروائية هي التي عملت على الجمع بين ما هو إيروسي وما هو عجائبي، جاعلة الذات تنفلت من كل قيد أو من كل انصياع للواقع اليومي1(بتصرف)، إذن فالخروج من سقف الانطباعية والشوفينية هو خروج من عالم الأدب المسيج بحقيقة واحدة إلى عالم يدعونا إلى مساءلته وتدميره لبناء رؤية وجودية تجعل الإنسان يحس إحساس بمرارة الزمن لا إحساس الطمأنينة التي ألفها منذ عصر الأنوار (ق: 16 – 17)، وفي عهد السلوكية والوضعية، أما اليوم فلم يعد الإنسان متصالحا مع ذاته والعالم، بل أمسى يحتلب مرارة العشق المفقود صانعا بذلك أي انشقاق أو تصدع بينه وبين العالم الخارجي، ومن بين مهندسي الأرواح “نتالي ساروت”، “ألان روب غرييه”، “ميشال بوتور”، فهذه الجماعة عملت على استقراء الواقع بكل نصوصه خالقة بذلك نصا غير مسيج، وقابلا أن يستوعب كل الشروط الاجتماعية والتناقضات السائدة، لذا اتخذوا عليه الرواية التقليدية قصد إعادة الاعتبار لما تسميه “كريستيفا” “بالباراغماتيك Paragmatique” التي يمكن اعتبارها بأنها نظام من الترابطات والتشابكات المتنوعة التي تؤلف وحدة متعددة حيث يأتي المعنى النصي متنوعا، وهذا ما يسميه ياختين بالحوارية ذات المنطق النوعي الذي يقوم على أساس السخرية الدرامية.
من هنا ينبغي أن نضع خطاطة بسيطة لمعرفة مدى تأثير هذا الجيل في الرواية:
الرواية تقليدية
تمهيد – عقدة – حل – نهاية
الرواية جديدة
موت البطل – السرد – الوصف – الضمائر – غياب
العنوان – الحلم – الإبهام – الحكي – تعدد اللغات –
الحوارات – تداخل الأزمنة – الأسلبة – الترقيم.
ولعل هذه الخطاطة تبين لنا أن الرواية التقليدية تجنح لبناء الزمن النهائي القائم على التصور العادي وكذا عن القراءة الخطية التي تجعل اللغة تحتمي بالتراث الذي لا ينبغي تجاوزه.
يقول “جون بييرفلي”: إن كل أدب وكل فلسفة عبارة عن طفيليات تعيش على اللغة وتريد مع هذا أن تثبت استقلالها الذاتي، دون أن تفكر لحظة أنها لا تعيش إلا باللغة، وبفضل اللغة”2.
وهذا الإفراغ من المحاكاة (Minésis) والمماثلة (Analogie) والتماثل (Représentation) التي هي ممارسة تحاول أن تجرد الدراسة الأدبية القديمة مما سمته كريستيفا بالتصور النظامي المونولوجي (Système Monologiste) أو الأحادي البعد، وهذا الحضور لا يخضع لنظام أحادي بقدر ما كان ينبني على كل توزيع كوسمولوجي من نوع خاص، أي أن النص يحمل اختلافه وتعدده الخاص به، وهذه الإعادة حسب هذه الجماعة هي رغبة في اتخاذ موقف من كل البداءات الايديولوجية والنهايات السعيدة لجعل الأدب يتمرد على نفسه جاعلا ذاته خاضعة لكل قراءة تحبينية تستدعي التأمل الباطني لا الوضوح والإبانة والاستكشاف بدل الوصف والركون إلى البساطة، من هنا نرى أن هذه الدورة الكوبرنيكية التي أحدثتها هذه الجماعة مع مجموعة من الروائيين والنقاد جعلوا الرواية لا تأسر بنمط واحد ولا تتدثر بمعطف جوجول، بل أضحت تبحث عن هويتها المفقودة في ظل هذا الواقع الرتيب، ويرى “هوريس بلانشو” أن كل جنس أدبي هو ثورة على الكائن قبل الثورة على الخيال، لأن العالم لا يصنع من كلمات بل من الأفكار، وأن هذ الصانع لا يكون صانعا إلا إذا تجاوز آنيته وركب صهوة خياله عارضا بذلك شعريته التي تجمع بين اللغة والكلام، والمرجع والتاريخ، والذات والموضوع، غير منفصلة عن هذا الذي نسميه القارئ، يقول عبد المالك مرتضي: “إن كتاب الرواية الجديدة جاءوا إلى هذه المقيم المنطقية لمسار الزمن وبناءه، فعدوها ضربا من القيود الفنية التي تأسر الروائي، فتجعله مكبولا بأكبالها سلفا”3.
فبقدر ما تسعى الرواية التقليدية بخاصة إلى ضبط السلوك الفني وتعليبه في قوالب قيمية معيارية لها الثبات والمحافظة، بقدر ما يطمح الإبداع الروائي إلى تكسير تلك القوالب في سبيل البحث الذائب عن رؤى تحريرية للإنسان تنسف كل تبعية غير مشروطة، لذلك فإن تبنينا استراتيجية القراءة لهذه الحساسية، لا تقدم نفسها كفاية في هذا الإطار، لكنها على العكس من ذلك وسيلة إجرائية لصياغة مفهوم مغايرة الأدب القديم، يعني مغايرة حساسيته القديمة، مفهوم يغزو كل الطروحات الميتافيزيقية التي ذكرناها سالفا، والتي ظلت تسكن التوجع المثالي لنظرية الرواية والأدب عامة.
بمعنى آخر، إن الاستراتيجية المقترحة لهذه الحساسية تجد عشقها وغوايتها في إنزال النص من سماء الآلهة (الخير – الشر – الذات – الشياطين – الرغبة – اللذة – السعادة – الشقاء) إلى أرض واقع الإنسان المدرك ، بحيث يغذو سؤال الرواية، وورشة للتشكيل الفني بعد أن كان ضريحا للإضحاك والتسلية وتقديس النصوص المسجلة باسمه، لكن هذه الطريقة الجديدة قتلت ما يسمى عند بارت بالمؤلف، لذا يقول عبد المالك مرتاض: “ليس سارد الرواية هو المؤلف، ذلك واضح، وإنما “السارد خصية خيالية يتحول المؤلف من خلالها”4.
وهذا الوجود الكلياني الأدبي الجديد لا يستلزم أبدا وجود كيان نهائي، ما دام أن التعريفات الروائية الجديدة هي تعريفات عديدة لا تستلزم النهاية، بل تلتقط عدة مفاهيم ورؤى، قصد تأسيس فعل حقيقي بواسطة متخيل يكون بمثابة فاعل في خلق رواية متجانسة بين ما هو أدبي وما هو خيالي، (تاريخي) وهذه الكرنفالية التي تعمل على هدم كل استراتيجية قديمة التي تتأسس على القول النهائي، خالقة براعة تنوعية في التأليف والتصوير هي بنية غير مغلقة ولا تنتمي لجيل دون آخر بل هي عقدة تتوالد وتتواجد مع كل عصر أو أرضية، وتبعا كذلك لسنة التطور والمجتمع وقانون الممارسة الإبداعية الإنسانية، من هنا نستشف أن التطور الروائي الغربي هو تطور يتساوق مع شروط الواقع الاجتماعي، فكل الثورات الأدبية والنقدية والإنسانية تتماشى مع الشرائط الاجتماعية، لأن كل جنس لا يولد من فراغ بقدر ما هو سجل تاريخي وفني يجعل الإنسان صانعا له وخادما له، لا أن يكون الفن تسلية بالمفهوم المثالي، بل خدمة للمجتمع بالمفهوم المادي.
إذن ما علاقة هذه التغيرات بالرواية العربية؟
فتقنية الكتابة الإبداعية عرفت تمييزا بين كل من الحساسية القديمة والحساسية الجديدة، فالأولى امتدت زمنيا من الأربعينات إلى الخمسينات وبداية الستينات، حيث فجرت هذه المرحلة مجموعة من الطاقات الإبداعية التي كرست أعمالها الفنية على صفحات بيضاء لتبقى محفورة على الورق وكذا في الذاكرة والتاريخ، ونذكر كل من يحيى حقي – طه حسين – محمود طاهر لاشين – نجيب محفوظ – يوسف ادريس، وقد ركزت حساسية هذه الفترة على مجموعة من القواعد السائدة الموصوفة في الواقع والتي اعتبرها الخرائط قواعد المحاكاة الأرسطية، حيث قام هذا الأخير موقف الرفض اتجاه هذه القواعد التي تعتبر بمثابة انعكاس للواقع الضيق، كما أن هذه الحساسية القديمة سارت على هدى النماذج الغربية دون محاولة تكسيرها وتدميرها قصد إعادة البناء والرد على الأسئلة المطروحة من الواقع العربي، فهذه الحساسية ركزت على ما يسمى بتيار الواقعية التي أحدثت ضجة على المستوى الأولوية لحساسية أخرى تعتبر بمثابة بديل للأولى، ألا وهي الحساسية الجديدة التي عرفت وشيدت من طرف “أدوار الخرائط” الذي بذل الجهد الجهيد من أجل ترسيخ هذا العمل الإبداعي الجديد وذلك بالإغداق من الكتب النقدية التي أعادت النظر في الإبداعات العربية وخاصة إبداعات الحساسية القديمة التي اعتبرها زائفة وناقصة، وعوضها بإبداعات حقة تدخل في إطار إبداعات الحساسية الجديدة، والسؤال المطروح كيف وظفت هذه الحساسية الجديدة؟ وما الهدف التي تسعى وراءه؟
فالكتابات الحساسية الجديدة تهدف إلى الطاقات الإبداعية الانقلابية التغييرية وتقف موقف الرفض والنقد للواقع الذي كانت تجله وتقدسه، بل تحاكيه الحساسية القديمة، فرفض الحساسية هو الإحالة إلى الواقع الذي تمحت منه يجعلها تستشرف لآفاق مستقبلية تحفيزية، حيث أصبحت حساسية الاختراق والاستكشاف والسؤال والمهاجمة، فهي تغيير وتطور على المستوى الإبداعي العربي من حقية الستينات وما بعدها، حيث اعتبر النص الإبداعي نصا مفتوحا على مجموعة من المرجعيات (الوعي الاجتماعي – التناص) والقراءات.
الحوار المناصي في الرواية:
تندرج إشكالية الحوار ضمن إشكاليات أعم وأشمل تهم نسق العلاقات بين الذات المبدعة والمجتمع وفي هذا الإطار يطمح الروائي بإنتاج وولادة صورة المجتمع من رحمه حيث يتخذ الحوار نوعا من التفكير في مصير الشخصيات المتفاعلة معها في معزل على الانتصار لفكرة أو موقف، إذ يساهم هذا الشكل في الحوار في تعود القارئ على تحمل مسؤوليته أثناء تلقيه وقراءته وتحليله وتمكينه أيضا من آليات الدفاع عن النص المفتوح للخروج من حالة الرضى بالوصاية حسب قول كانط، فالقارئ يولد الأسئلة من مالك المعرفة كما كان يفعل سارتر، وينقلنا من الطابع الوثوقي الأصم إلى عالم النقل والمعرفة، من هنا يتبين البعد العميق للفهم الروائي لمفهوم التراث، عندما أراد أن يعمل على مستوى آخر يبتعد عن المستوى المألوف.
المراجع:
1– في نظرية الرواية – د. عبد المالك الرتضي “سلسلة عالم المعرفة”، ع240 – س: 1998 – ص256.
2– جان بييرفاي: tel quel du Mars – 1965 – انظر ص127 / انظر المجلة: ع101 – س: 1965.
3– في نظرية الرواية “بحث في تقنيات السرد” – د. عبد المالك مرتضي – عالم المعرفة – 240 – 1997 – ص222.
4– د. عبد المالك مرتضي “في نظرية الرواية” ص240.