الجديد بريس / نجيب طلال
ترددت بين الكتابة واللاكتابة ،لهاته المقالة ، وذلك من خلال السؤال: ما أهمية إحساسات خاصة؛ في ظرفية خاصة ؟ في وضعية استثنائية ؟ وماذا سيستفيد ذاك القارئ المفترض من تلك الإحساسات الخارجة عن إحساساته ( ربما )؟ لكن في سياق الاحتفاء بمظاهر عاشوراء : الذي هو اليوم العاشر من شهر ( محرم الحرام ) عزمت على القول التالي: بعد زال يوم الجمعة فكرت النزول للمدينة القدية ( فاس) لكي ألامس عبق التاريخ بهدوء ، بعيدا عن الحركة وتداخل الأصوات بين الباعة والمتبضعين وأصحاب الدواب. ولكي أعيش نشوة الامتلاء من الفراغ ، فـَراغ الأحياء والأزقة من الباعة والتجار وازدحام المارة والسياح وفراغ من وسائل النقل التقليدية ( الحمير) تلك الكائنات التي تساهم في نصف اقتصاد المدينة القديمة؛ من حمل البضائع بشتى أنواعها التقليدية أو الصناعية ونقلها من هنا وهناك؛ وفعلا إبان ولوجي منطقة ( الرصيف) إلا وتصادف الإغلاق الشامل للدكاكين والحوانيت والورشات ؛ وهنا يعتريك إحساس خاص ؛ منطلقه التردد ومنتهاه الارتباك؛ وبينهما الخوف ! مما تخفيه تلك الأزقة الملتوية من شرور؛ رغم قناعتك يأن اليوم يوم عطلة الدينة القديمة؛ لكن يحدوك شعور بأن المنطقة في حالة الطوارئ من المنظور الحربي أو الاستعماري !! ومنطلق المشهد استرجع بي لما عاشته الجزائر إبان صعود جبهة الإنقاذ والصراع الذي اسفر عن دموية التسعينيات من ( ق، م) بحيث يوم الجمعة الإغلاق الشامل؛ في غرب الجزائر كلها إلى حدود مدينة ( تيزي وزو) الأمازيغية ؛ بحيث لن تجد ولودكانا يمدك ب(كازوزة ) لتروي عطشك ! حتى المقاهي؛ هي مغلقة ولكن بعض منها ؛ كانت تبيع المشروبات للزبائن؛ كأننا في سوق ( السوداء) ليشربوها على قارعة الطريق؛ أما الحانات فـبعضها أصيب بهجومات حادة؛ دفعتهم لإغلاق طويل المدى ؛ تذكرت هذا وغيره ؛ ونحن نتأمل ساحة الصفارين فارغة / هادئة/ كأن الطير جثم على مشهدها؛ لا صوت “المعلمين ” ولا هرولة ” الصناع” ولاتصلية على النبي ولا قرعا لصفائح النحاس؛ قبل أن تتشكل أواني وخلافها ؛ لكن الملاحظ لست الوحيد الذي سيمر إلى جامع القرويين أو إلى ( البليدة) بعْـد تجاوز ساحة الصفارين؛ بل هناك سياح كثر؛ أرادوا الاستمتاع بالفراغ الممتلئ بسحر المدينة في جولتهم وفي صورهم؛ مقابل هذا: وهذه حسنة من حسنات مديرية الأمن الإقليمي؛ بحيث بين كل الأزقة رجال الشرطة بشارتهم المعروفة ؛ يراقبون عن كثب أية حركة من حركات الذين يمرون من هناك ؛ وبحكم نسبية الهدوء واعتناق عبير الأسلاف وروحانية الأجداد ؛اكتشفت مسجد (الطلوق) المتواجد بزنقة الحدادين ومسجد (سلمى) بزنقة الدراس المتاخم للعشابين، علما أنني مررت مرارا من هناك: لكن الازدحام سبب حجب مثل هاته الأماكن الربانية؛ وبينما كنت أتأمل ساحة العشابين وقاعتها السينمائية؛ التي انمحت من الخريطة ومن الذاكرة ؟ ودكاكين بيع الطيور؛ ودكان رئيس جمعية مربي الطيور وساحة (المرقطان) ذاك المكان الذي تجتمع فيه مئات النسوة من مختلف الأعمار يبعْـن الزرابي والأثواب والمخدات وكل زينة صالونات الشقق,,, لا أدري كيف انعرجت رجلي إلى أحد الأزقة ، لأجد نفسي أمام ضريح/ مسجد سيدي( أحمد التيجاني) بخلاف العديد من المرات الذي تبركت بفضائه ورحابه الروحانية / الهادئة ؛ في إطار [ سياحة روحية ] وهاته المرة ولجته مسحُـورا عن صوت جماعي؛ صادر من رحاب الضريح. يردد – الهيللة – التي يتم ذكرها بعد صلاة العَـصر من يوم الجمعة لا غير، فبعدما قدمت التحية لبعض مراقبي وخدام الضريح الذين يعرفونني وأعرفهم كأشخاص فقط؛ اتجهت صوب الجماعة ، فجلست بعيدا عنها بأمتار قليلة( لكن) يا لهَـول الجماعة ! خليط من الأفارقة ومغاربة كلهم في لحظة صوفية مائزة و انسجام صوتي بديع ؛ وخشوع رائع ، وتمايل إيقاعي بالأجساد والرؤوس ؛ وحركات التسبيح منسجمة وقافية – الـورْد – فـَقبل انخراطي معهم في تلاوة ما يتلونه من أمداح نبوية / محمدية/ أحمدية/ بدأت أتأمل في الوجوه “محبة ” وذهني يتساءل هؤلاء أفارقة الذين أمامي :هل هم مسلمون أكثر منا ؟ هل هم مريدي الطريقة التيجانية حد الثمالة أكثر منا ومن الشعْـب الجزائري؟ يبدو ذلك ، باعتبار أنهم شغوفين بيوم الجمعة للحضور لعوالم – الهيللة – سواء شباب وشيوخ . إذ يلبسون ألبسة ناصعة وطاهرة ؛ كـأنهم في محفل عيدي ، طبعا تشعر بأنك وإياهم في احتفال صوفي خلاب ؛ وخاصة حينما تنصهر في تلك الجماعة، تعتريك حالة فيسيولوجية متغيرة ؛ تتحول فيها مجريات الدم إلى لغة ميتافيزيقية غير مفهومة ؛ وهنا لسنا بصدد الحلول والارتفاع. لأنه بعيد المنال . بل ذاك التحول الذي تـَفْـرضه الجماعة صوتا / جلوسا/ حركة/ نظرات عيون/ تواصل الجوارح / وهنا يختلط التأثير بالتماهي والتماهي بالنسق والوضعية . لتصبح كثلة كيميائية منصهرة مع الكثل. وهاته الوضعية خارجة عن التفسير والمنطق.
هـنا لا يمكن أن نغفل أو ننسى جَـناح النساء العامر بالإفريقيات والمغربيات ؛ وهذا يلاحظ إبان دخولنا من البوابة الرئيسية؛ التي هي المشترك ؛ أو لحظة مغادرتنا الفضاء الروحاني . والعجيب أن هنالك مراقب من ألطف خلق الله ؛ يراقب أحذية وحاجيات المريدين ؛ ويرشد النساء لمدخلهم . لكن المفارقة الصارخة التي تحتاج لنقاش أعمق؛ ولربما هي التي دفعتي بشكل سري أن أكتب هاته السطور؛ إهداء لكل قارئ .
ففي المدينة القديمة أفارقة متخلقين ومتأدبين وروحانيين حتى في مشيتهم وتحياتهم للآخر، وأغلبهم من طلبة علوم القرآن والشريعة ؛ مقابل ذلك ؛ أفارقة منتشرين في المدينة الجديدة، بشكل مريب ! ومؤسف ! ومخيف ! يفترشون الترى ويعيشون متشردين؛ وكلهم وكلهن يتسولن في مفترق الطرق وقرب إشارة المرور؛ طبعا هنالك تعاطف معهم حسب ما يلاحظ وما نصادفه تقريبا يوميا . ومن خلال هاته المفارقة؛ هل أفارقة فاس البالي من عيلة القوم ومن أغنياء بلدانهم ؟ وأفارقه المدينة البيضاء فقراء متشردين هاربين من الفقر والمجاعة والحروب القبلية والعشائرية ؟ ممكن ! ولكنني أعرف العديد من الأفارقة مريدي الطريقة التيجانية؛ ويحضرون مواسمها؛ وهم يعيشون ظروف قاسية ومزرية في العديد من المدن الفرنسية ؛ وخاصة في باريس بحي( باربيس)…..