كم نحنّ إلى زمن الرواد الأبطال الأوائل الذين تساقطوا تباعا كأوراق أشجار الخريف ، وكل تلك الوجوه التي انصرفت بالأمس القريب والبعيد في صمت متأبطة يأسها، كاتمة ألمها ، مخلفة قصصا وحكايات لازالت تسكن الذاكرة منذ زمن، مثل”حربا وبلعيد السوسي…” وغيرهما من الرموز والروّاد المؤسسين، الذين كانوا مرآة للمجتمع في مرحلة معينة من تاريخه، وصانعي عصر وثقافة فنون السرد والحكاية والمسرحة الشعبي، ما منحهم وضعا رمزيا واعتباريا جعل منهممحط الأنظار وقطب الاهتمام والتتبع لمختلف مراحل حياتهمالإبداعية.
حربا رائد مسرح “السوق”
مرّ زمن على رحيله، وما زالت صورة ذلك «المسرحي البارع» حاضرة في الأذهان. يقف هناك في المخيال الشعبي على ارضية باب المكينة المغبرة أنداك، أو بقلب ساحة بوجلود سليلة ساحة جامع الفنا، يحيّي الجمهور بسخريته المحببة، قبل أن يدخل مع إحدى الفنانات المصريات (الراحلة اسمهان” أو “أم كلثوم”، ليشعل معهن حوارا افتراضيا ، ملتهبا لا تغيب عنه النكتة الطريفة المغلّفة بقوالب الكوميديا السوداء، التي طالما رفعها شعاراً لمسرحه.
لقد عرفتتجربة حربا المسرحية بدايتها مع الظرف السياسي الذي عرفه المغرب في منتصف الستينات، التي تزامنت مع بداية مرحلة التجريب في المسرح المغربي وبداية القطيعة مع الأشكال المسرحية التقليدية التي ساهم فيها بإسكتشات هزلية بسيطة بمشاركة فرقة من الهواة من أبناء جهته “تافيلالت”. لم يخطط للاحتراف في مسرح الرصيف، فالصدفة وحدها قادته إلى ولوج الفن من بابه الواسعوامتطى صهوة المسرح بتجريب أشكال المسرحية التقليدية وهو العامل البسيط في أوراش البناء الشاقة والمتعبة. اكتفى يومها بأدوار صغيرة شارك بها بعض “لحلايقية” المشهورين، قبل أن يستقل بحلقة خاصة أبدع من خلالها على مستوى أدوات العرض وآليات الفرجة، ليقدم لسنوات أول مسرحياته الناجحة “الخادمة” التي فجر فيها كل طاقته الإبداعية عبر حركاته الجسدية التي كانت وراء شهرته في فاس وما جاورها من الأسواق التي كان يتردد عليها طيلة الأسبوع، ثم مسرحيّة «آآآلو مي» والتي تقاسم بطولتها مع الفكاهي المقتدر”عيشة بطيط”، ومسرحية “عبوالريح في بلاد الطاليان”. لكن اللقاء والتجاوب الفعلي مع حربا، لم يبدأ إلا مع مسرحية “زواج حريا” التي قدّم خلالها نماذج من الصراع الطقبي ونقدا بارعا للفوارق الاجتماعية، والتي كان يبدؤها باللآزمة المشهورة أنذاك، والتي لازال يتذكرها من عايش عصر حربا إلى الآن والتي يقول فيها متغنيا متشفيا في بطل مسرحيته المسمى “عباس” الذي رفضته الخطيبة لأنه دخيل وليس بفاسي متأصل حيث يقول” آآآعباس ما بغاتو لمرا.. آآآآآآآآآآحربا. وقد لاقت من الإقبال والشهرة ما لم تعرفه قبلها ولا بعدها مسرحية أخرى في مسرح السوق و الرصيف، حيث كان المعجبون بفنانهم “حربا” يرددون ، آآآعباس ما بغاتو لمرا أأأأأأأأحربا، حتى أنها غذت مثالا شعبيا يضرب عمن يتطلع لمستوى غير مستواه.
لقد أكمل تصميم شخصيته وبنى شهرته في مسرحيّة «حربا لاباس عليه» حيث كان يؤديها باللهجة والنكهة الفاسية عنوان الغنى والأبهة التي أوحت له بتلك الشخصية التي حققت نجاحاً مدوياً. وهكذا استمرت رحلة “حربا”تصاعديّا،حتى أصبحت حلقته -سواء بباب بوجلود أو باب مكينة مولاي الحسن- مقصداً للكثير من عشاق الكومديا الهادفة التي كان “حربا” يخاطب بها جميع الطبقات وكل الأمزجة، والتي نجح من خلالها في انتزاع ضحكات الأدباء والمثقفين الذين وجدوا في مسرحه الشعبي متنفّساً حقيقياً لهمومهم.
وكباقي الرواد لم يبتسم القدر لحربا وتربص به البؤس وكل الشرور التي تحدق بكل من يختار طريق الفن عامة، وخنقه ضيق الحال، ولم تسعفه الصحة، ولم يمهله العمر لتقديم المزيد من الإبداع، فتوفي في ظروف غامضة في فقر وعوز قاسيين. وهذه ليست ظاهرة ينفرد بها المغرب عن باقي البلدان العربية، فأن تكون مبدعا في الوطن العربي معناه أن تتلظى بنارك وحيدا، فترتكن إلى الظل والهامش بعد أن ينهشك الجوع والمرض وقلة ذات اليد. وإذا ما اضطر أحدهم إلى ملازمة أسرة المستشفيات الباردة، أو الانزواء في بيته، فإنه يرىكيف تتفرق من حوله الحلقة، وتصمت الجلبة ويغيب الأصحاب والزملاء إلا الأصيل منهم طبعا، مع أن المهرجانات المقامة بالبلاد أكثر من عدد أيام السنة و المحظوظون المكرمون فيها على طول السنة لا يعدون. فهل ستتحرك الجهات التي سامت هذه الرموز التجاهل من قبل لرد الجميل لرواد مبدعين، والاعتراف لهم بما قدموه من عطاءات عظيمة؟؟..