لقد وصف العالم الطبيعي “ماكس بلانك” عملية التفكير العلمي بأنها جهد مستمر لنزوع كل العناصر الأنتروبولوجية الذاتية وإقصاؤها، أي علينا أن ترحل من كينونة الإنسان إلى كينونة الطبيعة من أجل فهم أسرارها وطبقاتها، وهنا يطرح السؤال هل بالإمكان تحقيق هذه الوصية؟ أم أن الظاهرة الطبيعية هي ظاهرة مادية؟
فإذا كان علم النفس قد عرف تطورا مهما، ولكن هذا التطور لم يجعله مستقلا بأدواته، بل ظل مرتبطا بالتيارات التجريبية وبالذاتية مما يجعلنا بإمكانه تطبيق المنهج التجريبي في دراسة الظواهر النفسية وهذا ما يمكن تسميته بالاتجاه الوضعي، الذي تزعمه واطسون وتورندايك، فقد اعتمدا في منهجهما اتجاها سلوكيا مرتبطا بالمثير والاستجابة، ولكن هذا التيار انتقد من طرف المعارضين لها، باعتباره تيارا مثاليا رغم اهتمامها بالطابع التجريبي، ومن بين هؤلاء نذكر وليام جيمس، حيث يؤكد على جعل الإنسان مرتبطا بالاختيار والإرادة الحرة بالمفهوم الفلسفي، ولهذا بدأ التفكير في الابتعاد على العلوم التجريبية وشطحاتها كما هو عند برجسون، لهذا ظهر على الساحة الثقافية، الخبير النفساني فرويد الذي بعج طريقا جديدا سماه “بالاشعور” وكذلك التيار الجشطالتي الذي يتجنب العوامل الذاتية في الإدراك، حيث ينطلق من البنية الكلية، وأيضا الصيغة. لكن رغم هذا التطور العائد في البحث، يظل المنهج والأسلوب عقبة أمام الدراسات النفسية، فهناك كما قلت من تبنى المنهج الوضعي، أو المنهج الماركسي، الفارقي وهناك من اتخذ البعد الحيادي كنموذج جديد لمعرفة نفسية الإنسان سواء على مستوى إجراء الروائز القياسنفسية أو الاختيارات الإسقاطية، فهذا التيار يبعد كل الآلات من أجل التعامل مع الإنسان كذات ووعي لا كشيء ثابت، فرغم هذا الاختلاف فلابد من التوافق بين هذه التيارات كما يقول لاكاش، لأن العودة إلى تاريخ علم النفس، هي عودة إلى الفلسفة التي كانت الأرضية الأولى التي ناقشت النفس والجسد والأخلاق، والسياسة، والحرية، فيعتبر أفلاطون أول من فكر في النفس واعتبرها مصدر الصدارة في كل تفكير فلسفي وإنساني، فهذا الخطاب أصبح هو المحور سواء في جانبه المعرفي أو الأخلاقي أو الوجودي، فجل هذه المفاهيم كانت خاضعة للحقل الفلسفي التأملي، بينما أن خطاب علم النفس ينبغي أن ينطلق من الذات / الجسد، مرورا بالنفس ومنتهيا إلى العقل، لأن مفهوم الاستبطان كدراسة الشعور وبعده الفيزيولوجي، هو ما جعل ديكارت يفصل بين الجسد / والنفس باعتبارهما جوهرين متمايزين، فأصبح الإنسان هو الناطق، والواعي، والراشد، والكاشف عن أسراره رغم وجود الرقابة الذاتية والمجتمعية، لذا يرى صاحب كتاب “علم النفس في مئة عام” أن هذا التيار رغم وجود فروعه من الفيزيولوجيا والتجريبية والتطورية، فإنه ولد حرا سواء من ناحية المفاهيم أو من ناحية التوظيفية[1] لكن المنهج المطبق يظل خاضعا لمعايير العلوم التجريبية كما ذكرت، لأن علماء الفيزيولوجيا أو علم الحياة، أو الأعصاب كمولر الذي درس الطاقة النوعية للأعصاب، ثم بروكا، وهيلموتر، وبياجي وريش، فهذه الاستقلالية التمهيدية جعلتني استحضر كتاب عناصر السيكوفيزيقا لأنه عبارة عن غياب منهج دقيق لعلم النفس رغم تأسيس مختبر لهذا العلم سماه مختبر “علم النفس التجريبي” لأنه سيكولوجي وثانيا اهتم بالتجريب الحسي والحركي، وكذا البعد الوجداني والذاكرة[2]. ولقد بين ألفريد بينه في دراسته للذكاء، معتمدا على معطيات الشعور والإستبطان (أي ما يبوح به الإنسان من خبرة واعية وشعورية لكن هذا الشعور قد رفض من القصديين أو السلوكيين، معتبرين أن اللاشعور هو الأساس والجوهر لكل معرفة بشرية، لكن الوجودية بدورها ترفض هذا النقد لهذا الشعور، حيث ترى أن المقاييس الجديدة المستخدمة في ميدان السيكولوجيا هي مقاييس تجريبية ورياضية، لأن كلها تعمل على تجريد الإنسان من أدميته وهذا ما ذكره كارل ياسبرزو جان بول سارتر، ويرى جورج فلوجن في كتابه “علم النفس في مئة عام ص 158 أن السيكولوجية بدأت فلسفة وانتهت بالتعديل المنهجي التجريبي وذلك على ضوء التأملات الفلسفية القديمة والحديثة، لذا ساد التطاحن واختلفت الأحلاف والمذاهب، وبدأ التصارع بين هذه الاتجاهات كالاتجاه البنائي والوظيفي والاتجاه الجيشطالتي في مقابل الاتجاه الترابطي / والاستبطاني / مقابل السلوكي والآلي / الغائي والشعوري / اللاشعوري، فرغم هذه الثنائية بقي علم النفس خاضعا للعيادة إلى يومنا هذا، نظرا للخبرة التي يتمتع بها الباحث النفساني والدراسة المعمقة التي يكتشفها عن مرضاه سواء على المستوى النفسي، أو الذهاني، أو الهستيري، وغيرها من الاضطرابات العاطفية والانفعالية والمعرفية، لذا تنوعت القراءات وتعددت التيارات النفسية، كالتربوية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، والقضائية والمدنية وغيرها من التيارات، لأن الحياة النفسانية لا يمكن فهمها بالكلمات ولا ملاحظتها بالشعوذة والرقية، بل لابد من زيارة الطبيب النفساني، فهو العارف والراسخ في هذا البحر، لأنه يملك ترسانة معرفية تناقض المعرفة الطبيعية التي تستعمل من طرف الطرقيين والصوفيين، والحرافيش، والفقهاء وحراس الجهل المقدس، إذن لا بد من الفهم العميق للحالات المتعددة في واقعنا العربي والأسيوي، لذا يتحدد المجال العيادي الطبي بقوانين علمية يعطيه شرعية البحث والتطبيق مع إظهار فردانية متميزة كما هي في الواقع، فهذه الأهمية هي عبارة عن مادة معرفية أولا، وثانيا مسألة منهجية التي يطرحها الطبيب النفساني لمعالجة المجانين وغيرهم من أصحاب العقد والاضطرابات النفسية، لأن علم النفس هو الدراسة العلمية للسلوك والتفكير لدى الشخصية بأنه عبارة عن دراسة علمية لسلوك الكائن العاقل والواعي، حيث يهدف الباحث النفساني إلى فهم هذه السلوكات من أجل التنبؤ بها والتحكم فيها، لذا فهذا الباحث الذي يملك الدراية بعلم النفس التجريبي، والعيادي والفيزيولوجي، والنمو الاجتماعي والتنظيمي، لذا فالصحة النفسية هي الرفاهية التي يحتاجها الإنسان المعاصر، تكون خالية من الاضطرابات العاطفية والسلوكية، فهي التي تسمح له بالاستمتاع بالحياة أولا، وخلق توازنا بينه وبينها ثانيا، فرغم تغير المعايير المجتمعية فلازلنا مربوطين بالمحاكاة، وبالخرافات، لأن هذه المعايير الماضوية هي إساءة للمجتمع، وللأشخاص، لذا يتطلب تحقيق مرونة أخلاقية ونفسية لكي تواجه مشاكل حياتية كصعوبات في التعلم، والإدمان، والمصاحبة وقصور الانتباه والمزاج، لأن الحفاظ على الصحة النفسية هي بمثابة الحفاظ على المجتمع والأسرة، والفرد، فالشعور بالفرح مثلا هو شعور شخصية وهي طريقة تعتمد في تعميمها على قدرة التواصل مع الجماعة بلغة وإيقاع متماسك، فالإنسان في صراع دائم مع الحياة فهذا الصراع هو الذي يدمر إنسانيته، لأنه يعيش في عالم التشظي والانفصام والتشتت، لذا يحاول علم النفس أن يستنطق ما يختلج في أعماقه لأنه وحده هو من يمكن أن يظهر لنا الواقع المشحون بالاضطرابات وبالمواقف الصحية والآلام المتوالدة بشكل مستمر[3].
إن قراءة علم النفس عبارة عن عتبة عليا التي من خلالها نستنطق الذات، ونستغور كل المشاعر الدفينة من خلال إمكانات معرفية وتجريبية من أجل مسايرة روح العصر، وذلك بعمق معرفي تصاحبه المراقبة لكي نؤسس للذات خبرة ولمسايرة الحبكة الزمكانية بلحظات موسيقية سحرية، وبمؤثرات صوتية عذبة من توقيع هذه الأنا المتكلمة أو المستمعة، هكذا أقول لا ينبغي أن ننقل الواقع كما هو على خشبة المسرح اليومي، بل الهدف هو الوصول إلى السعادة والفضيلة الأخلاقية، لأن علم النفس هو الذي يسمح للإنسان أن يغير الآخر وقال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
لذا ينبغي على المربي التربوي والفاعل السياسي والجمعوي أن تكون له دراسة بعلم النفس التربوي التواصلي، لكي يكون فاعلا ومنفعلا في المجتمع، وهذه الصيغة الجشطالتية منحت لهذا الفاعل خبرات وقوانين التي تحكم هذه الأشكال، لأن هذه الظواهر النفسية هي عبارة عن وحدات منظمة لا تقف عند الحاجة، بل ترتبط بالدوافع اللاشعورية التي تؤثر في فهم الشخصية، ولا يمكن تفسيرها على أساس شعوري فقط.
فإحساس الإنسان بالألم وبالفرح مرتبط بما يحدث خارج الذات وداخلها في تفسير السلوك، لذا ينبغي النظر إلى الاستجابات الحركية والحسية باعتبارها سلسلة متلاحقة ومترابطة بين الجهاز العصبي، والأجهزة الأخرى كقانون التماثل، وقانون الترابط[4] والمؤثرات البيئية، لأن هذه المؤثرات هي الحافز الفيزيولوجي، والنفسي والاجتماعي الذي يساعدنا على تجاوز كل المآسي الماضية المرتبطة (بالعادات، التقاليد المشعوذة، الرقية، الولي، السيد، الأساطير …) كلها تتكون من أصوات وتصورات غير متمايزة تجعل الذات المصابة خاضعة للعزلة والقمع، والهيمنة دون معرفة عللها ولا تكوينها العضوي ولا النفسي، لذا آن الأوان لنقول أن التنمية النفسية قادرة على تجاوز كل هذه المؤثرات الماضية المستلبة لكي تبني ذاتها ونفسها بوعي ثقافي وبعلاج نفسي سلوكي[5] ومهما يكن من أمر لقد كتب هذا المقال من أجل إعادة النظر في هذه الذات، محاولا طرح العديد من القضايا التي لازال علماء الاجتماع، والنفس والأنتروبولوجية، والأركيولوجية والفيزيولوجية، والسلوكية والبنائية، والوظيفية، لم تستطع تشخيص هذه الظواهر الإنسانية الغير السوية باستثناء بعض الباحثين المغاربة والمشرقيين الذين فككوا هذا البعد النفسي المركب كعبد الرحيم العطري، وعبد الصمد الديالمي، ونوال السعداوي، وعبد الله إبراهيم وفاطمة المريسي هم الذين استجلوا الأسباب الكامنة وراء هذه الظواهر الإنسانية المغربية الغريبة، مستعرضين الاضطرابات المرتبطة بهذه الذات، وهذا الجسد، مع رصد بعض الأسباب العلاجية وكيفية مساعدتنا على تجاوز هذا، لذا لابد النزول من القمة إلى القاعدة لنعرف لماذا هذه الأمراض النفسية؟ هل هي أسباب عضوية؟ أم هي أسباب سوسيوثقافية؟ أم هي تأثيرات العولمة؟ أم هناك عوامل الوراثة التاريخية؟ أو هي تعود إلى الأنظمة الحزبوية والسياسية المتبعة من طرف الأجهزة الحاكمة؟
أسئلة كثيرة ومتنوعة لازالت مبثوثة في تربتنا العربية، تسمح لنا بفك ثغرات الظواهر الإنسانية التي قد تبدو متباعدة عنا، ولكنها متقاربة منا، نظرا للأبعاد الخارجية والمواقف الغير التواصلية التي تؤثر في مختلف الإنتاجات والإبداعات، لذا فالظواهر الإنسانية هي واسطة بين الحلم واليقظة، وبين الحياة والموت، حيث تظهر لنا الرغبة من خلال المواد، والسياقات والمؤسسات الثقافية، والمعطيات السياقية التي يتعذر علينا القبض عليها، كالكبت والفكاهة، والسحر، لأن معنى التطبيق النفسي مدعو إلى التدخل في جميع المجالات لمعرفة ماهية الذات وبعدها الأكسيومي والتقنوي والفيزيولوجي.
فالقراءة البصرية والعضوية والباطنية لهذه الذات تتطلب معرفة، ودربة وممارسة تجريبية، من أجل رؤية الجرح الثالث الذي أصاب حب الإنسان لذاته[6]، ولغير ذاته، لذا لا يستطيع أن يعيش الإنسان لذاته في غياب الآخر فلابد من التواصل، والتآزر، والإخاء من أجل بناء قارة إنسانية.
[1] – بول فريس، علم النفس التجريبي، ترموريس شربال وميشال أبي فاضل، ص: 36.
[2] – بول كونترون، “كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة – ترجمة علي فرغلي، سنة 2016، ص: 13.
[3] – إيذاء الذات، ترجمة حسن مصطفى عبد المعطى، ص: 66 – 67.
[4] – أنس محمد، مقدمة سيكولوجية اللغة، مركز الإسكندرية للكتاب.
[5] – فيصل محمد خير الزراد، العلاج النفسي السلوكي، دار العلم للملايين، ص: 215 – 216.
[6] – جان بيلمان نويل، التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، ط 1، 2018، كنوز المعرفة.