دعيت بمناسبة “اليوم العالمي للمرأة” لأمسية نخبوية لتكريم بعض بطلات نساء الطبقة البرجوازية اللواتي لا يعرفن أي شيء عن حقيقة مأساة النساء ، ولا عن اضطهادن وشقائهن ، ولا يعرفن عن بؤس كدحهن واستبسالهن، وكافحهن، وتضحيتهن، أجل الحصول على اللقمة إلا عبر ما تجود به تخيالات خطباء المناسبات المخملية التي تُلقى على كاهل الذكرى وفي حشود النسوة المنتشيات باستعراض ملابس في غاية الأناقة وحسن الهندام ، وتوزيع السلفيات ، ومنح القبلات ، وتبادل العناق ، وتوزيع الورود . وفي خضم هذا الخليط الهائل من ضوضاء أصوات الموسيقى وترنينمات الترحيب بالمكرمات ، وتصفيقات الإعجاب بالمُبدعات وزغاريد الإحتفاء بالمتفوّقات ، وغيرها من الموجات التي ملأت تردداتها كل ما يحيط بي في فضاءات الحفل ، شردت برهة ، وانتقلت بي السنَة الغفوة ، من عوالم تسويق الإلهاء البرجوازي المزيفة للواقع ، المشوهة للحقيقة التي يتسيد عرشها وحوش الأيديولوجية المتلهفين لتحويل النساء لأسرة ناعمة باسم الدفاع عن مصائرهن. لقد عملت الغفوة التي اعترتني مفعولها ، وحطت بي في الحضيض بجوار طبقتي، حيث المرأة الحقيقية في أهل جلدتي، ليست هي نفس المرأة المحتفلة بأيامها العالمية الدائمة ، بصالونات المدن الأفلاطونية النسائية، وليست هي نفس المرأة المنتشية بجمال هذا البلد الامن ، والمتمعة بخيراته الوفيرة ، التي لم ينبها من وفرتها غير ما تعرفه وتعايشه كل المدن والأحياء والحارات الشعبية التي نبتت فيها ، كفريسة لا امرأة ، وسط شقاء وبؤس وكآبة وعذاب واضطهاد ممراتها الموحلة وشوارعها المظلمة ، فريسة تتأقلم مع أزمات الفقر وانعدام المورد ، تكدح وتكافح وتضحي، وتستبسل من أجل لقمة بعرق جبين منتصب بصلابة في وجه كل ظروف الظلم والفساد وصنوف الإدلال والهوان ونظرات الإحتقار اللئيمة، وكل أسباب الضياع والانحراف عن جادة الحق الجلي ، الذي نشهده اليوم بألم في الكثير من ساحات مجتمعنا، والذي استطاعت بجدارة وقاية نفسها ودويها من منزلقاته المتنكرة لآيات الكتاب وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، ليس نتيجة لإلتزامها بالدين ، كما يدعي شيوخ الوعد والوعيد، وإنما لتحكيمها التربيت والاخلاق والإنسانية التي تشربتها من أهلها المحيط وأهلها ، رغم أن أغلبهم بدون ثقافة عالية ، وربما لا يؤدي الكثير منهم الواجبات الدينية بالكامل ، لكنهم لقنوها ما يكفي من الأخلاق والإنسانية الكفيلة بمنعها من تسليم قلبها لشيطان الغواية ، فيوغره بما يوقعها فيما لا يرضي الله ، ويأبى ضميرها على قبوله ، من سلوكيات تسلب البهجة من حياتها وتقتل السَكَن في محيطها ! صحوت من شرودي على نداءات أحد منظمي الحفل يدعوني لإلقاء كلمتي بالمناسبة ، فوجدتني أتلمس موطئا لقدمي في كوكب مضاء بالكاشفات وأنوار الكاميرات ، بعيد كل البعد عن العالم الذي سبح في خيالي خلال غفوتي ، والعامر بالنساء اللواتي تفوق نسبة الكادحات المتحملات للبؤس اليومي نسبة الرجال و في جميع قطاعات الحياة التي يعرفن خلالها الموت المعنوي مرات في اليوم الواحد قبل الموت البيولوجي، واللواتي كان على من تكلف بإعداد وإخراج هذا الحفل التكريمي البهيج ، أن يدمجهن في تكريم النخبة –التي من حقها الاحتفال والتكريم-حتى تتحقيق الأهداف الحقيقية من الاحتفال باليوم الأممي للمرأة ، ويكون أبهى وأحلا، ولا يبدو أنه يومان في يوم واحد ، يوم فوقي تنقل الكامرات مراسيم توزيع الورود والأطاييب، ويوم تحت أرضي ، يراكم فيه البؤس والشقاء والظلم والاستغلال ، وغيرها من النقائص التي أصبحت عادية جدا ، وكأنها عادات وتقاليد وقواعد التحضر الجديدة. كان هذا مقتطف من كلمتي التي أُعجب بها بعض الحضور الذين لاشك أن غفوة رحلت بهم هم أيضا إلى العلم الحقيقي للمرأة المغربية ، كما عرفتها عن قرب في حينا الشعبي فاس الجديد ، والتي لا زلت أتذكر إبتسامتها البريئة .