مسرحية الليلة بين أنطلوجية الذات وصراع التأويلات

يعد المسرح من الفنون الدرامية التي أسهبت الباحث والناقد حول مجموعة من أسئلته وفضاءاته ،كتأصيله في الثقافة الكونية ،لأنه يندرج في إطار الحركة التنويرية العامة التي يمكن أن تكون هي ملاذنا،وأن تكون أفق التغيير الأعمق و الأشمل،لذا يمكن ان ينال حياتنا كلها،لان فعالية المسرح الآن ليست في انجاز عرض ميلودرامي أو احتفالي ،وإنما تنحصر وظيفته في التعبير لأحداث تغيير في حركة التأريخ والأسطورة،والرمز واللغة والتبصير الأدبي والجمالي والفني كبنية متماسكة في عالم متخيل،فيه من الرشد والعقل بقدر ما فيه من العجيب والغريب والجنون ،إنها العلاقات التي تشتغل لإنتاج عوالمها بحضور هذا المتلقي الذي يندمج وينفصل ويقبل ويرفض [1].

وانطلاقا من رؤية المخرج بورحيم أن المسرح يعد انعكاسا لحقيقة الحياة وتغيرات الظروف المادية للحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية،حيث يقدم هذا المقال ملخصا دقيقا لمسرحية ” الليلة ” في اتساعها وشمولها ،وتنوع حركاتها ولغاتها ،مع عقد موازنات بين الحركة والفعل الدرامي لتسيير من بداية واضحة الى نهاية مختومة ،وهذه الأفكار يجب أن تكون صادرة عن صميم الحياة والواقع .[2]

فهذه المسرحية هي استنطاق للذاكرة المركبة والممتدة باعتبارها فيضا للتقلبات الجسدية بكل طروحاتها البلورية ،حيث تعج بقضايا إنسانية مرتبطة بالمكان والزمان حسب تعبير غاستون باشلار،فالإنسان في هذا العمل الدرامي يعيش صراعا داخليا، لأنه بات يحيط به من كل جانب هذا الوحش المعولم وهذه الهيمنة في التصورات والأفعال البشرية التي تفقأ العين ،ومع ظهور كل هذه المؤشرات القوية  اندفع الممثل المتعدد نحو المواجهة من خلال أشكال وتعبيرات صاخبة وهادئة ( الأنا هو الآخر ).[3]

فمسرحية  الليلة هي اختيار طقوسي يتجاوز المألوف ليركب المختص والمتميز ،والليلة هي فضيلة معرفية لكل إنسان حكيم ومتعالي ،لأن الأصل هو ذاته وهو كذلك تجلياته أو تجسداته كأشكال وطرق من التفكير والتعبير ،فليس الأصل بكلمة ثانية روحا وجوهرا وحسب ،وإنما أيضا تاريخ الأشكال التاريخية التي يتجسد فيها الأصل فهي ما تسميه بالثقافة أو الحضارة [4].

إن الأصالة هي مجموعة من المقومات التي تجسدت في الطقوس ،وأصبحت فيها يعد عبارة عن قواعد وأصول فسار على نهجها الدراميون ،لكن في النصف الثاني من القرن 19 م شهد حركة إحياء التراث العربي بعد حالة الركود والجمود،حيث كانت تهدف أساسا الى اعتباره النموذج الأول في التعبير والخلق والإبداع، من هنا ظهرت رؤية بورحيم للمسرح العربي التي سايرت النهج الدرامي وذلك بإحياء الصورة التي سلكها تحول المسرح، ويقول محمد الكتاني في هذا الصدد “إن الوعي القومي والوعي الديني كان سببا مباشرا في تحرير الشاعرية من جمودها واسفافها واطلاقها في أجواء النفس والمجتمع ،ولأن حركة إحياء القديم أمدت الشعراء بالصورة المثلى للتعبير البياني عن المقاصد والأغراض  .[5]

فالمسرحية تمثل هذا التراث وموضوعاته ،حيث سكبت في قوالب فنية تناسب العصر ،لأن المسرح إحساس وشعور لا يتقيد بزمان أو مكان،حيث يعبر عن خلجات النفس ،ويترجم عواطف الأمة العربية في مختلف عصورها ويضع أمام مطالعه رسما أمينا صادقا  للعهود التي عاش فيها .[6]

فالمسرحي بورحيم لا ينطلق في كتاباته من فراغ ،بل يكتب وهو وراءه الماضي،وأمامه المستقبل ،فهو يوجد ضمن تراثه ومرتبط به،ولكن هذا لا يعني أنه ينظر الى التراث على أساس أنه مجال للتقليد،بل إنه طاقة معرفية وحيوية وذكرى في القلب والروح.”[7] فأصالة المخرج المسرحي تتجلى في امتصاصه للتراث وتغذية إبداعه بمنجزات العصر وضروراته الموضوعية و استيعابا عقليا نقديا أيضا ،فالمسرحي (بورحيم) جسد هذا التراث وقومه ليصير أكثر اتحادا مع ذاته،فبكى واستبكى وذكر الحبيب،وكان بذلك خيطا رفيعا في الربط بين الذات وبين المجتمع،حيث وظف العديد من الأساليب التي برزت روح المسرح الحداثي ،كتجربة إبداع مستمر معها بدأ بتقدم عالم يتراجع كما يقول أدونيس .[8]

فالمخرج طارق بورحيم جعل قاعدة الدراما التاريخية أرضية مفتوحة بين العلوم الاجتماعية والتيارات الفلسفية الحديثة مثل الوضعانية والذراتيعية والفينومينولوجية ،وهذه الولادة جعلته ينفصل عن الذاتية والمثالية وجعلته أيضا يؤمن بتعددية العلوم الدرامية والمعارف،لتكون قابلة للتخصيب والتطوير المتبادل لمواجهة ما يصفه إدغار موران بالطابع الفكري المركب،الذي يميز عالمي الأفكار والمعارف البشرية،لذا يستدعي إقامة حوار وتواصل بين مختلف الفروع المعرفية من أجل مواجهة التحديات الكبرى وغير المسبوقة التي تعرفها الكتابة الإبداعية الدرامية العربية والعالمية .

لقد أكد المخرج بورحيم على الارتباط بالماضي،فهو الروح المؤسس لهذا الفكر ،لأن الماضي ليس مقبرة للأفكار ،بل هو الحياة الكائنة في وعينا ،وبها نفكر بداخلها ،لذا ظلت الفلسفة الدرامية مملكة الأخلاق والميتافيزيقيا ،وقد أمدت المسرح الدرامي بالمآسي السياسية والإغتيالات الفكرية والكوارث البيئية بأسئلة جديدة كالفلسفة وذلك من أجل بناء نسقها المتخيل رغم ادعاءات المعارف الوضعية، إذن: فما الإنسان؟ هل اختفى أخلاقيا ؟ أم دراميا؟ وهل انمحى المثقف في الرمل  وفق تعبير ميشيل فوكو في كتابه ” الكلمات والأشياء”،فإذا كان فوكو يرى أن الإنسان لم يكن موجودا داخل المعرفة الكلاسيكية مثل القواعد العامة والتاريخ الطبيعي .

فالإنسان بوصفه موضوعا للمعرفة ،هو إذن من ابتكار العصر الحديث حسب فوكو (وخاصة البنيوية)وأيضا ظهور الأنساق المغلفة بالعلامات وبالخطاب والبنيات الاجتماعية،إنه يريد أن ينهي علاقته مع النزعة الإنسانية مثل دولوز – ولاكان ،وبارت وألتوسير ،إذن علينا أن نأخذ بفلسفة درامية لكي نأخذ مجددا بأسس ما هو إنساني ،ليس من منطلق مضاد ،ولكن لصالح حوار مع العلوم الإنسانية ،فرغم هذا التجزيء الذي تعرض له الإنسان فإنه لم يختف من افق المعرفة حسب المسرحية الليلة ،فإذا كانت الوضعانية مثلا تبحث في إطار التفسير السببي عن المنهج الملائم من أجل اعطاء شرعية للعلوم الإجتماعية في الميدان العام للعلوم الوضعية ،لكن التأويلية الدرامية ترى ان فهم المعنى العام والإنشغال بعلوم الروح ،هو الأجدر والأهم ،لأن الوضعانية تسعى دوما بالقطيعة مع علوم الروح ،لكن تجربة بورحيم التأويلية لا زالت تعيش بين ظهراننا سواء على المستوى المعنى كمعطى او مستوى الشكل الدرامي الذي نعيشه،لأن التأويلية حاولت أن تعيد النظر في إزاحة العراقيل التي تقطن في وجه فهمنا الجيد لهذا العالم الموجود ،فساير الفكر الواقع التاريخي القابل للتمثل كنص معد للقراءة أي يعني أن بورحيم يحاول بدوره أن يؤسس نقد للعقل التاريخي من أجل بناء رؤية روحانية ،لا تعتمد على المنطق ولا على العلم ،بل عن  الروح التي نصنع ذواتنا ،كما في كتاب المونادولوجيا ،أما هيجل فيرى ان الكينونة هي فكرة مطلقة ،ومتطابقة شأنه شأن شلنغ وفختيه ،وهذا التطابق بين الذات والموضوع جعلت بورحيم كما ذكرت يعيد النظر في هذا المفهوم جاعلا الحرية الروحانية هي الجوهر وسابقة عن كل وجود وقبل أي ثنائية ،لأن الهوية لا بد لها من معنى ،لكن السؤال المطروح ” ماهو الإنسان ؟”

فالإنسان لم يقذف عبثا في العالم ، له علاقة بالذاتية و بالمذهب الوجودي ،إذن فالهوية  الروحانية ينبغي أن تقفز خارج الميتافيزيقيا ،من أجل رد الإعتبار للفردانية التي تحس بالسمو والكمال حسب المسرحية ،فالليلة هي امتداد غير طبيعي لهذا المعتقد، حيث تقوم على تصور غرائبي سواء على المستوى التراثي،أو على المستوى الإبداعي  لأن ” الكينونة والهوية هما الشيء ذاته عند الانسان ـوهذا ما سنراه عنده  هيدجر الذي يعيد النظر في هذا المفهوم وخاصة في كتابه “الكينونة والزمن 1973  معتبرا ان مفهوم  الهوية تتصارع مع النسيان التاريخي لهذه المشكلة الميتافيزيقيا ،حيث ربطت الكينونة بالإنسان فهي التي تحدده وتقومه ،فهيدجر قام بدراسة الإنسان لفهم هذه الكينونة بعيدا كل البعد عن أفلاطون وأرسطو ، فأفلاطون ربط الهوية بالوحدة شأنه شأن فلافسفة اليونان ليبرر المغايرة على نحو ميتافيزيقي ،فالمخرج المبدع بورحيم في هذا التمسرح جعل الإنسان المعتقل والمتحرر يندمجان بطريقة تصبح كينونتهما تحضر لنا في عالم يسوده الفناء و الارهاب والغدر ،والقتل والاغتيال ،وأمس العقل بسيطا ومنغلقا داخل الإطار كما يرى هيدجر في كتابه ” الهوية والإختلاف “.[9]  لكن طارق بورحيم يخرج هذه الذات من حالة الفناء الى حالة الخلود ،لأن مسرحية الليلة هي ارتحال من الكائن الى الممكن ،ومن واجب الوجود الى ممكن الوجود ،لأن الممثلين عبروا الطريق نحو الخلود عن طريق الجدية والاستيهامات الصوفية من أجل الولوج الى عالم المثل لكي يكون نسقا فكريا ونظريا ينطوي على القوانين التي تسير هذا العالم لذا ينبغي تدريس موضوعه ومنهجه ونتائجه بواسطة قوانين التي تسير هذا العالم ،لذا عمل المخرج بإعادة النظر في المفاهيم والنظريات من التأويلية لأجل إعطائها مضمونا نفسيا  جديدا .[10]

فالمسرحية لا ينبغي عزلها عن اطارها التاريخي والوظيفي،بل نقدمها كآلة إنتاج حقائق،وتوليدها التراثي الرمزي ،إذن فالإنسان لا يتطابق مع الفناء رغم أنهما ينتميان الى جذور واحدة،وأن هذا الانتماء لا بد من التفكير فيه من أجل تحديد هوية هذا المحتمل والممكن فهو الروح الاسمى ،والأجدر لفهم ما هو عضوي وما هو متعالي ،لهذا نجد أن التأويلية الدرامية تقاوم وضعانية جون ستيورات ميل وأيضا أوغست كانط ،مطالبة بإدماج المبادئ المنهجية لعلوم الروح مع العلوم المسماة بالطبيعية (الإستقراء والتجربة) لذا عمل بورحيم بتزويد علوم الروح بمنهجية خاصة سواء في بعدها السيكولوجي ، الظواهر التاريخية يمكن اخضاعها للتفسير وفق نموذج علوم الطبيعة وذلك من منطلق أن الإنسان كائن طبيعي، لذا يمكن أن نجده أيضا كائنا مبدعا ومتلقيا وأخلاقيا وروحانيا ،لكن ماكس فيبر يرى أن الظواهر الاجتماعية يمكن وصفها انطلاقا من أفعال وسلوكات الأفراد والجماعات،والاعتماد أيضا على العلاقات البسيطة والمركبة، وهذا ما أكده في كتابه (الإقتصاد والمجتمع) (والأخلاق وروح الرأسمالية) فالفردانية لا تتحد في ذاتها ،بل لغير ذاتها لأنها مرتبطة بالتوجه الاجتماعي كما يرى دوركايم ،فلا يتبنى بورحبم منظور دلتاي ،بل يعتمد نموذج الفهم التفسيري الظاهراتي من أجل تحديد النموذج الديني في بناء الروح الرأسمالية الرمزية أما مارتن هيدجر فيرى أن التأويل لا يقتصر على الروح ،بل ربطه بالمسار الأنطلوجي من أجل إعادة وضع هذا المفهوم داخل النسيج الوجودي ليجعله نمطا للكينونة ،أكثر من جعلها شروطا للمعرفة الوضعية ،وهذه الدعوة هي مواجهة العلوم الانسانية والاجتماعية والدرامية والفنية وكذا ودورها المركزي في تشييد فضاءات جغرافية رمزية ،باعتبارها موضوعا معرفيا ،ونسقا فكريا وسرديا جعلت بول ريكور ايضا بعيد ما سطره ديلتاي حول الفهم والتفسير،جاعلا إياهما في وضعية دياليكتيكية من أجل دعم التفكير البنيوي ،لمحو الاتجاه الرومانسي والنفسي وهذا ما يقربنا الى أراء فوكو ورولان بارت اللذان أعلنا (بموت العبقري)فهذا الإقصاء للذات الفاعلة،والمبدعة جعلت البنيوية الطقسي تتعرض لهزات عنيفة من طرف المناهج المعاصرة كالفينومينولوجيا والتأويلية والسيميائية ،فهذه المناهج الإبستيمة أعادت قراءة هذه المنظومة البنيوية ،طارحة سؤال مهما “هل الشيء يولد من ذاته؟

سؤال جوهري وداعم أساسي يقربنا ما قاله هيوم بأننا لا يمكننا أن نختزل الذات إلاانطلاقا من الوقائع أو السلوكات الصوفية ،فهي أبعد من البراهين ،لأن الأخلاق في عصرنا هذا مستحيلة ليس بالمفهوم الأنتربولوجي، بل يجب إرجاعها الى العلوم الإدراكية في مواجهة الحدوس لأن الضرورة المعاصرة تسمح لنا بإدانة واقع مستحيل .إذن فتشخيص حالة البوح “كنمط” درامي خاص من الخطابات الدرامية يهدف بالأساس الى تحليل ازدواجية البوح ،وبالتالي ازدواجية اللغة ،لأن المخرج  المبدع يضعنا أمام تقابل أساسي بين لغة النص ولغة الإنسان الممسرح ،ولفهم هذا التقابل يجب بالضرورة التركيز على الخطاب الدرامي وحدود علاقته مع مجالات إبستيمية أخرى في المسرحية وذلك لتحليل العناصر التي تدعم هذه الإحتمالات ،إنه رهان درامي صعب ومتعذر ،الشيء الذي جعلنا نكتفي بطرح الاشكالات أكثر من الاجابات عليها ،فالمخرج طارق يعي أن الكتابة في مثل هذه التيمات هي مغامرة إبداعية يكون فيها المتخيل والواقع،والفكر والمعرفة الذاتية هو العامل المحدد للعملية التجريبية ،لأن هذا الإنشطار اللغوي الدرامي هو بمثابة أرضية ابستمولوجية للغة الرمزية التي تحتوي على كل العناصر الغير القادرة على الإستمرارية ،والتي يحددها باشلار بالعوائق الإبستمولوجية ،وفي المقابل يؤكد المخرج طارق على فسح المجال للخيال والإستعارات ،باعتبارها عوامل أساسية للعمل الدرامي ،لأنها عناصر مركزية تتواصل لتحديد كل هذه المستويات وأبعادها النفسية والمتمثلة في حدود التباعد والتقارب بينهما ،إذن علينا أن نتمثل هذا العالم لكي نملكه كمعطى أولي ،ثم قراءته قراءة نقدية خفية لكي نعرف العالم ككتابة شذرية  التي تقف بجانب الجمالي والأخلاقي ،وهذا ما أكده باشلار في فلسفة الاسم ص 09 – 10 و la phélosophie du nom ،فالممثل هو الانسان المتفوق الذي يتجاوز الشرط الأنطلوجي الإنساني العادي ،ليخترق حدود الكسموس ،وذلك من أجل انتزاع الحقيقة ،وكذلك لتحقيق سعادته الأبدية ،فهذا التسامي الخالص المتحرر من عبئ الرغبة وضغطها جعلت طارق بورحيم يعيد النظر في الكتابة الدرامية باعتبارها انتاجية ثقافية ودرامية ، تتشابك مع الأنظمة الأخرى الغير اللغوية ،لكي تشكل فضاءات تشكيلية ولتدل على المبنى والمعنى ،فالكتابة الدرامية عنده هي عتبة عليا التي من خلالها نلج عالم المؤلف لمعرفة من يتحدث؟ وكيف يتحدث؟ ولماذا يتحدث؟ ولمن يتحدث؟ أسئلة جدلية تربط بين الفكر والواقع وترفض كل تجربة لا تستند على مبادئ الموضوعية والذاتية،لذا يؤكد بورحيم على بعد الانفتاح ليؤسس لنظرية إبداعية بديلة هي فلسفة درامية مفتوحة غير دوغمائية ،هي فاسفة تعيد النظر في الكتابات الدرامية العربية لتؤسس لنفسها أورغانونا جديدا ،لأن الطريق المؤدي الى الكشف عن الحقيقة كما يراها الممثل لا تتم إلا بواسطة قواعد عامة تهيمن على سير العقل وأيضا تحدد عملياته التسلطية ،وهذا التوجه المغاير نحو الكتابة اتمسرحية  ،يفرض نفسه علينا ،فهو لن يكون استسلاما فكريا ولا سياسيا واجتماعيا ،لكنه محاولة جادة لاستيعاب ما أبدعه المخرج  تمهيدا لمحاكمة الانسان على أرض الواقع الانساني ،ومن ثم تكييفه ليتلاءم مع ما تتطلبه عمليات التفكير في البلدان العربية والمغربية  وايضا  الإسهام لمعرفة من يتحكم في صناعة الإرهاب والسياسة والاقتصاد ،وهذا يتطلب وقفة تأملية تحاكم الماضي لفهم الحاضر والمستقبل،وأن تكون الجرأة والإقدام لنقد العقل العربي في فضاءاته ومناهجه،لمعرفة توجهات هذا العمل الاواعي الباطني،إن أهم ما يمكن استنتاجه من خلال هذه المقاربة بصدد الإشكالات التي تطرحها علينا خصوصية هذه الكتابة التأويلية هي العلاقة الجدلية بين الخير والشر ،إنها علاقة تطمح لمعرفة التناقض داخل التفكير ،لأن الانسان هو الشيطان حسب المفهوم الميتافيزيقي ،فالتطابق يبقى إذن غامضا لأن التطابق بين الثابت والمتحول سيضعنا في ترتيب معقد،فالممكن يتوسط كل التأليفات المشروعة،باعتباره ينتمي لهذه الكينونة الصوفية،المزينة بالإشراقات وبالتعدد الثقافي والقيمي، لذا  جعلت المخرج بورحيم يختصر التوليفية بين الثقافي الا مادي والاجتماعي ،وبين الحياة والا حياة وبين الفناء والخلود ،كوحدة عضوية متناسقة في حياة الناس ،لأن الليلة تشكل دينامية فكرية وتداول شامل للمرجعيات والقناعات التأويلية ،ويقول ليفي شتراوس ” إن الانسان فكر دائما على نحو جيد ،ونظيف لما قاله بأنه مباشر دائما على نحو جيد أيضا ،فحتى وهو في صلب الجمال التراجيدي فإنه احب دائما الحياة على الموت وانتصر لها .”[11]

فالمخرج بورحيم،حاول أن يعيد الذات والذاكرة ،لكي يأخذ الشعر الطقوسي  صولته واعترافه ولتكون اللوحة عبارة عن منتوجات خيالية وروايات تتضمن عقدا وأزمات كونية،لذا عمد طارق على تصوير هذا المطلب الشعري ليكون حقيقة وإلاه شعريا في مكان غير مكان الاله نفسه (نيتشه) .

فالسؤال المطروح: هل ما يزال للمسرح شيء يقوله ؟ إن المسرح فلسفة قادرة على احداث تغيير مباشر للحالة الراهنة للعالم ،معلنا إثر ذلك التمسرح أنه تفكير وتجاوز وانفكاك رغم الذات المعياربة التي لا تزال عاجزةعن اختراق واقتحام حميمية لهذه الذات المستلبة باعتبارها منطقة تضم الا واعي المجهول ،والمتحكم بطرق ملتوية في هذا الوعي الادراكي ،فالمخرج طارق بورحيم عبر هذا التأثيث الركحي ،جعلنا يحكي بطريقة مزدوجة : المخبوءة والملغزة ،لكن لا يختزل الخطاب الشعوري ضمن إطار معين، لذا جعله ليخترق حميمية الذات في ماهيتها بلغة دراماتيكية وايقاعيا وشعبيا بمختلف فواصلها الراهنة ليكون الخطاب التمسرحي هو قراءة تناصية الهوية،والوطن والتراث والتاريخ وتفلسفا للذات حول الذات ،تكشفه عملية الوقوف أمام المرآة لتنبثق مفاهيم الاختلاف بين التذوات .[12]

فالمسرحية تقول ما انفلت من الذات خلال مسارها الوجودي ،فهي أرضية تستقر ماهيتها الميتافيزيقيا عليها ،باعتبارها تتضمن المتواري والمختفي والمنفلت ،كفكر الذي ينعكس على نفسه.[13] فالممثلون يعكسون هذا الفكر المحجب عبر حركات وحوارات بهذف التعرية والكشف عن الوجود الممكن وعن الذات المغتصبة .

إن هذه الذوات الممسرحة أمام الجمهور لتعلن عن هذا الوجود والقيم والهوية كانعكاس لا متناهي،على اعتبار أن مسرحية الليلة هي تأويل للخطاب المؤول مقابل الهوية كأصالة وهذا ما قاله الشاعر الفرنسي نوفاليس “من دون فلسفة الشاعر ناقص”.[14]

وبالنظر الى الممثلين أمام العالم المرأوي يتبادر الى ذهني انعكاس هذا الميتاجسد الذي يضع أمامنا إجابات حاسمة ،لماذا أمسرح ذاتي؟ وما المقصدية؟ وكيف أكون أنا هو الآخر؟ وهل أنفر من ذاتي؟وكيف أمتلك هذا التراث قبل أن يملكني؟وهل المسرح هو تعرية لسيكولوجيا التطور الإنساني؟وهل هذا التمسرح هو حالة نفسية مرضية؟ ام الغرض من هذا المسرح هو الحفاظ على البقاء وحماية الذات من الطبيعة؟ وما موقف السلطة من هذه الشخصيات؟ وهل المخرج استطاع أن ينزل المثقف من برجه العاجي؟ وهل هو مثقفا عضويا أم ساحرا دراميا؟

أسئلة كثيرة ومغايرة لا تثير النفور،يقدر ما تقربنا الى واقعنا العربي الذي يهرب من احتمالية الإختلاف الإبداعي بقدر ما ينبغي أن يتحول المسرح وغيره من العلوم الانسانية من مفهوم ثقافي تطوري الى سلاح اجتماعي بل يعتبره جون فرونسوا دورتيه بطغيان الجمال الغير المؤسساتي .[15]

فالمخرج طارق بورحيم يسافر بنا لنعيش الجمال ، الجذاب لأنه غريب بقدرته التي تتشكل انطلاقا من مفاهيم فلسفية ،وأشعار للشاعر – محمد بلمو – لنندرج بما يسمى بالاستيطيقا الدرامية ترتبط سوسيولوجيا بالجسد الإنساني ،وسيكولوجيا بالبعد الا شعور الباطني الايجابي – لأن المخرج بورحيم أنبث الجمال في النص الممسرح بهذف أن يصير بودليريا يقوم بتحويل الهامش الى أزهار بمدينة الليمون ،لأن يعرف كيف ينحط بالحياة المدنية،معتقدا بأنه يتقبل ذلك،غير أن هذا ليس هدفه ،بل استخرج من الهامش والتفاهة والاقصاء شكلا جديدا من هذه الأرواح المعذبة لكي يكون نظاما شرعيا يتدخل في حياتنا الاخلاقية والشخصية ،والحميمة لأن حركة التحرر حديثة العهد بالنسبة لنا حيث نعاني من افتقاد لمبدأ يؤسس عليه إنشاء الأخلاق والهوية والوطن .[16] لتأسيس نوع من أخلاق المسرح و ليكون علم الجمال الوجود .[17] فالمخرج بورحيم فكك طلاسيم الواقع المغربي الحاضر لأجل تأسيس علاقة الانسان المعاصر بتلك الالام، والمآسي وعواطف الحب والحقد التي طواها النسيان،ولتجعل الانسان يحن الى العودة الى هذا الماضي بشكل مدهش لأنه يريد أن يعيد لنا ذلك العود الأبدي ليتخلص الناس عبر الألم الى التعقل والحكمة ،إنها تكمن الرحمة وراء قوته ،وهذا ما رأيناه في لوحات المسرحية ،لذا فالمخرج يعد بروميثيوسيا الذي سرق النار فأعطاها للممثلين لكي يسلكوا طريقة الصوفية العاشقة للذات والصفات الأدمية ،فالممثلون كلبنى وأحمد وخالد وحمزة وعلى كلهم استطاعوا تطويع هذا الجسد ليكون نبراسا جديدا ورؤية باطنية توحد بين الذات والعالم وبين الفكر والوجود،وترفض كل تجربة لا تستند على مبادئ التمسرح التجريبي ،وفي الأخير أشكر كل من ساهم من بعيد أو قريب في تشييد هذا الصرح المسرحي في مدينة سيدي يحيى الغرب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *