بقلم: د. بن المداني ليلة – د. الغزيوي أبو علي
إن قراءة أولية لمشروع الاحتفالية، تكشف لنا بوضوح على أن الصعوبات التي تقف في وجههم ، و تعترضهم أطروحات لا تتعلق بالكتابة و لا بالنقد، بل تتعلق بالمرجعيات التي تقربنا إلى عملية التحصيل و الاستيعاب لا يعدم القول إذا أكدنا أن الخطاب البرشيدي في تمثلاته يتسم بالوعي المعرفي و الاجتماعي و بالصراع حول كينونة الكتابة الإبداعية و النقدية و التنظيرية، فالغزو هو تمثل و صيرورة نفسية معرفية تشتغل ضمنها مجموعة من آليات المقاومة، بحيث تتحول الأحكام و المعارف الجاهزة إلى ميكانيزم للدفاع عن الذات، و إبراز العوائق النقدية الشكلية التي تؤول في النهاية إلى عائق مركزي، لأن الخوف من عبد الكريم برشيد هو الرغبة في معرفة العالم الجديد، و الاطلاع عليه للانخراط في في الروح الاحتفالي.
إن التفكير الاحتفالي يرتبطفي ذهنه بخلخلة المعتقد النصي الكلاسيكي و الميلودرامي الرومانسي، لأن الصعوبة يجب أخذها بالحسبان و الانتباه إلى أشكال الحضور البرشيدي و تجلياته في الوطن العربي والكوني، و ما يتطلبه هذا العائق كما قلت هو تحويل و تغيير أفق انتظار المخرج و الممثل و المتلقي، لكونها ممارسة نقدية و تنويرية، إنها ممارسة تحرض المبدع برشيد و تدفعه حسب تعبير هيدجر، إنه كائن ومبدع و مسؤول عن قناعته، و حريته، قادر على المغايرة و ابداع الأسئلة من القلق الأنطولوجي، لأنه غاية و ليس وسيلة، يفكر في انسجام مع ذاته المغايرة أي يبدع بطريقة منطقية و متماسكة.
إذا كانت الاحتفالية تقدم ذاتها على أنها ممارسة للتفكير، فتفكير برشيد هو نقدي و تنويري و تقدمي ومنطقي إذن كيف نخشى الاحتفالية؟ أم نخشى عبد الكريم برشيد؟ أم نخشى الاختلاف و ليس الخلاف؟
كيف لنا أن نعمل على قهر ذلك العائق و نغير صورة الإبداع؟ و كيف نجعل المتفرج ينخرط في مجال الاحتفال و الاحتفالية؟ أسئلة كثيرة هي التي دفعتني و حفزتني لإنجاز هذا العمل، عمل أضعه بين يدي القراء من أجل تقريب صورة المبدع و الناقد عبد الكريم برشيد، و من ذهن القارئ العربي و أذكى الإحساس الفلسفي و الأدبي و المعرفي بالرغبة و بالإرادة حسب تعبير شوبنهاور، لكن في اللحظة ذاتها هي العمل على إحداث قطيعة بين رهانات التفكير الإبداعي و رهانات النقد الثقافي و التداولي السائد.
لإن التفكير في إبداعات عبد الكريم برشيد هو التفكير في اللغة الدرامية و في الذات الواعية، و أيضا مجال الوجود المعرفي، باعتباره منتجا للدلالة و المعنى، و للذات و الآخر، فالتفكير هو إثارة إشكالات تهم الحقل الدرامي، كما تهم الحقل النقدي.
فالعلاقة بين الأشياء و الذات ليست طبيعية، و لامحاكاتية، بل التفكير البرشيدي أقول دليل للبرهنة على أن الاحتفالية لا تتكلم نفسها، بل تتكلم الجماعة و الكون، و الحياة، إنها كائن فينا يفكر فينا و بنا، و أن لغتها هي لغة ايحائية تؤنس الطبيعة و الأسطورة، و الرمز، من هنا ينتج الفكر الاحتفالي لغته، القابل للتعبير لكي يشكل قوام الإبداع و قوامه، إنه جوهر روحي، خاصيته الأولى هو التفكير المغاير كما يقول جيل دولوز.
إن الفكر الحداثي البرشيدي هو وجه لعملة واحدة، لأن وجود الفكر يتوقف عن وجود الآخر، فلا وجود لفكر دون اختلاف، فهو نشاط و فعالية التي تمارس وجودها في المدن العالمية، و سلطتها الجوهرية على مجالات متعددة أنطولوجية و سيكولوجية، و إبستمولوجية، فالاحتفالية هي فطرية و مكتسبة تكمن وظيفتها في تحرير الجسد و الروح من كل طغيان يذكر.
إنها بنية متغيرة و متطورة مثل الطفل، و هي منظومة من المبادئ و ليست مستودعا للأفكار و الشعور كما يذكر جون لوك، بل هي مرآة تعكس بشكل إيجابي معطيات التجريب و التنظير، فهي أيضا نشاط و فاعلية، و بنية تاريخية درامية، منفتحة على كل الأزمنة و الأمكنة و العصور.
ينتمي الفكر البرشيدي إلى مجال المعرفة الدرامية التي تتخذ الحقيقة غاية لذاتها و بذاتها، غير أن هذا المفهوم مرتبط أساسا بالمجال الفلسفي و الاجتماعي و النفسي، يتناول الحقيقة التاريخية “عطيل و الخيال والبارود، و يتناول الأسطورة سالف لونجة” و التاريخ، ابن الرومي في مدن الصفيح، و امرؤ قيس في باريز فهذه المسرحيات تتناول علاقة الحقيقة بالواقع، لأنها تتيح للفكر و اللغة أن تخالف النقاد المحافظين الذين يعتمدون “الذوق، و التطابق و الزبونية، و الزمالة، و المحسوبية و غيرها من الظواهر كما رلأيناها في المسرح العربي بالدار البيضاء، لأن الوهم و العذب أضداد الحقيقة ، رغم أن الخطأ رفيق الحقيقة، ما دامت الحقيقة تخرج من رحم الأخطاء، إذن فالحقيقة تختلف طرق بلوغها باختلاف شرائح المتفرجين و مستويات إدراكهم.
فبرشيد يؤسس، إذن الاحتفالية المرتبطة بالعقل الاجتماعي، وبالتعاقد الذي هو مطلب كوني و إنساني، فالاحتفال هو أرض الواقع الاجتماعي، و الشرعية العادلة التي تضع الإنسان بواسطة طريق الاتفاق و في الفترة التاريخية المعينة: فالاحتفال هو الصيغة الوضعية للمسرح كما يحدده المؤلف أو المخرج أو الممثل، و الحق الممكن المعبر عنه من طرف المجتمع و القوانين الدراماتورجية، فيسعى حقا موضوعيا، فالشعور الوجداني لا يعرف الأشياء، بل هو الطريق الأول في التفكير طريق أنطولوجي، وإثباتلوجود الأشياء الغير الوهمية فالحقيقة هي مطابقة الشيء لصورة نوعه أو لمثاله الذي أريد له.
فالاحتفالية هي الإدراك و الحكم، و تمثل حسي غير كاذب، ناشئ عن كيفية تأويل الإدراك الميتانصي، وانتقال في المستوى الدلالي إلى المستوى التناصي، لأن الحداثة الدرامية عند برشيد هي عبارة عن وعي بالذات التي تمارس وجودها، دون وهم ايديولوجي كما يقول ماركس، فمحاولة برشيد هي ضرب من قيام تفكير منطقيلعدم تطابق الأشياء و الكلمات، و وجود مسافة بين الحقيقة و الوهم، لأن القراءة النقديةالبرشيدية هي كشف عن الوهم حسب تعبير ماركس و نيتشه، لأن الساكن وراء ديار البناءات الماورائية التي تختلف بوجود ماهيات غير ثابتة، فالإنسان –برشيد- العاقل، و الواعي، و المبدع ليس أداة غريزية، و ليس أضداد حسب نيتشه، لأن الاحتفالية ليست من صنع برشيد، فهي ملك للناس الذين يلعبون فوق ظهر الأشياء، ويهبطون إلى الأعماق، من هنا ينتهي برشيد إلى وضع السؤال من جديد، لماذا نخشى الاحتفالية؟ هل نخشى فكره أم برشيد نفسه؟
إن هذه الأسئلة ليست خدعة و لا إخفاء الحقيقة، و ليست مؤشر الخداع الوجود الدرامي، رغم أن الوجود يكون دوما مجرد خداع مجازي يتم عبره خلق القيم و توليدها كما تقول الجنيالوجيا، فالاحتفالية هي قوة وفعالية ممارساتية و يرى نيتشه إن ما يهمنا هو معرفة الكيفية التي تنتمي بها الأشياء، لا معرفة ماهيتها، فبرشيد كما يرى نيتشه هو سيد نفسه، و سيد الجميع، لأن بياناته الجديدة هي التبشير بنظرية فوكو، ودولوز، و مدرسة فرانكفورت باريس، و بلجيكا، لأنها عبارة عن معايير يتم بفضلها إنتاج أسئلة جوانية في مجتمعات متنوعة، و من ثم تصير هذه البيانات بداية جديدة لتأسيس نظرية جديدة للحقيقة تخرجنا من المنطق الوصي الذي سببه كثيرا من النقاد المحافظين، قراءة تريد أن تزيل عمق الأشجار، و ذلك من أجل إضفاء صورة الإنسان على الأشياء التي هي الحياة.
من هنا فإن عبد الكريم برشيد يرى أن الحياة الاجتماعية لا يمكن فصلها على الحياة المأساوية أو الملهاوية، لأن الحياة هي الأصل الذي يتحكم في كل فعل أو فكر انساني حسب نيتشه فالحياة معناها ضمنيا أن هناك أشياء مسكوت عنها خصوصا مع الانفتاح الاجتماعي، فمع هذه الأمكنة الممكنة و المتعددة يطرح مشكل الصراحة، هل يجب قول كل شيء في المسرح؟ و لماذا الوزارة الوصية تقصي المختلف؟ فالسؤال إذن هو تجاوز الحقيقة لذاتها، من أجل تأثير في الحياة، لأن الحقيقة ليست أزلية، بل هي وسيلة لإعادة الاعتبار للمختلف، و المؤجل حسب تعبير بول ريكور، فالقيمة الاحتفالية هي خلخلة للمفاهيم التي شيدت الثقافة المسرحية العربية، و هي الوعي و الشعور، و الذاكرة و الإرادة، والقوة و هي التي زحزحت بدورها هذا الفكر المغلق إلى أبعد ما تقوله الميتافيزيقيا.
عندما يتقاطع برشيد مع المسرحيين المحليين و المؤدلجين، حيث يأخذ التفكير البرشيدي حقيقته من اللاحقيقة، و بهذا المعنى فإن الاحتفالية هي ماهية الحقيقة، تمر عبر ماهية الاختلاف و ليس الائتلاف، لأنها تخفي مجازها المضاد و تقربنا من منطق الهوية، و الشخصية المتعالية و المتولدة من هذا الأجناس البشرية، و المدنية، و الحضارية، و التاريخية، و الاجتماعية… لأن الفكر الجينيالوجي يقول بنعم للاختلاف و لا يقولها للتطابق و للتماثل، إذن فالبيانات البيضاوية (الدارالبيضاء) هي مطرقة الحقيقة أمام أصنام النصوص الوهمية و المفبركة، و تاريخ جديد لا ينهار أمام الإيديولوجيات و التقابل بين الصباح و المساء، و لا بين الواقع و الخيال، و الوهم و الحقيقة، فعالم البيانات هو الاختلاف بحيث أنه لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين (هيرقليدس)، إنه منطق التحول و التبدل، و نقد للحقائق الكائنة، و البرجماتية الذاتية.
رفض برشيد التصور الأرسطي – الأوروبي الذي يدعي بمركزية الدراما، عارضا براعته الاختلافية التي تغاير الشكل النسقي الكلي الذي تتخذه المواقف السابقة، و هذه الثورة الكوبيرنيكية لو تجعل الشيء الممسرح ثابت، بل متحرك و متحول يخضع للتطورات و للتغيرات، الشيء الذي يعطي للقطيعة الإبستمولوجية أبعادها الحقيقية و العميقة، و قد أكد برشيد أن الاحتفالية هي الملاحظة البصرية، و التجربة الإنسانية، و الحيوانية، و الطبيعية، تستنطق فينا العقل الباطني و يقول جاليلي<<إن الطبيعة لا تفصح بحقيقتها لنا من الوهلة الأولى، بل نحن نجبرها على ذلك>> (الفكر الإسلامي و الفلسفة) 1989 ص155 (وزارة التربية الوطنية – مطبعة إديال–الدارالبيضاء) فالمبدع برشيد أنطق بلغة أهل الأنوار أو المسرح التنويري، فهي الطريق إلى ممارسة الحرية الإبداعية، لأن التنوير هو حق الاختلاف، و ليس الانغلاق، فالاحتفالية ليست مركزا كما قلت في العديد من الندوات الوطنية، بل هي ثمرة إبداع و خلق و دربة و ممارسة ركجية، و ليست للترفيه و لا التسلية بل للتثقيف و اختزال تعقيدات المفاهيم الانسانية حسب تعبير ادوارد سعيد: التنوير في إشكالاته و دلالاته – موريس أبو ناضر – ص – 346.
فالكلام عن برشيد على هذا النحو يفرض التخلص من كل تصور سابق، و جعل الإبداع أمرا غير ثابت، بل هو عبارة عن تجارب فريدة تاريخيا، يستلزم امتلاك أدوات قادرة على أن تحلل المحاور التالية، لماذا نخشى أو كيف نواجه؟ و كيف نحلل و نؤول، و كيف نتخلص من سلطة الاحتفالي؟ و هل الاحتفالية خرجت من معطف برشيد؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى قراءات و تحليلات الممارساتية الدرامية التي تسمح لنا بتتبع تكوين المعارف لدى برشيد، و كيفية التخلص من هذا المأزق الايديولوجي المهيمن على الساحة الثقافية كل هذا يتيح التبصر فيها كاستراتيجيات مفتوحة و قابلة أن تستوعب كل الاختلافات المنهجية و الديداكتيكية. فبرشيد عبد الكريم في بياناته البيضاوية يطرح أسئلة لتكون عبارة عن أنماط من العلاقة مع المدينة و الجسد، و الروح، و الفكر، و الحرية، و مع تقلبات حقيقة العلوم الانسانية و الدرامية، للنوع – البشري – و الحيواني – العرب و الفكر العالمي ع2 – 1988 ص70.
إن المسرح الاحتفالي لا يؤخذ من الكتابات النظرية فقط، بل أيضا من خلال استقراء النماذج الرصينة والمتقدمة في المسرح العربي. (الاحتفالية و أبجدية النقد المسرحي ص53، فدعوة برشيد في هذا الفضاء الدرامي هو تأسيس نقد جماهيري كما عند لينين، و هيجل، و ماركس و ماو)، فالجمهور هو السيد، والقاضي، و المتحرر، فهو المفسر للإبداع و الشريك في إعادة القراءة في مسرح البورجوازي، و في المسرح الملحمي، و هذه الرؤية الثقافية الجماهرية نجدها عند أوكستوبول، و أنتونان أرتو، و صمويل بكيث، لأنهم يمدون الجماهير بالطاقة التحليلية و النقدية و التأويلية، لأنه هو الناقد الأكبر فلا أحد يمكن أن يشاهد عملا دراميا، ثم ينتظر حتى يقرأ النقد ليحكم عليه، إن المسرح بالأساس لقاء بعد موعد، و أن المجيء ليلا إلى هذا الموعد هو حكم ضمني على العمل المسرح. (نفس المرجع)، و هذه الصيحة الابستيمية تقربنا إلى أدونيس، و خليل حاوي، و البياتي و السياب، فهم جعلوا الحياة في المقابل الموت، و الموت معيرا للبعث، أو الفداء أو الانتصار للحياة و الحرية ضد الموت، لا الموت بعث جديد، و قيام فلسفة درامية تنويرية جديدة هنا يطرح السؤال ما نوع الجماهير التي يريدها عبد الكريم برشيد؟ هل هناك ثقافة جماهرية أم جماهير ثقافية؟ أسئلة تقربنا من الواقع المادي المتغير و ليس عالم المثل (الأفلاطوني، فالواقع هو المعقول و المحسوس و ليس المجرد، يمكن معرفته و إدراكه بالتأمل الطاقي العقلاني و الموضوعي دون السقوط في مستوى السوقية (من قضايا المسرح المغربي) 1973 ص5. فالرؤيا البرشيدية ليست صورة لامادية إنها مطابقة للفكر الجدلي و معياره هو الاقتران بالجمالي، و الفني، و الدلالي، فالواقع كما يرى كانط صار مجموعة من الظواهر يتعين إعادة بناءها، كما أمسى الإبداع المغاير قدرة ممارساتية على تشكيل معارف درامية بواسطة أدوات إجراجية لبناء نخبة صناعية درامية (صناعة النخبة بالمغرب) عبد الرحيم العطري ص54.
إن المطلوب الأول في فلسفة الاحتفالية الإحاطة بالأسس البعيدة التي تستند إليها الهندسة الدرامية، فبرشيد لم يكن مخرجا، و لو يعانق الجماهير، بل يركن إلى أسطوانة من أسطوانة البيت كأنه واصل بن عطاء، و هذا ما جعلني أن أطرح السؤال التالي، هل المسرح ولد بوالدة الفرد أم الجماعة؟ و يرى الدكتور ابراهيم الهنائي أن الاحتفالية شأنها شأن التيارات التي ولدت مع المسمى الاحتفالية، كمسرح الشوك، و مسرح الفقير، و مسرح الشهادة، و مسرح الفردي، و مع خريجي المعاهد، فالمسرح هو جماهيري يخاطب العامل و الطالب في شخصية الأنا الممثل، لذا فبرشيد لا ينبغي أن يقف بعيدا عن التنظير، و أن يقترب من الإخراج، لأن مسرحياته لم تعد تمسرح كما في السبعينيات، و الثمانينيات، أما اليوم فقد أصبحت مبنى حكائيا أو خطابا سردمولوجيا سواء على المتن الحكائي أو المبني الحكائي الدرامي، فبرشيد لم يواجه الجمهور كأرطو، و الطيب الصديقي بل حاول أن يستنطق البياض و السواد كمؤلف و ليس كمخرج، كما يقول المسرحي ابراهيم الهنائي، فالمسرح هي أماكن تشتغل و تتخذ حركات متباينة، و بهذا فقد تفهمت الاحتفالية مطلب عبد الكريم برشيد بضرورة إمكان تفسير العالم و تغييره عن طريق مبدأ الإخراج و ليس التنظير و لا البيانات، إن الغرض من هذا المقال هو أن نوضح كيف أن العالم الاحتفالي ليس ملكا لبرشيد و لا يرتكز على مبدأ واحد موحد، بل يتأسس على التعدد الجسيمات الأولية كتنظيمات متنوعة، تتعدد بتعدد الصانع، و المصنوع كما عند المرحوم الطيب الصديقي في مسرحياته الخراز– الإبداع و المؤانسة، موموبوخرسة و غيرها من المسرحيات، فهو الممثل و المخرج، و ليس الكاتب المنعزل عن الجمهور، إذن لابد أن ينزل من برجه لكي يعانق الفلاح و العامل و الطالب، و التلميذ كأنه مطلب كلياني و ليس براني، لأن سلوك الفرد في التنظيم الاجتماعي يخضع لتأثيرات وظائف القواعد و القيم الاجتماعيةوالسائدة في ذلك التنظيم الاجتماعي و الواقع الاجتماعي يكون هو البناء كما يقول بارسونز (معن خليل عمر- نقد الفكر الاجتماعي المعاصر – 1978 ص143). و مهما يكن من أمر فعبد الكريم برشيد قام و لا يزال يقوم بمحاولات و مدارات فكرية درامية خدمت المسرح المغربي و العربي، و لكن لم يمارس طقسه الإخراجي ليعانق المهمش كما عند الفكر الوظيفي أو عند أصحاب الفكر الصراعي، أو عند أهل الفكر الاجتماعي الرمزي أو الوجودي و لم يلامس النظم الاجتماعية الأمازيغية المترابطة و المساندة للفرجة الدرامية، و يبقى عبد الكريم برشيد رائد من رواد الحركة المسرحية بجانب الطيب الصديقي، و عبد الرحمان بن زيدان، و محمد الكغاط، و مصطفى الرمضاني، و تيمود و بلهيسي، و كريم الفحل، و ابراهيم الهنائي و حسن العلوي المراني، و غيرهم من المسرحيين، فبرشيد في بياناته الأخيرة تعد نقلة نوعية في التعامل مع أسئلة الإنسان، و الهوية، و الحرية و الوجود و الوعي و الإرادة و الشعور، و الذات، و الجسد و الروح، والحياة، و الموت، و اللغة، ففهم الإنسان هو فهم أصله، يعني فهم أصل هذه الأنا التي يكشف عن الكلام و الفهم للذات المميزة عن الموضوع، فبياناته هي سريالية تكشف عن الأنا المخالف اختلافا جوهريا للأنا المتعالي، فالأناالبرشيدية هي رغبة رسالية تلغي السائد الذي يسعىالرغبة و اللذة، و المتعة، و العشق و المنطق والشيء سيقول إذن أنا مبدع و كاتب أنا أحيا فحسب، و ليس المخرج الجماهيري الذي ينكشف للآخرين كوعي بالذات الجماعية.