مبدئيا؛ فدوافع كتابة هذا ؛ ما هو إلا إحساس غريب؛ بأنني عِـشت لحظات انفصام فكري واجتماعي ؛ بين ما تلتقطه بصيرتك بشكل متدارك ويومي تقريبا ؛ ففي المتاجر الكبرى أرى وترى ونرى عربات مجرورة من لدن سيدات وأزوجهم من ورائهم يجرون ويلات أيامهم ولكن في راس القليعة صور خاصة؛ وعالم متفرد ؛ عالم ينسج أمامك نصوصا صامتة ؛ ولكنها ناطقة بمشهديتها؛ مشهدية ساخنة ، تحرك خلايا التفكير؛ وإن كانت راكدة ! جامدة ! ميتـة ! مبلـَّدة ! مشاهِـد حارقة ؛ تخترق ما فوق الواقع؛ لتشتته إلى لقطات، لتصيغه كواقع إمبريقي ملموس. ليغتال الواقع الذي يُـرى عبر الشاشات ويسترسل في بلاغة الكراسي النائمة ؛لتعدم التلفزة للغة حية؛ وفي لغة الأمل ؛ وفي منطلقات ميتا ديماغوجيا؛ لقطات شُهبيـَّة ؛ تدحض لعبة ولغة التعتيم أو التلوين أوبلاغة : روائية/ قصصية /إعلامية.
إذن ؛ فأي مسؤول كيفما كان مستواه الفكري / الثقافي/ الوظيفي/ الأسري/ الإجتماعي/الإرادي/ لو تكرم وزار زيارة خفيفة ؛ إلى فضاء ( راس القليعة ) المتاخم لباب الحمراء التي كانت تسمى باب الجيزيين؛ والمطل على ضريح سيدي علي بوغالب جنوب منطقة باب الفتوح. سيعُـود لعشه أو لشقته أولفيلاته مريضا ؛ بأمراض يصعب مولانا ( السكانر) تشخيصها واستخراج (كليشيهات) المرض ؛ وبالتالي سيرحل وسيهرب النوم من عينيه ؛ وستتصلب شرايين عروقه ؛ ضغطا ؛ وقلقا ؛ بين (راس القليعة ) و( الواقع ) الذي يسمع عنه! وبين الواقع الذي يتدحرج في فلكه. وواقع راس القليعة ! بحكم ما سيرى ( فيه ) ما لا يرى إلا ما كان في أفلام المجاعة والأوبئة والفقر المدقع ؛ وعوالم المستضعفين وخاصة تلك الأفلام الروسية التي جسدت وقائع بؤس1921 .
مَـشاهـد خـَارج المشهد:
إذ هاهنا لا نبالغ ؛ بأن (راس القليعة ) فضاء يجسد عيانيا التهميش بأبهى مشاهده ؛ ويكشف الإقصاء الممنهج خارج المشهد ! تلك ( راس القليعة) عالم يجسد بالملموس البؤس واللاحياة ؛ لرواده ومريديه والمقيمين فيه ؛ محيط يفرز صورا سوداوية وأكثر قتامة من الأسود ذاته ! (راس القليعة) التي ولجت صفحات التاريخ عبر الفرجات والمسامرة والطوائف الدينية والموسيقية وبيع عشبة الكيف علنا؛ قبل إصدار قانون منعه ؛ لقد أمست تحمل مشاهد العفـن والأزبال والبطالة والصعلكة بين أسوار المقبرة ودور القصدير وحوانيت الحلاقة والخياطة وصانعي الأسنان في علب القصدير؛ إنها مشاهد خارج المشهد لشرائح أكثر من هشة أو فقيرة بل في الأصل شرائح ميتة منذ عقود خلت ؛ أو بعبارة أكثر دقة ؛هي شرائح كادحة ، مطحونة ! شرائح الحضيض ؛ بالكاد هي خارج التصنيف! وخارج المشهد ! لأنها مقتولة ؟ فمن القاتل ياترى ؟
هنا لو تكرم دعاة الثقافة وأرباب القلم المنخرطين في منظمات ( ألف/ باء) وفي اتحادات( الجولات والنشر) بجولة في راس القليعة ، ليمنحوا لنا جوابا شافيا؛ جوابا يمتلك حالة التلبس عن السؤال؟ من خلال هذا السوق المنتشر على الرصيف والمدرجات التي تشبه وصوره التي تحمل أناسا يتحركون ؛ يتكلمون؛ يساومون، يتبايعون، يتقايضون، يتلاسنون ، يتفاوضون، يتعاركون؛ لكنهم معْـدومي الدخل بالمرة ؛ فاكتساب (درهم أو درهمين ) يعتبر صيدا سمينا؛ لا يمكن أن يعوض ربما غـدا !؟ أما اكتساب ((20 درهما )) تلك قمة السعادة والبشرى له ؟ !؟ فالذي يطوف ليلا بين القمامات والقاذورات يبحث وينقب في الأزبال والأوساخ ؛ على ما يمكن أن يباع بأثمان زهيدة ؟ فذلك مكسب له ولكنه تافه لجهوده المضنية ؛ جهوده لا تصنف حتى في الحرف غير المهيكلة، فهل القارورات الفارغة والعُـلب القصديرية والمسامر المستعملة سلفا ، و كتب قديمة وإكسسوارات وأدوات الصباغة خارج تاريخ الاستعمال و أدوات البناء صدئة و مفروشات تفوح منها روائح كريهة وبعضها ممزق و أجهزة كهربائية والأحذية المثقوبة والمخرومة من كل الجهات والأواني الصدئة والمنخورة بالثقب وعلب خيط الخياطة وملابس ممزقة أو تجاوزها التاريخ ؛ وملابس قديمة كأنها أسمال و لعب الأطفال ومتلاشيات أكثر من مكسورة للألعاب إلكترونية ؛ ومستلزمات الحاسوب وطواقم للأسنان والحليب ومشتقاته ( هنا لا نبالغ؛ بل ما رأته العين وسجلته الذاكرة ) حتى من بيع الخليع ( اللحم المجفف) وووو ؟ فكل هذا وغيره يُعرض بأثمنة رخيصة جدا ؛ لأنها تـعَـد سلعا للبيع. !! إنه لأمرغريب جدا و يحير الذهن ؛ بحيث كل ما لا يخطر على البال يباع في( تلك) راس القليعة ! والأغـْرب أن هناك/ هنالك أناس من مختلف الأعمار يساومون ويتجمهرون على أشياء مآلها الأزبال بدون تردد ! بالتأكيد هنالك بشر يقتني ما لا يستحق أن يقتنى ! ليس من وجهة نظري؛ بل من طبيعة الأمور و منطقية الأشياء ؛ وإن كان أغلب الباعة والمرتدين على (راس القليعة) من الفئات (ميتا هَـشة) و محدودة الدخل. يطرح السؤال: لماذا ؟
هنا لو تفضل فـقهاء السوسيولوجيا والأئمـة السوسيوسياسيين ؛ وعلماء الديماغوجية بجولة هنالك ؛ ليطنب البعض خطاباته بأن الفقر ظاهرة مجتمعية والبعض الآخر يحشوا أبحاثه الجليلة ؛ والتي هي خارج طبيعة المجال والإطار؛ لأنها ستكون محشوة بنظريات: (ماريز بروسون /BRESSON Maryse )أو (جورج زيمل/George ZIAMAL ) تجاه ظاهرة الفقر والهشاشة ؟ أوبنظرية (أوسكار لويس) أو أفكار (بيير بورديو/ PIERRE BOURDIEUX) لنقرأ ما يلي[… إنه التفاوت الحاصل في ….ما يرتبط ببعد الانتماء الطبقي….نسبية هنالك ترابط الفقر بمتغير الطبقية والمجال… إن الرساميل الرمزية…..كما تبلغ احتمالية أن يظل الفقر في سنة ؟ في نفس الوضعية سنة ….. ؟ …. وبناء عليه فالفقر المادي يوازيه دائما تفقر اجتماعي.…. فإن معالجة الفقر ليس بالشيء الهين في سياق الأزمة الصحية …إنها طبقة اجتماعية يحكمها ذوق يؤطر سلوكها في مختلف وضعيات الحياة …. إذ أظهر التحليل الاقتصادي القياسي أن …..والملاحظ إمبريقيا بأن الفقر الذاتي يطال جميع الطبقات الاجتماعية ….ولكن لامناص من التماسك الاجتماعي والمجالي عبر محاربة الفقر والهشاشة ومكنزات الإقصاء… الإحصائيات تشير بأن الفقر في أمريكا / برازيل … متفاوت ومتفاقم عن راس القليعة…عن درب غلف…عن الهراويين….عن فكيك…عن جرادة…وووو] هكذا هي أبحاثنا؟ وهكذا ندواتنا وما يروج في الموائد المستديرة؟ فهل يعقل هنا ممارسة خطابات ومداخلات وتحليلات وإدخال أفكارمن فوق الكراسي الفاهِـرة ! وإقحام نظريات غير ملائمة وتفسيرات غربية بعيدة كل البعْـد عـن السياقات والأنساق التي تعيشها (راس القليعة )؟ فمشهده الحركي وأشياؤه المعروضة هي خارج الهشاشة أو الهشاشة شديدة. ومن الصعب كذلك تصنيفها حتى في خانة الفقر المدقع .
مشهد داخل المشاهد :
لأن تلك المفاهيم والتفسيرات والأفكار باطلة راهنيا ومستقبليا، فحتى مكتبة العالم عبدالكريم الداودي التي تطل شامخة على (راس القليعة ) والتي تعتبر مشهدا داخل المشاهد لا تجدي نفعا أمام بؤسها ولآهات روادها وزفراتهم.
لأنه مبدئيا ليس هنالك مفهوم للطبقة بالمنظور السياسي ولا الاقتصادي ؛ بل لدينا شرائح متداخلة تارة ومتنافرة مرات . وفي كل شريحة جماعات وفي كل جماعات فئات؛ وبالتالي ف(راس القليعة ) في الحقيقة ليس سوقا للمتلاشيات بل هو نموذج لصورة للمستضعفين في الأرض؛ لكادحين تلاشوا من قهر الزمن؛ وبؤس الواقع . بؤس يخيم على وجوه مرتاديه وباعته ؛ الذين أغلبهم نساء/ فتيات/ أرامل/ مطلقات/ يعانين في صمت ويقومن الهشاشة بصبر يتجاوز صبر أيوب . فلتنزل تلك الجمعيات التي تحتفل باليوم العالمي للمرأة؛ وتطالب بحقوقها ( لـغـْو المجالس البورجوازية) ل ( راس القليعة) لترى حقيقة ( المرأة ) التي تفترش الأرض لتبيع التافه من الملابس والأفرشة ؛ من أجل أبنائها اليتامى أووالِـدَيْن عاجزين عن العطاء وبدل الجهد.؟ أو من أجل زوج معتقل أو طريح الفراش ؟ أو من أجل سداد كراء غرفة مع الجيران أو من أجل شراء أدوية لأمراض مزمنة أو…إنها مشاهد يتحرك فيها العوز والفقر المدقع بألوان غير معتمة ؛ ولا مونتاج للتعتيم ؛ وبالتالي فمسألة معالجة الفقر لا تستدعي استخدام مقاربات مبتكرة قصد استهداف أحسن في إطار برامج محاربة هذه الظاهرة ؛ بل جوهر الموضوع القضاء على الفقر .لآن الظاهرة ناتجة عن خيارات سياسية واقتصادية خاطئة مماعمّقت الفوارق الاجتماعية، وزادت في نسب الفقر والبطالة والعطالة . فالإجراءات لا ترتبط بلغو الكلام والدراسات؛ بقدر ما ترتبط بما هو عملي ؛ تطبيقي : فلماذا لا يتم إعادة تشغيل مئات المعامل التي أغلقت لأسباب مجهولة ؟ فلماذا لا يحاول دعم ودفع بالصناعة التقليدية قـدما؛ من أجل العيش الكريم وليس للسياحة ( فقط) لآن أغلبية بائعي ( راس القليعة) كانوا صناع تقليديين ؟ ولاسيما أن ضعف الإنتاج له أثر سلبية على القدرة الشرائية للمواطن ؛ وبالتالي فلما لا يتم تطبيق العَـدالة الإجتماعية في الإنتاج والعطاء وصدق الفعالية ؛ وتخصيص صندوق الانماء الاجتماعي. لهاته الشريحة المتمركزة في ( راس القليعة) ؟ ربما هاته أوهام نسجْـتها عبر الورق؛ لتبقى (راس القليعة )هي تلك ( راس القليعة) …..