نجيب طــلال
ما وقع ليلة البارحة ؟ أي نعم ليلة البارحة ( الجمعة) لم يترك أناملنا تهدأ ؟ ولا ذهننا يرتاح ؟ ولا شيطاننا ينعم بإجازته ؟ هـذا ليس من باب استراحة محارب: كما يقال ! بل تأملا وتدبرا في منطلق فكري/ إبداعي مخالف عن الموسم السابق. وأي المواضيع أهَـم بالاهتمام ؟ لكن كيف تكون الاستكانة ؟ والبلاد والعباد عاشت ليلة بيضاء ! نعم يا ملائكة الرحمان ، وأنتم الأعلمون: ليلة ليست ككل الليالي عمت ربوع المملكة ! أكيد ليلة غير متوقعة ؟ ولا في الحسبان ! حَـتى ولو في مذكرة الأوهام ! ولا في سجلات الأحلام ! ولا في سلم الأرصاد المترصدة لكل دبدبة ; إنها لم تستطع أن تترصد، بأن الأرض ستتكلم، وستخلف مشاهد مرعبة ! وحكايا وأحداث مفزعة ! بعدما حاول ذاك أن يخلد للنوم؛ ليرتاح جسده / ذهنه ، من متاعب العمل. أو من الدوران بحثا عن عمل ؟ أو ذاك الذي اختار حانته المفضلة لينتشي كؤوس نبيذ على راحته كالمعتاد. أو تلك الجماعة التي اجتمعت على مائدة إحدى المقاهي، أو ذاك الذي فضل أن يحلق شعره أو يغتسل في حمام “بلدي”، استقبالا لعطلته الأسبوعية. وتلك السيدة التي وضعت أطباق العشاء لأبنائها وزوجها، أو أولائك المدعون لحفلة زفاف أو ضيافة عشاء… في رمشة عين ، انقلبت الأغـراض والنوايا والأهداف … لهروب جماعي، من المحلات و الشقق والمقاهي… ليحتمي [ الكل ] في العَـراء مُـدثر سماء رب العالمين، إننا بشر ضعيف القوة ! منخور الحيلة ! أليس كذلك ؟ إنه كذلك: أمام غضب الطبيعة ! أو غضب الأرض ! وإن كانت هي تحولات جيولوجية: نسأل الله الرحمة والمغفرة .عما يصدر منا من هُـناتٍ ومكـْر وطغيانِ وهفوات ٍوخديعةٍ وتعَـنتٍ ورياء .
لنـعْـتبر:في دقائق معدودة انقلبت الحياة ، خـراباً وهلعاً ، ولمشاهد وصور وحكايات مختلفة الأشكال والأفعال… مِـن جَـري وركض واندهاش وصراخ وصدمة وبحث عن أمكنة آمنة بين الحدائق أو الساحات؛ أو في الخلاء.
الكل أمسى سواسية، إنه منطق الحَـدث ؟ لا فـَرق بين المحتاج والميسور ! ولا فـرق بين الموظف والعاطل ! ولا فرق بين العَـدو والصديق من الساكنة ! ولا فرق بين الطيب والخبيث من الجيران ! لأنه منطق الحَـدث ؟ زلزال رهيب مما لاشك فيه ! لأن الكل في الأزقة والفضاءات يحتمي هَـربا من الموت والحتف المطلق… ولم يصدق ذاك الهارب، أننا رهائن زلزال مفجع في أية لحظة ؟ ربما سكرات الموت المؤجل، كانت تلاحقنا ؟ مما كان الهروب كـَوَسيلة. ولربما أصابتنا غيبوبة عرضية جَـراء ما حـدث في رمشة واحدة . فكان الهروب كغاية، وعدم التصديق أننا في معمعان زلزال مدمر هاته المرة ! حتى تحركَـت وسائل التواصل الإجتماعي؛ بقوة متفردة، وتصبيب المعلومات والصور بسرعة برق، بين الشباب الملتحم في العَـراء رفقة أمهاتهم وآبائهم وجيرانهم … إذ ذاك كان التصديق والإيمان بحُـدوث زلزال مُـدمِّـر؛ حينما تمركز في منطقة ” الحوز” وما يحيطه ، ليخلف خسائر؟ خسائر لم تحسم بعد ! لكنه تَـرك قلوبا مكلومة عن فقدان أبناء وأزواج. عن فقدان متاع وسكن ! أفجع الذاكرة بالذكريات ، لتنهمر عيونا بدموع أعاصير الزمان عمن لازال تحت الأنقاض.
إنها السواسية : بخروج العباد من كل الأعمار للأزقة والشوارع ؛ قبل أن تكون فاجعة كبرى !! لكنها أعادت بي لأحداث ظلت راسخة في ذهني/ذاكرتي وستبقي كذلك ، ليضاف إليها ما عشناه سويا في هاته الليلة، وتلك الليلة من بداية السبعينيات من ( ق.م) حيث هـرع كل الساكنة خارج البيوتات في منتصف الليل من ثاني عيد الأضحى، لكن الطريف والمحزن، أن الأغلبية هَـربت بذبيحتها ! خوفا من سرقتها ؟ إنها عقلية “الأحياء الشعبية” فرغم التآزر والتواصل والتكافل الذي كان؛ لم يثق أحـد بترك خرفانه معلقة في منزله ؟ هكذا فـَسرت الأمر هكذا؟ ونحن يافعين أنذاك. ويمكن أن أعكـس المشهد ( الآن) فالكل هَـرب بهاتفه ، خوفا من ماذا؟ هل خوفا من سرقته ؟ أم خوفا من الملل ؛ لبقاء الهاربين ساعات فوق أرض الحدائق والبساتين والطرقات ؟ أم أنه سلاح يحمي عجزنا ؟ إنه بوصلة ومرآة /الغافلين/ النائمين/ الجهلة/ الذين لم يستوعبوا بعْـد ! بأن طغـيان وسائل التواصل الاجتماعي وذكائها المتنامي، سلاح إعلامي رهِـيب ، قبل أن يعْـقد أواصر الصلات الإنسانية والتفاعلية ؛ بين الأفراد والبشر، في كل بقاع الكون. أليس بواسطته كشف قبل ساعات عن الخراب والدمار ! الذي حل بنا وبأبناء جلدتنا ؟ وضح عن الهلاك الذي لحق مدنا ومداشر وقـرى؟ ألم نسمع أنين الضحايا ؟ ألم نسمع صراخات استغاثة ، وطلبات العباد المنتشرة خارج أسوار المدينة؟ إنهم يطلبون المتاع والطعام والشراب والخيام، ولا يطلبون تحليلات وتفسيرات عن الزلازل ولا عن تاريخها ولا عن مرثيات على جثت الضحايا أو على مشاهد مأساوية لأمهاتهم أو آبائهم وأبناء حَـيِّهم أو قـُراهم ؟ لكن نحن لا نملك سوى المآزرة ، وباقات أحرف منثورة على جثمانهم الطاهرة بالوَرد والندى ، عربون تعاضد ومساندة لا مشروطة . رغم بعْـد المسافات ؛ فالكل مكلوم من شرق البلاد لغـَربها ومن شمالها لجنوبها . الفاجعة مشتركة والمصير واحد، وإن اختلفت الأحداث والأضرار، فجميعنا نتقاطع في الضرر النفسي، وفي الهلع الذي خلفته ( الليلة البيضاء) فالبقاء للواحد الديان ، له المُلـك والمغفرة ، اللهم باسم قـُدرتك؛ ونورك ؛ كـن في عَـون كل من فقد عزيزا عليه وعلى نفسه، ولكل من ذاق طعْـم الهلاك الزلزالي ، ولكل نفـْس فقـَدت نفـَسها، ولكل نفـْس فقدتْ أبناءها وأحفادها… فـللَّه الأمر من قبل ومن بـعْـد .
فــاس/ 09/09/2023