لم اكن ارغب في الكتابة عن اجتياح روسيا لأوكرانيا ، لأني أكره الحرب وأمقت اندلاعها في أي بلد من بلدان العالم ، وأستهجن التصفيق لأي هيمنة مهما كانت دوافعها ، واحترم إرادة وصمود كل من يقف في وجه أي استعمار أو احتلال أو ظلم أو طغيان ، وأحاول قدر المستطاع تجنبالمشاركة في أي مناقشة تحكمها الانفعالات ، وتتخللها تصفية الحسابات ، ويشغلها الإصرار على تحويل مصائب الغير إلى مواد إعلامية للإثارة أو التحريض ، رغم كل هذا وذاك وغيره كثير، وجدتني مجرورا هذه المرة للخوض في هذا الحدث الكوني الدامي المضحك المبكي الذي لم يحدث مثله منذ الحرب العالمية الثانية، والذي ذهب الكثيرون في تفسير أسبابه وحيتياته مذاهب شتى ، أرجعته بعضها لتعطش الغرب والغرب الشرقي ،على حد سواء، للهيمنة والسيطرة والتمدد الجيوسياسي ، ونهمهما للتوسع واظهار القوة والفكر الاستعماري الامبراطوري ، وأرجعته مذاهب أخر لهوس الرئيس الروسي ، ونواياه المتقاطعة مع مصالح النفوذ والهيمنة ولعب الأدوار الوظيفية المتأثرة بالمشترك التاريخي الشرقي الروسي السلافي والقومي والديني بين السُلافيات روسيا وبيلاروسيا وأكرانيا! وغيرها كثير من التحليلات التي نظرت لهذه الحرب التي أصبحت واقعا يراه العالم ، ويعيش كوارته وارتداداته الاستراتيجية الهائلة ، المبنية على المصلحية الاقتصادية -أحد محركات الحروب عبر التاريخ- التي لا تشبع منها الطبقة الثرية والسياسية الحاكمة “في العالم ، والتي سأقف حيالها ، في هذه العجالة موقف الحياد ، ولا اتطرق إلا لحقوق الإنسان –البضاعة التي طالما تشدق الغرب وامريكا بصيانتها- التي أتلفتها هذه الحرب من خلال ما تعرض له بعض المغاربيين والعرب والأفارقة الفارين من أوكرانيا من عنصرية وتمييز بسبب العرق والجنسية ولون البشرة والعيون ، والتي باتت مشاهدها المخجلة متاحة للناظرين في كل بقاع العالم ،تفضح ما يضمره العقل الغربي الاستعماري من مشاعر العنصرية المتنامية ، وكل من يدور في فلكه، وعلى رأسهم الإعلام المتحيز الذي يكيل بمكيالين في كل قضايا حقوق الإنسان– التي لا يستعملها الغرب وامريكا إلا للضغط على دول الشرق الأوسط للرضوخ لهيمنتهما – الأمر الذي شجبه تقارير بعض المراسلين والصحفيين الموضوعيين والمحايدين، في مقابل تعليقات الكثيرة من الإعلاميين والسياسيين الأوروبيين المتحيزين للتوجهات السياسية والعقائدية والقومية ، الذين لم يتورعوا في المقارنة العنصرية بين المهاجرين الأوكرانيين ومهاجري افريقيا والشرق الأوسط ، والمقارناتالتي لم تمرّ مرور الكرام عند المعلّقين المغاربيين والعرب والأفارقة على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين رأوا فيها مقاربة “عنصرية” مقيتة ومسا بحقوق الإنسان، والتي لم تتوقف عند نشر بعض وسائل الإعلام لاعتذارات علنية لتهدئة الغضب على مواقع التواصل ، بل استمرت مع التصريحات المستفزة لعدد من المسؤولين السياسيين عبر القنوات الفرنسية والأمريكية والصحف البريطانية، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا تحصى ومنها على سبيل المثال التصريح الذي جاء على لسان “كيريل بيتكوف” رئيس وزراء بلغاريا الذي قال: إن اللاجئين الأكرانيين ليسوا من اللاجئين الذين اعتادت عليهم أوروبا ، لأنهم أناس أذكياء ومتعلمون وبعضهم متخصص في تكنولوجيا المعلومات وهم مؤهلون تأهيلا عالي ، وتعليق “شارلي داغاتا” الموفد الخاص لقناة “سي بي إس نيوز” الأمريكية إلى أوكرانيا، الذي قال :”مع خالص احترامي، فإن هذا ليس مكاناً مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقوداً من الحروب ، إنها مدينة متحضّرة نسبياً، أوروبية نسبياً … حيث لا ننتظر حصول أمر مماثل”. ولم تسلم قناة الجزيرة الإنجليزية التي أرغمت هي الأخرى على الاعتذار عن تصريحات مديعيها “الخالية من الحساسية” كتلم التي أدلى أحد المذيعين حول اللاجئين الأوكرانيين ، في مقارنة غبية قال: “الثياب التي يلبسونها، تبين أنهم من طبقة وسطى ميسورة، هم حتماً ليسوا لاجئين فارين من مناطق تشهد حرباً في الشرق الأوسط” و”يشبهون أي عائلة أوروبية، قد تكون تقطن في حيكم”. وتعليق الصحفي “فيليب كوربيه” على قناة “بي أف أم تي في” الفرنسية بالقول “لا نتحدث هنا عن سوريين هاربين من قصف النظام السوري المدعوم من فلاديمير بوتين ، بل عن أوروبيين، يهربون بسياراتهم التي تشبه سياراتنا ويحاولون النجاة بحياتهم”. وحتى إذا كانت الإعتذارات عن التصريحات العنصرية تعبر عن صادق الندم المخلص ، فإنها لن تمحي ما لحق بالأفارق والمغاربيين والعرب من أضرار الاقصاء والاغتيال الأدبي والسياسي ، الذي يذكرنا بما الحقه الفكر الاستعماري التوسعي بالشعوب المستضعفة من اعتداءات وهجزمات وقتل وتشريد عبر السنوات ما بعد الحرب الأوربية المسماة العالمية الثانية والتي انتهت باقتلاع جناحي العالم العربي القويين (العراق وسوريا) وأهدرت ما كان لهما من نفوذ اقليمي وعالمي هائل ، وذلك بمبررات زائفة وملفقة مزقتهما الى كيانات متصارعة ، لم تنفع بعدها الاعتذرت المتأخرة ، التي تشبه القبلة على جبين الميت والذي يشخصه المثل الدارج “لبكا مور الميت خسارة ما بقا يعطيك وما تقولو أرى”..