الاعلام والمجتمع

الجديد بريسحميد طولست

تعاظم دور الإعلام الاجتماعي وتمدد تأثيره شيء إيجابي ومحمود أن يعبر الناس عن آرائهم عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي التي وفرتها الثورة الرقمية ، كوسائل للبوح بما يجول بخواطرهم ونشر المودَّة والرحمة وصلة الأرحام وتقوية الروابط الاجتماعية ، لكن الشيء السلبي والمستهجن ، هو الاعتقاد بأن كل المواقع الإلكترونية هي جميعها أدوات لتقديم المحتويات المعرفية الملتزمة والموضوعات العلمية والمعرفة القادرة على التوعية والتثقيف وتعزيز الوعي الايجابي بمختلف القضايا المجتمعية، وأن كجمل معروضاتها تقتصر في مجمله على الإنتاجات الإعلامية الرقمية المطورة للذات، والموجهة للعقل نحو المنافسة الشريفة والمهارات الجالبة للمنافع المسهمة في تعزيز التقارب بين الدول وإذابة خلافاتها ، بينما هي في حقيقة أمرها ، مجرد آليات خاضعة للأجندات المتناقضة مع مصالح الشعوب والمعاكسة لها ، والتي تعمل على إلهائها عن حقوقها الاساسية ، وإشغالها عن مطالبها المشروعة ، بما تنشره من تفاهة وسذاجة وتسطيح وتلاعب وتضليل وتجييش للمجتمعات المكتظة بالمؤامرات الخبيثة والمؤثثة بالتشابه والعزلة والسآمة ، و العامرة بالوعود العرقوبية الأخاذة المعطر بالأكاذيب المفتقرة للمصداقية التي يسوّقها لها بعض المؤثرين –الذين كفنوا المصداقية الإعلامية في أقماط الدولارات- الذين هم لهم إلا ما تحققه هذه الثورة المعلوماتية من ريع وامتيازات، تقدمها التطبيقات المتعددة كـ”التيك توك” و”اليوتيوب” و”الواتساب” و”الفيسبوك” و”الانستغرام” بكرم حاتمي مقابل نسب مشاهدات السذج والجهلة المتابعين للقذارة والسخافة الخارجة عن نطاق السيطرة والأخلاقيات ، ودون تفكير في الأضرار التي تنجم ليس عن تسويقها كسلعة تجارية لتحقيق الشهرة أو المكسب المادي فقط، ولكن لصناعة الرأي العام ، وصناعة الأحداث والقضايا المرتبطة بالجهات والشركات المالكة لوسائل “الإعلام الإلكتروني ” المؤثرة -الذي يصطلح على تسميته بــ “الإعلام الاجتماعي” بكل مواقعه وملحقاتها المؤثرة في حياة البشر – الهواتف النقالة واللوحات والحواسب التي تلعب أخطر الادوار في تهجين وتمييع الشبكات المعلوماتية وتحويلها إلى وسائل “تغيير” و “تضليل” و “تحريض” قادرة بما يتوفر لها من امكانات رقمية على قلب كل الموازين والوصول بها إلى أقصى الحدود وأخطرها ، كالذي حدث في الانتخابات الرئاسة الأميركية والتي ساهمت وسائل التواصل الإجتماعي فيها بإيصال “دونالد ترامب” للبيت الأبيض عام 2016 ، وكما حدث مع عزيز أخنوش الذي استطاع – رغم سهام الانتقاد التي طالته بسبب ثروته- أن يطيح بالإسلاميين الذين حطّوا الرحال في قلب السلطة ، باستخدامه للمسات الناعمة للإعلام الإجتماعي التي وظف لها شركات متخصّصة في الإعلام والتواصل، مقابل شعارات “المظلومية” المتخلفة والمتجاوزة التي سيطر بها الإسلاميون على الحكومة في عام 2012. لست هنا ضد استخدام الإعلام الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي كما يبدو ، وأني لست ضد حصول “اليوتوبرات” على البوزات والشيرات واللآيكات التي تتحول إلى دولارات ، التي لا يمكن الاستهانة بدورها البالغ والمتزايد في التأثير على حياة الناس عامة و العوام على وجه الخصوص ، الذين يقدمهم بتاثيرها في تركيبة المجتمع وطبقاته بعد اختفاء طبقات الكتاب والمثقفين والسياسيين الجادين من منصات الإعلام الاجتماعي ، لكن شجبي وإنتقادي هو منصب بالأساس لكل ما يملأ به المتصيحفون -أن صح العبير- حواشي الفيسبوك من محتويات سطحية ، وتحديثات غير جادة ، وتطبيقات بلا إبدعية ولا إتقان ولا فنية ، وإصدارت بلا قيمة أو أثر في تغيير واقع الناس ، والتي لا تنم جميعها إلا على أشكال النصب الجديدة ، وأنواع الغش والتحايل المبتكرة في استغلال ضحايا هوس التقنيات الرقمية الحديثة التي حولت كل من يحمل منهم هاتفاً ذكياً إلى مؤسسة إعلامية خاصة ، لا تتجاهل الحقائق فقط ، بل تشجيع توافهها وتنصرف عن كل جاد منها وفيها وتتفنن في إختلاق الأخبار والمعلومات وبكميات ضخمة ، وتنتج التقارير المشوهة ، وتصطنع الاستشهادات وتختلق الصور من مصادر غير موثوقة أو غير موجود ، ضدا في المباديء العامة للصحافة التي لخصتها نظرية أرسطو في البلاغة التي عرّفها بأنها القدرة على رؤية ما يمكن أن يكون مقنعًا في كل موقف، وقسم وسائل الإقناع إلى ثلاث : مصداقية المصدر، والنداءات العاطفية أو التحفيزية، والمنطق المستخدم لدعم الادعاء، والتي يعتقد أن هدفها القدرة على التأثير في متلقي الرسائل عامة ، ورسائل الوسائط الرقمية على وجه الخصوص والتي فقد مصداقيتها أو تكاد ، ما جعلها موضع شك وريبة ونقاش ، حيث أنه ووفقًا لاستطلاعات رأي جالوب، فإن ثقة الأمريكيين في وسائل الإعلام تتراجع باستمرار كل عام منذ عام 2007، وفي عام 2013 ، وحسب “مركز بيو للأبحاث للناس والصحافة” فإن تصنيفات المصداقية للمؤسسات الإخبارية الكبرى هي أو قريبة من أدنى مستوياتها على الإطلاق.. ومع كل هذا وذاك ، فإنه مواقع التواصل لازالت تحظى بمتابعات مهولة جعلت منها مصدرا لأغلب معلومات المتابعين الذين يدل تزايد عددهم على أن هذا النوع من الإعلام الإجتماعي، قد بني له عرشاً على حساب عروش الإعلام التقليدي، رغم ما يستحضره عالمه من تحديات خطيرة على نظرة الناس لأنفسهم ووعيهم بأدوارهم الحقيقية في الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *