كيف نقرأ التراث؟

إنجاز: د الغزيوي أبو علي

إن الوعي بالتراث ظهر عند العرب قبل أن يظهر عندنا، من هنا كانت للقراءة زاويتان مختلفتان: زاوية خارجية وأخرى داخلية (ليس بالمعنى الذي ذهب إليه ميشال فوكو)، ونعني بهما القراءة الاستشراقية (خارجية) والقراءة العربية (الداخلية).

  1. القراءة الخارجية: لوعدنا إلى استقصاء ظهور أول قراءة خارجية سواء للإسلام كدين أو كحضارة، نجدها تعود إلى القرون الوسطى، أي منذ أن ترجم القرآن (أول ترجمة تعود إلى كيتون ketton انظر نورمان دانيال: الإسلام والغرب، 1960 ص6 يدنبورع) وقد كانت هذه القراءة تحوم حول اعتبار الإسلام عنصرا من عناصر الفكر الإنساني سواء عند لول (Lulle) أو كليني (Cluny) أو غيرهما.

هذه المكانة للإسلام داخل تاريخ الفكر الإنساني تعني أنه بإمكانه أن يمثل الحقيقة المطلقة في مرحلة من مراحل التاريخ فأوروبا لم تكن جاهلة لهذه الحقيقة.

غير أننا نضيف أن هذه القراءة لم تكن بعيدة عن تأثير الكنيسة، وظهر ذلك خاصة في الموقف من النبي محمد، إن القراءة القرنوسطية تفصل بين التصور العام للإسلام، وهذا ما نجده عند الجماهير المسيحية، وبين الرؤية الفلسفية للإسلام كعقيدة وقوانين وتصرفات وأحكام وعلم …الخ، وهذا ما نجده عند المفكرين. (انظر باسكال idée : 2ème partie paragraphe 420).

فالمسيحيون ومن ورائهم الكنيسة يحملون انطباعا وليس قراءة عدائيا عن المسلمين ونبيهم في حين أن بعض المفكرين كباسكال وحتى فولتير (صحيح أن لفولتير كتاب “محمد والتعصب” الذي كانت لغته عدائية، لكنه في كتابه “عن العادات” قد ميز بين الدين الإسلامي المتسامح والمسيحية المتعصبة).

استطاعوا أن يقدموا قراءة عن الإسلام باعتباره دينا تحول من الحسية والتعصب إلى مرتبة الدين الطبيعي، لكن دون الخروج عن اعتباره دينا غير سماوي.

من هنا نقول خلافا لهشام جعيط “إن اعتبار الكنيسة والعلم المدرسي يجعلان الإسلام مجاغيا للمنطق العلمي” وإن كان هذا القول يقره ويزكيه المنطق الإيماني.

كل قراءة توظف توظيفا إيديولوجيا، لهذا فهي لا تلتقط إلا ما يناسب رؤيتها ووعيها الجمعي (الجابري).

من هنا نعلم سبب امتداد هذه القراءة إلى حدود القرن الثاني عشر، فالقراءات القرنوسطية وحتى تلك التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت قراءات مقارنية تحاول عن طريق مقارنة الحضارات أن تكون خطابا نقديا للغرب الذي بدأ مساره يأخذ منعطفا مغايرا لما كان يتوقع له.

يمكننا القول إن القراءات الغربية لم تخل من تعاطف عام، نظرا للجو الإنساني الذي بدأ يظهر في أوروبا وظهور المفكرين الإنسانيين، مما جعلها تبحث عن الكشف عن نواة القيم المتجسدة في الإسلام من خلال تصرفات المسلمين (انظر شاتوبريان ولا مارتين وجيراردي نرفال في كتابه رحلة إلى الشرق 1851، كذلك فولني انظر الأعمال الكاملة باريس 1860)، لكن هذا لا يجعلنا نغفل تسجيل بعض الملاحظات عن هذه القراءة، وهذا يتعلق بالجانب الثاني أو الوجه الآخر لهذه القراءات الغربية.

أصبح التراث العربي الإسلامي داخل هذه القراءة الغربية بدون جذور وبلا تاريخ خاص، من هنا نفهم محاولات المفكرين الغربيين في القرن العشرين لتصحيح هذه القراءة أو بالأحرى لوضعها داخل التاريخ أو إعطائها تاريخا خاص.

سنكتفي بقراءة لمكسيم رودنسون les arabes : Maxime (Rodinson PVF 1970) معرضين عن تلك الدراسات التي اهتمت بأحد الجوانب أو ببعض “البقاع” في هذا التراث وليس بالتراث ككل مثل دراسة لسوردال (Dominique SOW : Islam medieval : PVF Paris 1979) وكلود لفي ستراوس (C.L.Strauss :tristes tropiques : 1955) وفانون (Eanon : les données de la terre : Masperou 1961)، لأنها لا تساعدنا على فهم منطقهم الكامل للتراث، لذا فهي تبقى قراءات جزئية، في حين يمكن اعتبار رودنسون (يمكن أن نحشر جاك بارك مع هؤلاء) ممثلا للقراءة الكاملة من خلال الإطار الأوروبي غير المرتبط بالعنصرية والأهداف الاستعمارية، لأنها لا تتوجه للعرب أو للشرقيين بقدر ما تتوجه إلى الغربيين، هكذا كانت قراءته عبارة عن أسئلة يتوجه بها لأبناء جلدته ويريد من خلالها استحضار الوعي لدى هؤلاء حتى يبتعدوا عن كل أشكال التعميم الفجة التي لا تقود إلا إلى كل أشكال الفاشية أو الهيمنة.

جاءت قراءته للقرآن والسنة (انظر كتابه: الإسلام والرأسمالية) محاولة مزدوجة، لم تخل من الرد على فيبر من ناحية لكنها لم تقف عند هذا الحد لأنها تريد لفت النظر إلى هذا الجسم العقائدي والحضاري الذي يمكن إحالته إلى نص من خلال فرضية “نماذج الحضارات”، وبالتالي نقول إن كتابة “العرب” قراءة داخل هذا الإطار وبإمكاننا ملاحظة ذلك من خلال الأسئلة الجريئة التي وضعها.

إن قراءة رودنسون ولو شاءت أن تكون قراءة شاملة هي شديدة الحذر خاصة عندما يتعلق الأمر بإعطاء إجابة، وهذا لا يتنافى والمنحى العلمي الذي لم ترد الخروج عنه، من هنا كانت قراءات القرن العشرين مغايرة تماما لتلك التي عرضناها في ما سبق لأنها تؤكد على أن للعرب منهجياتها البحث والرؤية والاستخلاص، لهذا اعتبرنا هذه القراءة عملية استخراجية لمختلف الأعمال الحضارية التي ظهرت عندنا، هذا ما أطلقنا عليه اسم “استحضار عناصر الوعي”.

إن الجوهر العملي للقراءات المعاصرة ليس في كونها تملأ فراغا فقط كما ذهب إلى ذلك هشام جعيط (أوروبا والإسلام، ترجمة: طلال عتريسي، دار الحقيقة 1980 ص74)، بل في كونها تفتح باتجاه الأعمال الحضارية المختلفة والمغايرة للرؤية الغربية من ناحية، وتريد الوصول إلى مواقف هامة حول العديد من المسائل التي تشغل المثقفين من ناحية ثانية، دون أن تنطلق من مواقف لتدعم المسائل التي تشغل بال المثقفين.

إن أهمية القراءة الخارجية تكمن في أنها علمتنا أو استنفرت وعينا لدرس تراثنا، وإن كانت في أغلبها منحازة (مثل المستشرق الصهيوني رافائيل باتاي)، فإن المعتدلة منها يمكن أن تكون نبراسا هاديا لأنها تمدنا بالمناهج

هكذا تكون القراءة الخارجية أو أداة لقراءتنا الشخصية أي قراءتنا الداخلية، فماذا عن هذه القراءة؟

  1. القراءة الداخلية:

إن كانت جذور القراءة الخارجية تعود إلى المرحلة القرنوسطية فإن القراءة الداخلية تعود إلى عصر النهضة، وما من شك في أن هناك فارقا بين هاتين القراءتين، لكن لا يجب إدراك هذا الفارق على أنه وليد طبيعة ونفسية كل من الغربيين والشرقيين، بل كتمييز اجتماعي وتاريخي بين مجتمع ناهض في أوج عطاءه، وآخر لم ينفض عنه حتى الآن ستائر النوم.

إن حضور الغرب في القراءة الداخلية لا يخرج عن إطار “رد الفعل” سواء عند التيارات السلفية أو العصرانية (أمثال سلامة موسى، طه حسين، الحكيم) لأنها تقمصت زي “الرغبة” الوجدانية لإحياء الماضي أو الازورار عنه.

فالقراءة الداخلية وإن مكنت من إيجاد ما اصطلح على تسميته ب”الرواد” إلا أنها لم تتجاوز عتبة الحنين إلى الماضي لمجابهة الغرب الزاحف، وكان هذا الحنين حنينا مسطحا لأنه يريد الإحياء وليس القراءة النقدية الهادفة إلى التغيير الشامل، فولد رد عنيفا مثله الوجه الثاني لهذه القراءة وهو الوجه العصراني الذي رفع مفاهيم مثل العقلانية والديمقراطية وتحرير المرأة…الخ، فهذه القراءة لم تحقق هدفها لأنها اعتبرت أوروبا محور  الحضارة وكل شيء لا يمكن أن يكون إلا أوروبا.

إن كلا الوجهين للقراءة النهضوية يسمحان لنا بأن ننعت هذه القراءة بأنها “طفولة” القراءة الداخلية للتراث أو أنها “وليد صغير” حسب تعبير الطبيب التيزيني (محاضرة ألقاها التيزيني في منتدى فكر وحوار بالرباط حول قضية التراث والعمل السياسي)، وذلك لأنها لم تحقق النهضة التي سميت باسمها بل أحدثت انفصام “ثقافة / مجتمع” حسب تعبير عبد الله العروي (انظر كتاب: أزمة المثقفين العرب – بيروت 1978، أو ماسبيرو، باريس 1974)، وأصبح هذا الانفصام أحد ثوابتنا، فالفرد في هذا المجتمع يجد نفسه غارقا أمام بضائع وتكنولوجيا متقدمة من ناحية وإيديولوجيا ضاربة في أعماق التاريخ تعادي كل تجديد، والمسؤول عن هذا الانفصام هو كل من الوجه السلفي والعصراني للقراءة النهضوية وما بعدها.

إن هذه العملية التي سماها الطيب التيزيني “عزلا” تريد رسم خطوط المرحلة الرابعة التي تمثل نضج هذه القراءة الرابعة، التي يصفها التيزيني بأنها تريد أن تكون جديدا نوعيا بمعنى أنها تمثل الموقف الذي يعمل على تجاوز الماضي عبر استنفاذه واستخلاص النتائج الأساسية منه، ويمثل هذا الموقف الفكر الجدلي التراثي (التيزيني – محاضرة للتراث والنهضة العربية الحديثة – الرباط، 1983: 1 – المستقبلية الطفولية، 2 – السلفية اليسارية، 3 – البرغماتية ص29)، وتكمن ميزة هذه القراءة الجدلية في محاولتها تجاوز التراث كحدث أو جملة أحداث تاريخية واجتماعية، لتجعل منه مقولة شمولية يتشابك فيها التاريخي والمعاصر من أجل مرحلة من مراحل تطور المجتمع دون ادعاء أن هذا التراث يغنينا عن المستقبل بدون تراث، من هنا كانت القراءة الجدلية محاولة لاستلهام التراث، لكن ليس بطريقة غير مشروطة.

نستطيع أن نسجل الفارق بين القراءة الجدلية والتلفيقية والسلفية والعصرانية، فإذا كانت الأولى تؤكد على أن التراث ليس تراثا وحسب، كما يقول حسين مروة، أي ليس ماضيا، بل هو “كائن حي متحول بصيرورة الحياة الواقعية” (حسين مروة – دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي – دار الفارابي طبعة 2 ص348 – 1976) فإن القراءات الثلاث الأخرى رغم اختلافها لا ترى في التراث سوى “معطى” لا علاقة له بقوانين الحاضر، بل هو بلا قوانين أي بلا تاريخ.

خاتمة: 

يتوجب على القراءة التراثية كما نتصورها أن تعلن بداية مرحلة جديدة لا تلغي ما قبلها ولا تقف عنده، فهي لا تسلم بشيء منته ومكتمل ومقدس في التراث لأن ذلك يفتح المجال للحوار والجدل الفلسفي الذي يقبل الخلاف العقلي في جو معرفي عندئذ لا تعود قراءة التراث إسقاطا بل احتجاجا على واقع يعطينا في كل لحظة فرصة الاحتجاج ضده.

يمكننا القول أن تكوين قراءة التراث يجب أن يمر بمرحلتين مرحلة نقد القراءات السابقة، لأن قراءة التراث تستوجب أسبقية نقد قراءاته ثم مرحلة التخطيط لقراءاته قراءة مخالفة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *