وفق مقاييس علم الاجتماع وتعريفه للظواهر الاجتماعية ، لم يكن التسول في المغرب ظاهرة ، و كان مجرد تسول موسمي تتحكم فيه الحاجة والمناسبة ، وعدد المتسولين قليل جدا ومتفرقة هنا أو هناك ، حسب المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية التي يستغل فيها المتسولون العوطف الإنسانية للمجتمع المغربي والحالة الروحانية للمواطنيه المفطورين على التكافل الاجتماعي الذي يؤجج مشاعر الانحياز لكل المتسولين الذين يتخذون من الشارع ومرافقه العامة أماكن لاستجداء الناس ، على اعتبار أنهم الفئة الأقل حظاً والأكثر بؤسا والأ عظم عوزا من عامة المغاربة ، بينما حقيقة الأمر أنهم ليسوا كذلك ، إذ أنهم أكثر فقراء ولا أفضع حاجة ، كما كشفت ذلك بعض الدراسات العلمية المنسوبة لجامعات أجنبية.
ربما يقول قائل : وما الجديد في إثارت هذا الموضوع الذي قيل فيه الكثير حتى غدا مكشوفا لدى عامة المجتمع قبل نخبه؟ ، فأرد بأن غايتي من ذلك ليس التكرار ، لكن التنبيه إلى أن التعامل مع هذه الظاهرة بواقعية، ليس تخلٍّ عن الإنسانية وقيمها ، وان تحكيم العاطفة تجاهها ، ليس في محله أبدًا ، ولا يمكن اعتباره موقفًا إنسانيًا ، خاصة إذا علمنا أن التسول لم يعد يقتصر على المعوزين والمحتاجين ، وتحول- في العقود القليلة الأخيرة – إلى مهنة لها قواعدها وأمكنتها الخاصة، ومؤطروها المحترفون الذين اتخذوا من التسول مهنة قارة من أجل الاغتناء ، ضدا في حكم الشرع الذي يحرم “سؤال الناس” على من لديه ما يكفيه ، وضدا في القانون الجنائي المغربي، الذي يعاقب بالسجن من شهر واحد إلى 6 أشهر، كل من يثبت امتهانه التسول وهو يملك وسائل العيش ،أو بوسعه الحصول عليها بالعمل أو بأية وسيلة مشروعة ،
وإذا عرفنا أن هذه العادة السيئة التي ليست من طباع المغاربة ولا من شيمهم، ،انتشرت في كل شوارع المدن المغربية الى أن أصبحت تعج جميعها بجحافل من تعودوا على ممارسة ، نساء ورجالا ، أطفالا ومسنين ،دون خجل من أحكام الشرع المحرمة لهذه المعضلة الدخيلة على مجتمعنا ، وبلا خوف من القوانين الجنائية الرادعة لها، والحملات الأمنية المكافحة لديوعها ، لما يحققه المتسولون منها من أرباح مغرية على حساب “فاعلي الخير” الذين يلهب عطفهم وكرمهم جشع المتسولين وتهافتهم على “سؤال الناس” رغم حالهم الميسور والأفضل من الكثير من المتصدقين ، ما يصعَّب على المسؤولين الحكوميين والسياسيين مأمورية مكافحة هذه الآفة ، ويجعل مسؤولية معالجتها تتطلب وعيًا وتحركًا مجتمعيًا فاعلاً يقوم على تحمل المواطن مسؤولياته تجاه ممتهني التسول الذين ليس كل من يستجدي منهم عطف الناس ويطلب يد المساعدة ، هو بالضرورة محتاج ، و”دايزا فيه الصدقة” الصدقة التي لايجب التعامل معها من خلال الحالة الروحية والعاطفية ، بل وفقا للقانون ، ووفقا للمسؤولية المجتمعية التي يجب أن ينهض بها كل أفراد المجتمع ، واقعيًا وميدانيًا، خاصة بعدما أخذ التسول القديمة-في ظل التردي المستمر للأوضاع الاقتصادية والسياسية التي عرفتها البلاد مع انتشار كورونا – أشكالاً إلكترونية مستحدثة ، باتت معها شبكة الإنترنت وكافة وسائل التواصل الاجتماعي ، منصات كبيرة للتسول ، والوجهات المفضلة للاستجداء ، والطريق الأسهل للتكسب دون حياء ، تحت لافتة “التسول الإلكتروني”الذي نشط مع انقطاع التواصل المباشر بين الناس بفعل الإغلاقات وقرارات حظر التجوال التي فرضتها الجائحة العالمية كورونا ، والتي نتج عنها جيل جديد من المتسولين الذين يمارسون التسول بكل خبث وحرفية من وراء شاشات هواتفهم وحواسبهم ، متسلحين بزخم ما يوفره العالم الرقمي من امكانيات التأثر على عواطف المحسنين للحصول على التبرعات ومراكمتها.