بقلم الاستاذ : حميد طولست
في خضم السخط العارم لجمهور التنويريين على ما حواه كتاب البخاري من أحاديث تجسد الشخصيات الدينية في مغامرات جنسية وتصورات غير اللائقة – وعلى رأسها رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم – بدل التعامل معهم بطرق لائقة تركز بشكل أساسي على القيم الأخلاقية والتوجيهات الروحية للإسلام، خرج علينا من فاس أحد “الذكاثرة”-بالذال المعجمة والثاء المثلثة – تخصص دراسات إسلامية ، ليعلن بوثوق نرجسي مبالغ فيه ، في حوار له مع إحدى قنوات التواصل الاجتماعي بأن :غياب صحيح البخاري هو انهيار للإسلام ، وأن القرآن بدون كتاب البخاري ضياع للإسلام” ،التصريح الذي صدمني كثيرا ، كمسلم يغار على دينه من التلفيق والإساءة ، ويحق له أن يصدم من أجله ويفجع، ليس بسبب فظاعة القول، الذي لا يمكن أن يصدر إلا عمن لا يدرك أن القرآن الكريم هو النص الأساسي والمصدر الأول للتشريع والعقيدة في الإسلام ، وأن الأحاديث النبوية -سواء التي جمعها الإمام البخاري أو غيره – فلها – في حال صحتها وسلامتها- دور مهم في تفسير وتوضيح النصوص القرآنية فقط ، دون أن ترقى إلى درجة أن تكون بديلاً أو مكملا له ،وغيره من الخزعبلات التي عكس أن فهم قائلها متطرف وغير دقيق ، والمقدور على مناقشته وتفنيده ؛ ولكن الصدمة كانت كبيرة والفاجعة أكبر ، بسبب صدور القولة الخطيرة من حضرة “ذكثور كنت أحسبه –وغيري كثير- من التنويريين المنهمكين في ملاحقة المعطيات المتطرفة في علوم الدين والإنسان والمجتمع، بمنهجية جديدة ورؤية علمية مبتكرة لمختلف قضايا التراث الإسلامي وعلاقته بقضايا الحياة الثقافية الحداثية المعاصرة ، لكنه ،مع الأسف الشديد، طلع من أصحاب الشرك الجماعي المؤمنين بنظرية “إنا وجدنا آباءنا على أمة وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مهْتَدُونَ “، السلوك المبني على التقليد الأعمى ، دون تفكير أو تحقق ، والذي يعد تطرفا غير مستند إلى منهجية علمية صحيحة ، في التفريق بين القرآن كمصدر سام وأساسي للدين الإسلامي ، وبين التطبيقات التي جاءت بعده لتفسير وتوضيح مقاصده ، بما فيها الأحاديث التي جمعها الإمام البخاري ، والتي لا أحد ينكر أنها توفر ،كما العديد غيرها من كتب الحديث، سياقًات عملية مساعدة لفهم النصوص القرآنية ..
صحيح أنه مع غياب الأحاديث النبوية ،ومنها ما جمعه منها البخاري، قد تكون هناك صعوبة في تحديد كيفية تطبيق بعض الأحكام الشرعية بالدقة المطلوبة، لكن لن يصل الأمر إلى انهيار الإسلام ، الدين الذي يعتمد كليا على القرآن الكريم في الحفاظ على مبادئ الإسلام الأساسية.
وكما يعلم الجميع وربما حتى السيد “الذكثور” أن أي تشدد أو مغالاة في التعامل مع أي دعوة للتصحيح أو التدقيق في أي مجال من مجالات علم الحديث وكتبه، على اعتبار أنه مؤامرة وعمل مدفوع بأجندات خارجية معادية ، قد يكون ردة فعل خرقاء ، وغير مستندة إلى منهجية علمية صحيحة ، ولا تفرق بين النقد البنّاء للأبحاث والمصادر ، وبين الادعاءات المغرضة ، التي تمثل مواقف متطرفة ومستخفة بأهمية النقاشات المبنية على المعرفة والتفاهم ، والرامية إلى تحسين فهم الدين.
وذلك لأن النقد ، في كل المجالات العلمية -بما فيها الدراسات الإسلامية تخصص معالي “الذكثور”- لا تهدف في جميع العمليات الأكاديمية ، إلا إلى تحسين الفهم وتدقيق المعلومات ، وليس بالضرورة للهجوم على البخاري وكتابه ، كما يقر فضيلة “الذكثور” ، بأن كل مبادرة لتصحيح محتويات كتاب البخاري ، هي مؤامرة خارجية ضد الإسلام و ضد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، الحكم الخاطئ جملة وتفصيلة ، لأن “صحيح البخاري”وكأي كتاب آخر ، يبقى رغم كونه أحد كتب الحديث المشهورة ، وأكثرها مرجعية للحديث ، تجربة إبداعية غير معصومة ، لتغذيها على الخيال الذي يحولها إلى عمل بشري ، لا تسلم من الخطأ والسطحية والتفاهة والابتذال ، التي تحتاج في جميع أحوالها وصفاتها إلى التمحيص والتدقيق والتوثيق ، أي المراجعات النقدية المرتكزة على الأدلة والبراهين، المشفوعة طبعا باحترام نصوص الكتب والأبحاث الإسلامية ومؤلفيها ، وذلك لتخليصها مما علق بها من خرافات تجسيد الشخصيات الدينية في شكل مغامرات جنسية وتصورات غير اللائقة مؤذية للمسلمين قبل الشخصيات الدينية نفسها ، والأمر الذي استدعى – في الماضي القريب – المراجعات النقدية التي خضعت لها الكثير من كتب الفقه والحديث التي قام بها العديد من علماء الفقه الأجلاء ، اعتمادا على المنهجية العلمية الدقيقة المستندة إلى معايير التحقق والتوثيق والتقييم العلمية الشفافة المعترف بها ، والتي لم تعتبر ساعتها مؤامرة خارجية ضد الإسلام ، ولا ضد سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم ينعتها أحد بالعمل المدفوع بأجندات معادية ، ولم يقل أنها تروم التقليل من قيمة الكتب والأبحاث الإسلامية ومؤلفيها ، ولم يُظن قط أنه يقصد بها الإساءة للبخاري وكتابه .
خلاصة القول ، أنه يُفترض ألا يُنظر إلى أي نقد للكتب الإسلامية ومن بينها كتاب البخاري ، على أن الهدف منه هو الإساءة لمحتوياتها ولمؤلفيها وللإسلام ، لأن النقد في حقيقته –التي عمي عنها السيد “الذكثور”- هو أنه جزء من الجهد العلمي المبذول لفهم الدين بشكل أعمق، وأن المراجعة والتحديث المؤنسن للتراث الديني والمعقلن لنصوصه والمنقي لها من الشوائب المشوشة على الفهم والتطبيق السليمين لتعاليم الإسلام ، هي من الضروريات المبرزة لقيمة الكتب والأعمال المراجعة والمنقحة ، لذلك يفترض ، بل ويجب أن يكون التعامل معها مبنيًا من جهة على المعرفة والفهم العميقين لما جاءت به النصوص القرآنية البينة، ومن جهة أخرى ، أن يحترم التحاور حولها تنوع وجهات النظر ، وتباينات بعض الآراء حول بعض القضايا التي لا تمس بأساسيات الدين ولا تتسبب في الانحراف عنه.