إنجاز: د الغزيوي أبو علي – دة بن المداني ليلة
إذا كان التاريخ هو سلسلة الأحداث والوقائع التي تنتمي إلى ما هو ماضوي، وهو ما يثير فينا الأسئلة المفتوحة التي تعمل على صناعة الأحداث والوقائع، فضلا عن إشكالية المنطق المتحكم في سيرورة الأحداث، لأن التاريخ حسب سمير بوزويتة هو المعرفة التي يملكها الماضي والحاضر، وهو ما يثير فينا إشكالية المعرفة والفكر والوجود الذي تنتمي إليه، من هنا يطرح السؤال التالي: هل المعرفة التاريخية سردية؟ هل التاريخ علم أم أدب؟ أسئلة كثيرة مقترنة بالوظيفة التربوية، فالمؤرخ حسب هنري هارو <<يوجد مسبقا وبشكل مكتمل في ذهن المؤرخ قبل أن يقوم بتدوينه>> في المعرفة التاريخية دار النشر سوي 1959 ص32، إذن ترتبط استقلالية النص بمسألة الكرامة اللغوية والذهنية والعبارة، لأن وجود الفكر عند سمير بوزويتة يجعل من التاريخ قواعد لتكوين سياقات وتأويلات، فالتاريخ عنده يرتبط بالعبارة وبالمغايرة وموقعها دون تصنيف القضايا وجدل الجمل كما يرى فوكو في كتابه “المعرفة والسلطة” ص11، فالتاريخ هو تشكيل خطابي متلاحم من العبارة كدالة أصيلة أو ذلك المعنى الخاضعة للانتظام الكلي وهنا تتوفر الحظوظ في اكتشاف فروق جديدة بين العبارة من جهة والكلمات والجمل والقضايا من جهة ثانية، كما يرى فوكو في كتابه “المعرفة والسلطة” ص12، لأن سمير بوزويتة هدفه ليس هو الحقيقة في حد ذاتها، وإنما الغاية التي يتجنبها من وراءها، لذلك لا عجب أن تتضمن مؤلفاته جملة من الوقائع والأحداث من أجل تحرير المدون والشفوي من السذاجة ومن اللغة الشعبوية، لأن هدفه هو تحرير التاريخ من الوصف والسرد، والخيال والبلاغة المرقمة، والاستعارة ليكون الترابط هو النظام الخطابي لمواضع الذات ومواقعها، فكتبه العلاقات المغربية النمساوية الهنغارية، وبيعات أهل الصحراء المغربية للسلاطين والملوك العلويين – الاحتلال العسكري الفرنسي للمغرب، ومكر الصورة “المغرب في الكتابات الفرنسية”، ونشاط الدبلوماسية المغربية خلال القرن 19، والنبش في عظام الموتى بالمغرب، وتجارة العظام البشرية خلال القرن 19 ومطلع القرن 20، والمغرب وبلجيكا الذاكرة المشتركة يعكس متانة العلاقات المغربية البلجيكية، وأغوار تاريخ الدبلوماسية التاريخية، وأما بخصوص العلاقات بين التشكيلات غير الخطابية تأخذنا رغبة في إقامة نوع من التنوع العمودي كما لو كان الأمر يتعلق بنوع من العلية الأفقية التي تميز بعضها عن بعض، لأن سمير يرى أن القراءة لهذه المتون لا تكون بريئة بل هي محملة بمجموعة من الأسئلة المفتوحة والقابلة لاستيعاب الماضي برؤية نقدية لتتساوق مع شروط الموضوعية كما يرى صاحب كتاب “المدخل إلى الدراسات التاريخية” سينيوس ولانغوا، فقضية استحضار الماضي المرتبط بالفكر والتأريخ يتم في أعقاب ذلك مباشرة الاعتراف بضرورة الفكر من أجل استنبات الثبات والنظام بشكل يلغي التصور الكلاسيكي، فسمير بوزويتة يأخذ مفاهيم مختلفة باختلاف النمط الفكري، لأن معنى التاريخ كمفهوم يأخذ العلاقة بين الذات المبدعة وبين الثقافة صورا وأنماطا مختلفة، فالوثائق المدروسة بالكفايات الواردة في كتبه يفترض أن تتضمن فيما يسمى ببرنامج التأريخ لجعله مفتوحا أمام المؤرخ، بعمله يعتمد البرهان والاستدلال في مجال المعرفة التاريخية من أجل تقريب إلى المدرسة الوضعية التي تهدف إلى قطيعة ابستمولوجية مع الماضي، ويتحول التاريخ بموجبها من مجرد معرفة سردية إلى معرفة علمية موضوعية ويقول في هذا الصدد سينوبوس ولانغلو <<إن جوهر العلم هو دراسة الأسباب المحدد فقط فالمؤرخ كالكيميائي والطبيعي لا يجب عليه أن يبحث عن العلل الأولى والنهاية>> مدخل إلى الدراسة التاريخية ص32، ولكي نفهم شكل حقل القراءة عند المؤرخ سمير بوزويتة لابد من العودة إلى العناوين المذكورة سابقا، لأنها مقاربات نقدية وتربوية راهنت على فهم آليات الاستيعاب القرائي وتحليلها، وقد كان لذلك أثر كبير في المجال الأكاديمي، إذ تبلورت اتجاهات تدعو إلى تطوير أساليب التفسير المنهجي لإقراء النصوص المستقرأة، من تلك الإنجازات التي عرفتها مجالات النقد، وفي إطار مواكبة المنظومة التاريخية لمختلف هذه التطورات شهد هذا النهج انفتاحا على ديداكتيك القراءة التاريخية، لتجاوز نواقص المقاربة المعروفة بتفسير النصوص ولتنمية كفايات قصد تقويم نصي.
إن عرض كتب سمير بوزويتة هو فتح السبيل إلى ممارسة فينومينولوجية تتخذ من مسألة المدون خيطا هاديا لها، من أجل بناء انطولوجي لمعنى الوجود التاريخي المعاصر بل أيضا وبنفس المدة الشروع في بلورة استشكال صيغي بواسطة مفهوم “الهوية” من حيث هي لغة التفكير بين الدول ليحرر التاريخ من نحن؟ في صيغته الأنتربولوجي إلى بناء تصور كوني جديد، إنه يحاول أن يفهم المادة التاريخية حتى يحقق قدرا من الموضوعية وذلك بفعل فعالية ووظيفة تأويلية طالما أنه يسعى إلى إلغاء الدور التبسيطي في عملية التأويل والفهم من خلال التساؤلات والتوقعات التي يطرحها التاريخ ما بعد الكولونيالي، فسمير بوزويتة يكشف لنا عن تمفصلات الثقافة المغربية والأجنبية وذلك كله في إطار تفكيك المسكوت عنه من أجل الانخراط استنادا إلى الوعي المنهجي المرتبط بالحداثة النقدية، إذن فالكتابة عنده تعرية وفضح وطقس غرائبي تمارسه الذات البوزويتية للتعبير عن انتساب واختيار التيمات التي لا تميل إلا إلى الصمت، حيث يحاول أن يقدم نفسه كمؤرخ دؤوب بعيدا عن الأهواء والنزعات الطائفية، لأن مشروعية الانتماء إلى الكتابة هي ممارسة الذات لوجوديتها كمطلب موضوعي، ويرى عبد الإله بلقزير <<أن الذاكرة الثقافية تنتعش وتستنفر المطالب والأهواء والمصالح فتزول الصورة الأولى للواقعة إلى صورة جديدة تكون المسافة بينها وبين الأولى هي عينها المسافة بين الذات والموضوع هو الوعي الإيديولوجي>> دراسات عربية ع10 – 11 – 12 – 1992 ص3، فالكتابة عنده هي فلسفة تنويرية ومقاومة فكر مغلق، وانتقال من البساطة إلى التركيب، من أجل استواء كيانها التأريخي الجديد، فسمير بوزويتة لا يغلق كتبه بالخاتمة بل يجعلها مفتوحة على الاختلاف والتنوع والتحليل والتقويم، وستكون أهم مكافأة لسمير أن يقرأ متونه بقراءة عالمية، فالمؤرخ سمير مناصر للنقد الثقافي المقارن من أجل الوعي التاريخي ويقول عبد الإله بلقزير في هذا الصدد<<إن الوعي بالتاريخ هو ما تكون تجربة الماضي والحاضر مادته للتأمل، التاريخ هنا موضوع – حقل – لاستعادة الأحداث والوقائع وتنظيمها في الذهن تنظيما كرونولوجيا معينا، وحقل للتأمل فيها بغية بناء تصورات عنها ينتظم ويتماسك ويتسلسل فيها معنى تلك الأحداث أو يكتسب صورته>> نفس المرجع ص5، فليس الوعي بالتاريخ هو سرد الأحداث بل هو الوعي التاريخي والتفكير على تشغيل ملكة التكوين والتفكير والاستقراء والاستنباط، والباحث سمير بوزويتة في تناوله لهذه التيمات التي ذكرناها ليست موضوعات قهرية من حيث التوظيف والنشأة والتأريخ، بل انخراط في تلابيب الوقائع والأحداث التي تحصل خارج نظام الرغبة الذاتية كما يرى دوركايم، هكذا يحاول سمير أن يجعل السؤال عن معنى الكتابة التاريخية جزءا جوهريا من السؤال عن نمط الكتابة الذي يخصه، لأن البحث في متون هذا السؤال الذي طرحه كاستراتيجية نسقية فكرية التي تربط بين الفكر والواقع، ويظل تمرينا جديدا وليس مطلبا بيوغرافيا عاديا، وإنما هو المدخل الجوهري إلى نفق التفكير العميق الذي قطعه الباحث في متونه المتنوعة، حيث باتت مضادة للقديم ومقوم حاسم في تفكيره، وتظل أيضا ظاهرة استنطيقية واقعية فلسفية وصارمة إذا نحن لم نقترب منها.
إن اختراق البراديكم القديم هو تكسير كل الأطروحات السابقة وانخراط في أفق الدولة الحداثية، لأن سمير فكر في سؤال الكتابة التاريخية ليس في نطاق السؤال القديم “ما النص؟” وما علاقته بالإنسان والحدث والمكان والزمان؟ أسئلة تنتج من طرافة خاصة، وذلك بوصفها تصور جديد في الكتابة وبنية جذرية للأسئلة التاريخية بعامة، فهي الإشارة التي تقربنا إلى منطقة النحن، والراهن، بوصفها نمطا يكشف الضمير الإنساني، فالكتابة عنده لا تفكر إلا بقدر ما تضطلع بمعنى ما من كتابة إلا إثبات لإمكانية العالم في كل تأويل، فالكتابة عنده هي السؤال عن معنى الزمكان ومدخل لسؤالنا الأصلي، ما التاريخ؟ وما وظيفته؟ سؤال يدعو ضرورة إلى تصريق القومية والوطن، والهوية لتنتهي غالبا إلى عدم تجريد المؤرخ من طبيعته التأويلية، لأن سمير يفكر في التاريخ دون أن يخلط بينه وبين الاستعمار، فالقراءة لم تكن من الخارج بل من الداخل لأنه (الغرب) هو عصر تاريخي مؤدلج دخلته الإنسانية مجتمعة ويقول فتحي المسكيني في كتابه “الهوية والزمان” دار الطليعة بيروت 2001 – ص34 <<لم يعد نقد الغرب مهمة غريبة محضة، فإنه لا يمكن لأي نقد خارجي عن سياقه الخاص أن يصل إلى نواته، إن النقد الوحيد للغرب هو ذاك الذي يضع على عاتقه أن يعيد اختراع فكرة الغرب مرة أخرى، نعني أن يعيد اختراع الشرط الإنساني والسياق التاريخي اللذين جعلا من الغرب ظاهرة ممكنة (ص34)، فالمؤرخ سمير بوزويتة حول هذا المستعمر إلى شرط تيماتيكي يستعمل كوسيلة لإظهار الذات المغربية دون التحيز ولا خطورة الإسقاط من ذات الباحث على موضوعه، فيرى ما في نفسه أكثر مما يرى في الواقع كما يرى حسن حنفي في مقال له “الاستغراب في مواجهة التغريب” مجلة الاستغراب العدد I – 2005 ص307، إن سمير في كتابه يدعونا إلى التشبث بالحداثة من أجل بناء مفهوم الإنسان على أسس جديدة تماما، لأن إنسانيته هي الجدار الأخير في العلاقات التي ينبغي أن تستمد منه كل إمكانية المعنى التي يملكها، وسواء تعلق الأمر عندئذ باكتشاف الأرض – الوطن أو الهوية، أو بالعلاقات التي بها يؤمن بها، أو بها تكون الذات العالمية هي إرادة الاقتدار التي تحرك مصير الإنسانية، فإن برنامج المؤرخ سمير بوزويتة هو تأسيس فضاء حداثي، وإبداع يستمد قوامه من أي جهاز روحي حداثي، وذلك أن قد صار يشتق من الماضي وجوده الخاص، فإعادة كتابة التاريخ الغير المسيج هو عبارة عن قراءة تحارب التجارب الكلاسيكية لترسم لنا البنى الجديدة كما يرى بيير بورديو، فالتنوير البوزويتي هو أفق تاريخي قد تهيأ له من الداخل من أجل تجاوز العدميين والعاميين الذين ينتجون حيوانات ثقافية بلا عصر كما يرى فتحي المسكيني “الهوية والزمان” ص162، وفي النهاية آمل أن أستقرئ بعض الكتب التي ذكرناها برؤية دريدية لكي نعرف مركزية سمير بوزويتة، ودوره الأكاديمي والبيداغوجي، لأنه بالعلامة الذي علم الطلاب البحث في أعماق التاريخ وليس في ضعافه، وتحية له.