المعذبون في الارض

الجديد بريس 

” الفنانة ” الجليلة دنيا باطما في حفل فاخر تغني أغنية ” الحلاوة فين كاينة ” ويتابعها الملايين، لباسها أيضا بالملايين، و إكسيسواراتها كذلك بالملايين. دنيا، على غرار ” الفنانين الأجلاء وهم كُثُر منهم العلامة حجيب الرباطي الذي يقطن فيلا فاخرة ويمتطي سيارة فارهة، وقنانة وصوفيا طالوني؛ وكلهم يلعبون بالملايين، بيد أن رجال الجامعات من الباحثين الكبار يقطنون إقامات خاصة برفع الضغط الدموي و تحريك غضب القولون العصبي ولا تتعدي حجم على السردين. المثقف الجامعي لا يمكن إلا أن يملك شقة تؤدى عليها “طريطات ” سنوات من العمر الذي يُستهلك في عذابات الدنيا باسم الثقافة والإلتزام الذي ينتهي إلى الوعي الشقي ؛ واستنادا لكل الباحثين والملتزمين في وطني أهمس إن العلم لا يمكن عندنا إلا أن يكون شقيا، فالعلم الحقيقي يحتكره من يغني ” لحلاوة فين كاينة ” ، وهذا السؤال يستعصي فهمه على كل من قرأ مقدمة إبن خلدون، لأن جيل المحظوظين يعرفون جيدا أن زمن المقدمة إنتهى وأن زمن المؤخرة قد بدأ. زمن يربح فيه العباقرة من أصحاب “إيني حا إيني حاحا ” الملايين ويمتلكون السيارات الفارهة ويقضون الصيف في منتهى اللذة مساء صباحا في أفخم الفنادق بين عطور بلاد الغال ومع رقصات الرشيقات ذوات مقدمات أفضل مما أنتج صاحب العبر وديوان المبتدأ والخبر، بيد أن المثقفين ببلدي في الغالب الأرجح يعانون من فقر الدم بدليل سحناتهم التي تعكس اصفرارا بيّنا و هشاشة العظام لدرجة أن كل أمراض العصر تجتمع لدى فئة هؤلاء المثقفين وخصوصا لدى الأساتذة. كيف لا ومِن الأساتذة من قضى عمرا كاملا في مهمة التدريس ولم يقضي ليلة واحدة في عمره بفندق خمسة نجوم ، وبمجرد هفوة بسيطة تقام له محاكم التفتيش على مقاس الرعب في ظل الجحود بما قدم من تضحيات، فكيف لا ومعظم المثقفين يقضون عطلتهم في شواطيء ” لفوقية ” و ” لعباية ” وسروال قندريسي وزيارة المقهى مرة واحدة في اليوم رأفة ب ” الجِّيبْ ” . هذا زمن وطن نجح بإمتياز في منح التافهين من المخنثين ومن المسترجلات الصدارة في كل شيء حتى أصبحت الثقافة مرادفة ل “الزلط ” والإلتزام مرادف ل “محتاج شي سلف ” . كيف لا والسواد الأعظم من المغاربة لا يعرفون الثقافة إلا بذكر مذكرها ويعني ” الثِّقاف “، ولا يقرؤون إلا ” ورقة ديال الضوء وديال لما ” ثم يعبرون فورا عن غضبهم من ارتفاع تكلفة الإستهلاك، ومعظمهم تحت عنف سياسات التنميط يقدس عبد العزيز الستاتي الذي يغني في حضرة الجمهور الذي يتجاوز سبعين ألف والجميع يهتف باسم هذا ” الفنان ” العظيم الذي كسب لنفسه مكانة اعتبارية لدى الجميع بفضل ” لكامانجا ” التي تحرك عواطف الجمهور ليس بألحان موزار أو باخ بل فقط بلحن لا يخضع لأية قوالب فنية سوى تحريض المؤخرات على الرقص ، وعبد العزيز هذا يقطن فيلا فاخرة وسط ضيعة فلاحية تعادل مجموع مساحات كل أساتذة كلية متعددة التخصصات. و من مفارقات اليومي أن مثل هذه الكلية تقع في عاصمة جهة العقارب و الأفاعي والذباب وأمراض العصور الوسطى لدرجة أصبحنا هنا من دون منافس سكان الجحيم ؛ و عن الراشيدية القرية أحدثكم . كيف لا ودرجة الحرارة تبلغ أحيانا ما فوق الخمسين وكل مطالبنا ضمن المشروع الديموقراطي الحداثي لا تتجاوز سقف المطالبة بشجرة توفر لسكان هذا الجحيم ظلاّ يقيهم بؤس الشمس التي تزيد من عذابات ضحايا الجغرافيا وأراذل التاريخ المناضلون الكبار الذين يفكرون لقضايا الأمن القومي للوطن ، فلا ينامون من أجل الصالح العام ؛ هم الستاتي وحجيب وإيكو ودنيا والقايدة غيثة ودنيا باطما ومّي نعيمة وطالوني وقنانة، وغيرهم من “علماء ” الوطن في منعطف عنوانه مكر التاريخ في لحظة عصية عن الفهم وترتيب المنطق. فيا أساتذة وطني، يا من قرأ لنيتشه ولفوكو ولسبينوزا ولدرويش وعبد الرحمان منيف وأمين معلوف وغيرهم من ضحايا الوعي الشقي تأكدوا أن العقل محنة ، وأن محنة المعتزلة التي أرهقت المفكر المصري محمود إسماعيل صاحب الكتابات العميقة تتكرر الأن حيث إن مدخل المحنة كما كان يؤكد إبن رشد ليس إلا امتلاك العقل في مجتمع سقف انتظاراته إشباع ما بين الفكين وما بين الفخذين؛ لدرجة أن كل المدن بوطني أضحت لا تستقطب غير مشاريع بناء المحلبات والمقاهي والمراحيض العمومية وفق تلازم لازمة “كول وتقهوا و .. ” ، و من أسف هذه حدود التنمية الثقافية في مجتمع لا تتجاوز فيه برامج التهيئة الحضرية إنجاز قنوات الصرف الصحي وربط المنازل بالماء الشروب بمنطق لا يتجاوز أدنى عتبة في هرم ماصلو . إن العقل لا غرو عذاب كما أكد أبو حيان التوحيدي الذي أغضبته استفزازات الغوغاء فأحرق كل كتبه وظل معتكفا يتجرّع مرارة استئساد القطيع واحتقار السلطة للعقل إلى أن مات في الخامس والتسعين من عمره . ونحن هنا لسنا مع فكرة كون التاريخ يعيد نفسه، بل نحن بالأحرى مع تصور نيتشه للتاريخ في معرض قوله إن التاريخ يعيد نفسه أولا كسخرية وثانيا كمكر ؛ وفعلا نعيش لحظة مكر التاريخ تحت عنوان عريض مفادها أننا أصبحنا ضحايا الوجود تتقاذفنا أمواج المكر ونتيه من جراء هوس حزننا الكبير .

لقد تيقنت صادقا أن زمننا ليس زمن الفكر والثقافة والعقل ، بل على نقيض هذا ، زمن تواطأ فيه الجميع من أجل محاصرة العقل والإنتصار لمنطق المعدة وما بين الفخذين تلبية لجوع تاريخي يلازم التجربة الجماعية للأنا الجمعية المتشظية؛ فنحن يقينا أمام كل مظاهر البؤس الممنهج على كل المستويات نعيش لحظة العار التي تجعل الشرفاء يتحملون وجع الإغتراب بين أهلهم وذويهم ضمن سياجات اللهو المتحكمة في كل ضوابط الأنا ، والشرفاء يتحملون عناء التهميش بين جحافل الجياع فكريا و الذين يقفون إجلالا للستاتي وباطما و طالوني ، هذا عنوان المرحلة و ” الله إنعل بو لوقت ” الذي جعل المثقفين أضحوكة وجعل جحافل المنحطين فكريا أصحاب الحضوة والبريستيج . زمن يتلذذ فيه السطحيون ويتمتعون ، ويعيش فيه المثقفون البؤس والحكرة والإقصاء وتجدهم مغتربين بين ذويهم . كيف لا وإعلامنا يستثمر الملايين من مال الشعب في برامج التفاهة الممنهجة كما هو حال إعلام لالة لعروسة وجزيرة الكنز وأفلام تركيا المتخصصة في تحويل المرأة إلى ” كفتة ” متحركة ، وتحويل الرجل إلى نموذج لذكر مكبوت وجاهل وعنيف ، مع موفور تقديرنا للجميع بصرف النظر عن الجنس . هذا زمن تتحقق فيه التحالفات من أجل شرعنة العار وتكريس نمطيةالإستهلاك حتى أن المستشفيات مثخنة بالمثقفين والشرفاء المصابين بارتفاع الضغط النفسي والهيستيريا والمرارة ، في حين أن القيصاريات مملوءة بالمحظوظين الذين نجحوا في الإندماج في قوالب التفاهة وكل ما يملكون لا يتجاوز حدود ” الحلاوة فين كاينة ” أو ” دور بيها يا الشيباني دور بيها $ دور بيها تخدم عليك وعليها “؛ و تخدم عليك يعني ما يعني ضمن نظيمة ” ثقافة ” المعي الغليظ وما جاوره من أمعاء أخرى. لا يجوز إذن الإعتراف إلا بشيء واحد هو أن معظم المثقفين في وطني ماتوا ب ” الفقصة ” أو ب ” الحكرة ” أو بالصمت اللعين وهم يتجرعون كؤوس خيباتهم بصمت قاتل . ومن ٱسف نجحت ماكينة التدجين في تحويل الأسرة إلى حلبة للصراع وجعلها مجالا للتواطؤ بين المرأة والأبناء ضد الأب وفق مخطط جهنمي يرنو تخريب النموذج و إسقاط سلطة الأب باسم الحرية الكَلبية وتحفيز الحرب بين الرجل والمرأة بما يجعل محاكم الوطن مملوءة بقضايا الطلاق للشقاق، أما الخيانات والغدر فتلكم حكاية أخرى تحتاج إلى لغو طويل . كل شيء يوما عن يوم يسوء باسم الفوضى والسطحية وسيطرة الرعاع وهيمنة شمل خاص من مثقفي الهمزة التي جعلت المواطنين مجرد أرقام استهلاكية قابلة للبيع والشراء وفق قواعد السوق البشرية التي تعبد الربح إلاها لا شريك له .

وعليه ختاما ؛ هنيئا لكل من يتقن الكمانجا مثل عبد العزيز الستاتي أو من يثقن لبندير على شكيلة عثمان مول لقعدة ، وهنيئا لكل من تملك الأرداف مثل الشيخة تراكس ، وطبعا لا فرق بين الشيخة والطبيبة والمهندسة ، في سوق ثقافية مضمونها اللحم فحسب هنيئا ألف مرة ، وهنيئا لنا بتمويت المثقف ودفنه حيا. وهنيئا لنا باستئساد نخبة من الإنتهازيين الذين لا يكتبون جملة عن الشأن العام ؛ فيستغلون الدولة فيراكمون الخيرات بتكتيك البحث عن موطيء قدم في مساحة الريع وقضي لغراض، و هنيئا لنا بكل من يقضي عطلته بين ألحان الشطيح والرديح ولهمزة على حساب أهات المثقفين وعذاباتهم .

منقول 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *