مذهل هذا التاريخ الذي يعيد نفسه مراراً ، ويكرر الأحداث والأسباب والنتائج والوسائل والاستراتيجيات المتشابهة وحتى وجوه صانعيها ، والأكثر إدهاشا ، هو كيف لا يتعلم الكثير منا من ذلك التكرار الممل للمواقف والخبرات التي يمرون بها، الشخصية منها أو المتعلقة بتجارب الآخرين ، والتي كان من المتوقع ، بل ومن المفروض تأمل مساراتها وتدبر نتائجها والاتعاض من تداعيلتها ، سلبية كانت أو إيجابية ، والتزام تدابير الحيطة والحذر حيال مغباتها عند كل تفكير في المغامرة في تبنيها كبدائل وحلول للمشاكل أو لاستشراف الاختيارات و تحديد الاتجاهات والمسارات ، الخاصة بالشخص ذاته أو المتعلقة بمسارات غيره ، أفرادا أو جماعات أو مؤسسات، والتي قد يُعرِّض الإستخفاف بجدواها للتردي المادي والمعنوي ، وفقدان التوجه المنهجي الرشيد لأي عمل ، وخاصة إذا تعلق الأمر بالعمل الحزبي الذي لم يكن في العهود السابقة مثاليا لدرجة الكمال لأنه لم يكن موضوع الثقة مطروحا، لأن الأخلاق كانت مختلفة عن اليوم ولا تسيء للحزبية ولا تفسد مزاج الحزبيين ، ولا تضع أحدا منهم موضع الشك والإتهام. صحيح أن معاملات الأخذ والعطاء وتبادل المصالح والمنافع في العمل الحزبي على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، لأمر هام ولا غنى للمتحزبين عنه لما له من قدرة على تقوية الجبهة الداخلية لأي حزب وتحقيق تماسكه وتكامله وأهدافه ومبتغياته ، التي تتطلب الإستعانة بالكفاءات الأجنبية والترحاب بمكاناتهم ومقدراتهم المادية واللوجيستيكية ، لكن اختيار المتعاونين الجدد -رغم نبلها وسموها وضرورتها – تفرض الحذر كل الحذر من ظلمة الغفلة وضلالة الجهالة ، وغباء التدبير ، وعماء التدبر وعدم الاعتماد على الأفكار الجاهزة المبنية على الشعبوية والمناولة الساسوية ، والاستعانة بنور العقل ، ووعظ الحكماء ، ونصائح الأصفياء . ولخطورة الأمر لابد من التفكير واطالة التفكير وتعميقه قبل الإقدام على التعامل مع الأغراب في جميع قضايا الأحزاب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وإعادة النظر فيه ، إن هو حدث ، دفعا للخطر الذي قد يصبح أكثر إمعانا في الضرر والإيذاء الذي يضطر المبتلى به ينشد متحسرا مع الشاعر بقوله:
وذنبي بأني رسمت الحية بطيبة قلبي وظني الحسن تعلمت حين تألمت منها ومن راحتي قد جفعت الثمن كما هو حال بنعلي الأمين العام لحزب الجبهة وقضية إلتحاق شباط بصفوف الحزب ، الإلتحاق الذي سرعان ما تحول إلى كابوس يهدد مركز بنعلي على رأس حزب المرحوم التهامي الخياري ، بما ترتب عن تلك الخطوة المتهورة من تكسير العظام بينهما وما وأثارته من ثرثرة وضجيج ردود الافعال من سيء الآثار على سمعة الحزب وتماسكه ، التي حمَّل بعض أطره كامل مسؤوليتها للأمين العام بنعلي ، الذي نعت بعضهم المتفائلين فعله بالجرم وعدم صون الأمانة ، بينما ذهب البعض الآخر بعيدا بتسمّيته “خيانة” لا يقع فيها إلا غافل أو جاهل أو من لا يقرأ وقائع تاريخ الأحزاب والواقع التي عاشتها بسبب نزاعات العصبيات القبائلية والعشائرية وأعراف المبايعات المذهبية والايديولوجية وذهنيات الاتجار الرخيص بالمبادئ والقيم والمثل العليا ، والتي تفرض نفسها بالاستذكار لأخد الحيطة والحدرمنها ، الأمر الذي لم يعره للأمين العام لحزب الجبهة أي اهتمام، والذي لم تترك له نتائجه من خيار غير الرد بما يناسب ما استوجب الضرر والوقاية والعلاج منه ، أي القوة القادرة على استئصال علة الفكر التقليدي البسيط وتقنياته الماضوية العتيقة التي تعامل بها مع القضية ، التي غذتها نزعة الاستعلاء والهيمنة المتحكمة في الطرفين المتنازعين –شباط وبنعلي- وما جرته على الحزب ومناضليه من ويلات الصراعات الأيديولوجية الانتفاعية الرخيصة المشرعنة للسيطرة المطلقة على الكائنات والموجودات والأشياء الحزبية ، وتشييء وعيها وتحويل الإنساني فيها إلى غرض من أغراض الاستهلاك والاستغلال والاستعباد، التي تدار كالآليات الإنتاجية الاقتصادية المسلوبة الكرامة المنزوعة الوعي ، السلوك البعيد عن قواعد التشارك والتراضي أو ما يدعى بالعقد الاجتماعي الذي تدخل ضمنه قوانين العمل الحزبي الضامنة لبقائه واستمراره بدون تعسف أو اعتباط أو استبداد- المغلف بنعيم العدالة والمساواة والسلام والأخوة – والتي “القوانين” هي الفصل الأنسب والأضمن والأرقى للفصل في نازلة “شباط وبنعلي” والتي ينبغي على كليهما تطبيقها من غير تردد لقطع دابر خلافاتهما واختلافاتهما ، بالتراجع عن انحرافاتهما السياسية ، قبل أن يجهز تعنتهما على ما بقي من المتنازع عليه في ذاك الحزب وتذهب بريحه ليلحق بمؤسسه الدكتور التهامي الخياري رحمة الله عليه.. أعلم أن الأمور ليست واضحة وضوح التمييز ، وأن الرماديات تظلل وقائع هذه القضية الشائكة التي نشأت وتطورت وتمأسست وتقوننت في الكواليس ، وأصبح من العسر المطلق الحكم فيها بالبراءة أو الإدانة على أي طرف منهما ، ولا يبقي أمامنا إلا التمني والدعوة إلى حوار بناء توافقي متسم بقدر عظيم من الحكمة والاطلاع والبصيرة والحزم والرقي الأخلاقي الذي يعلي صاحبه .