إن قراءة هذا العنوان الفرعي الذي يندرج في مقصدية تملي نفسها علينا، و تخترقنا كصدى ملعون يحايث الممكن و المتعالي، و يحتل التجربة الموضوعية التي لا تحتجب، بل تأخذ شرطها الذاتي الذي يمنحها القدرة على استيعاب الحركة و الدينامية؛ هذا الشرط الموضوعي هو إظهار لاعتباطية الكثافة، الذي يظهر كمعرفة و كسند يجعل من الضرورة ليس مجرد بعد صدفوي، بل جوهر يعري الفراغ ليمسك به كامتلاء، و ليسمح لنفسه التحاور و الانفتاح كأفق رحب، حيث يجد فيه المؤلف استمراريته التأويلية في شكل حركة مستمرة للاستبصار الرمزي. من هذا المنظور إذن نتساءل: ما علاقة النقد بهذا المفهوم؟ فالسؤال لا يصير سؤالا إلا داخل الشرط الإفهامي الذي يربط بين الإمكان و الوجود و الزمن و الواقع، و يكون هو المنبع الذي يجعل الصدفة ضرورة ممكنة. فالقراءة لا تقيم في المغلق، بل تنخرط في النص بكل أضلاعه الممكنة، و في وضعية غير مهادنة تسمح لنا بالمعاودة و البحث عن الشروط الموضوعية. إنها القراءة التي تدخل المعرفة كهدف و كوسيلة، و هذه المعرفة النقدية تتحدد من خلال ميزاتها المتمثلة في إمكان قيامها و التحقق منها، فالواضح أن هذه القراءة أمكنها دراسة مجموعة من النصوص في سياقها العام، كمحاولة إبراز الإطار المرجعي الذي تقوم عليه هذه التأويلات، و بيان وجهات المقاربة و المفارقة التي يخلقها و يثيرها هذا المفعول التحققي في الكيفية في الكيفية التي يمكن أن نقيم بها قراءة موضوعية أفضل من قراءة الإحساس و التاريخ، دون أن نسقط في الذرائعية و الخطية. و بالمقابل كيف ننفلت من فلسفة للذات دون أن نسقط في فلسفة للموضوع؟ حسب تعبير “ميشال فوكو”.
لقد توجه البحث النقدي إلى تاريخ الأفكار ليعالجه و ليكشف عن مدى سلامته و مقدرته على كشف العلاقة المتراصة بين النص الأساسي و الموازي، غير أن هذا الفحص المعياري لم يجد ما يستحق الركون إليه، لأن نظرة واحدة في هذا الركام المبعثر على أرضية البحث، سيجد الباحث نفسه في حدود مرسومة بكيفية مطلقة دون تحديد و لا يقين من ثم يسقط البعد الموضوعي في التبسيط و التعميم الساذج الذي يمنح لنفسه ادعاء الوسيط و التبادل و تكسير الأوهام في المجالات الفكرية و التعبيرية.
لهذا فدراسة هذا التعالق بين الناقد و الموضوعية، ينبغي التخلي عن تاريخ الذات و رفض مسلماتها و محاولة إقامة تاريخ آخر لما قاله الإنسان حسب تعبير “فوكو”. لأن هذا الطابع الإلغائي يدخل في صراع مع الذات، كمقولة مرافقة لصراعه ضد الاستمرارية التاريخية. يقول “رولان بارت”: << هو نقد يرفض الارتباط بالإيديولوجيا ليؤكد موضوعيته>>(1). هذه المغامرة هي إقرار ذاتي يكون خارج اللغة، أي ما بعد الكلمة، و ما يجعل الذات تحوز على امتلاء مدلولاتها و هي تلتقط الخارج، إن هذا الطرح يكون هو الضامن للتأكد من مدى جودة هذه القراءة هي نوع من الترميز الذاتي و ممارسته، انطلاقا من مجموعة من الأدوات :
1- أقضاض محمد: النقد الأدبي و الفضاء الثقافي، الدار البيضاء، ط.1، 1991، ص.24.
التي يمكن تسميتها بخطاب على خطاب(1). فالناقد يعمل دوما على التحرر من المقاييس ليشكل اختيارا يحقق
حريته دون أن يفصله عن ذاكرته، لأن النقد إشارة جامعة و شاملة تحمل استمراريتها داخل أنوية تمثيلية و
لسنية و تشكيلية بصرية، و تتوجه إلى الواقع، بحيث تشكل بواسطته كل الرؤى، لتنبثق منه بموقع يجعل
الناقد يلتحم بالتاريخ و الثقافة حسب تعبير “رولان بارت”(2)، و هو لا يهتم إلا بالبعد المعياري فقط، بل يبحث عن كل ما يجعل المجتمع و اللغة و الذات، عبارة عن مواضيع، و عن تفكير في الإنسان.
فالنقد هو تفكير في الذات و في وجوديته؛ هو موضوع مستبطن من الذات و متأمل بواسطة الموضوعية، أي يتكلم عن نفسه بطريقة لا ذاتية، أو يبتعد عن الالتزام بمفهوم القطيعة، و ينخرط في الذات التي تصبح الذات المتعالية و التي تبيح لنفسها الانتشار كحيز متحرر من حدوده و ينفتح على نفسه كأفق لها، فيجد فيها ذاته كفعل دينامي ينغمس فيه من حيث هو امتلاء، و من حيث كونه يحث على هذا الامتلاء كجوهر و أساس، فليس البحث إلا عبارة عن إمكانية ضرورية تنتشر خلفها، أي أن هذا النقد يمنح لغيره ما لا يستطيع أن يعطيه لنفسه، و يجعل من خلاله صدفة للضرورة الموضوعية الممكنة في إطار تاريخية تطبع البعد التحليلي بمكانة بارزة للتنظيمات الداخلية و لارتباطاتها و لتسلسلها و لعلاقتها الوظائفية. و يصبح الموضوعي هو العتبة الإبستيمية و الأساس الذي تنتظم فيه كل الأفكار، و الإطار العام الذي تستقر فيه كل النظم. ذلك أن التاريخية حسب “فوكو” <<ستشكل فيه أكثر من مجرد شكل احتمالي للتتابعات، فقط تشكلت هاته التاريخية كنمط أساسي للوجود>>(3).
هكذا فإن الناقد لا يرفض المكون التاريخي، و لا يحدد مكان المحتمل (العرض) إلا في حدود وضعه العميق، لأن هذا الفهم الخاص للتاريخ هو الذي سيقوده إلى إعطاء مكان لمفهوم الناقد، و هو الذي سيولي الإنسان بالتفضيل عن الأشياء. حيث سيصير الإنسان في رحابه نواة للوجود، و قانونا عاما شاملا للموجودات، و سيصير وجود الأشياء و هما أساسيا يجب الكشف عما يخفيه لمعرفة الوجود الحقيقي. كما صار الناقد هو الكائن المختفي الذي يستخرج ما هو غير مدرك، حتى يصير البعد الوظيفي ذو فعالية و ذو يقين ضروري. أصبح هذا العمق الاسترجاعي و هاته الموضوعية هما ما يؤسس الإمكانية الخارجية للترتيب، و بذلك يختفي مشروع “الوصف الساذج” بكل قيمه التنظيمية و التأسيسية، و على هذا الأساس عمل الناقد فيها على إلغاء بعض القضايا الإبستيمية ليبرز الشروط و القبليات التي تمحورت حولها الأبحاث حول الإنسان، أبحاث تحكمت فيها قطيعتان كما قلت:
- Barths : Essais critiques , coll. Ed. de seuil , Paris, 1970, P.355.
- Barths : Le degré zéro de l’écriture , coll. Pierres, vifs, éd. Seuil, 1953, P.17.
- Foucault : Les mots et les choses, op. cit, P.288.
1- القطيعة الأولى تمثلت في بداية الستينات و السبعينات.
2- و القطيعة الثانية في الثمانينيات و التسعينيات.
دشنت هذه القطائع تاريخ النقد معلنة بروز البحث حول عمق النظريات و التنظيمات السياسية، لا يكفي في فهم الأبعاد العميقة لهذه المرحلة، و أن البحث عن الإنسان و القضية لا يكشف إلا جزء فريد تربطه في ظل هذا الفكر علاقات إبستيمية قوية، مع جوانب أخرى لا تقل غنى و قوة في تحديد شروط هذا المسار النقدي. فلقد ظل الحديث عن الإنسان القضية في مختلف أحواله لا ينفصل أبدا عن موضوع القضايا الاجتماعية و عن الأبعاد اللغوية. و ظلت التقاطعات و التداخلات تجمع بين مختلف هاته الأبعاد لتكشف عن شبكة من التعقيدات تتضمن في باطنها أرضها خصبة تحكمت في إبستيمية ، و هذه الشبكة شكلت النسق المفضل في إيجاد صيغة منهجية، التي ينبني عليها النظام الكلي، تسعى هذه العملية بشكل جوهري إلى عدم حصر البعد الذاتي التأملي، و عدم استبداله بالنسق، لأن كبت الاختلاف و استبداله بالتطابق، لا يمد العملية النقدية بمنهجية مفتوحة كأقصى درجات الإمكان على اعتبار أن الاختلاف هو الماهية الذي يلغي العرضي و الثابت و تعطي للقوة المكشوفة صورة إيحائية تموقع المحتمل في المتخيل كأداة للتواصل، ووسيلة يسمح لها بإقامة التبادلات، و يقيم المفارقات، لهذا يقيم الناقد الموضوعي قاعدة إدراكية عبارة عن استمراري غير تماثلية. لأن الدور النقدي لا يعمل على البعد اللانسقي و التصنيف المختلف الذي يدخل تحت خاصية الإمكان و اللاتناهي و كل نقد موجود يمكن إدراجه في بوثقة اختلافية، و النظام لا يعطي لهذه الكلمات التي أودعت على سطح الأشياء، و التي تدل عليها كل الصيغ الوجودية المرتبطة بالذات المبدعة، بالعالم الخارجي كمعطى أولي و نهائي، لذا ظل النقد الأدبي لعصور كثيرة مهتما بالأديب و علاقته بالعمل الأدبي، ثم جاءت بعد ذلك موجة البنيوية التي نادت بموت هذا الأديب، و صبت اهتمامها على النص الأدبي في ذاته، ليظل المتلقي مهمشا في كلا المنهجين (التاريخي و البنيوي)، مما سيؤدي في الآونة الأخيرة إلى ظهور منهج جديد ينادي بدراسة الأعمال الأدبية من زاوية المتلقي. و يتعلق الأمر بجمالية التلقي التي ظهرت مع ياوس و إيزر الأستاذين في جامعة كونسطانس بألمانيا.
غير أن مداخلتنا في هذا السياق لن تقف على أسس، و مفاهيم هذه الجمالية عند هؤلاء. بل ستحاول رصد ملامح هذه النظرية في نقدنا العربي القديم، و عيامنا بغنى هذا النقد، و تعدد نزعاته و مشاربه.
و هذا لا يعني بالطبع أنها تدعي أسبقية تراثنا العربي لهذه النظرية تلافيا للوقوع في حمأة الإسقاط التعسفي، و التعصب الفكري المذهبي.
و هكذا سنعتمد بعض النصوص المشتتة في كتب السولوجيا و التي تساوق بعض مفاهيم أو نظريات أصحاب هذه الجمالية بهدف استقرائها و تحليلها، و استخلاص أبعادها.
إن النقد الحقيقي هو الذي يجعل المنهج عاشقا للنص، و ليس مسيطرة صارمة في القراءة، حيث يطرح هذا الحضور المنهجي صعوبات في التوظيف و في البناء نظرا لما تفعل به التجربة النقدية من طرائف و من وسائل فكرية غير معهودة في النقد الكلاسيكي، نظرا لكون القراءة السوسيولوجية التي تتطلب قارئا ممارسا، و مسلحا بأدوات فلسفية، و معرفية و مفاهيم مستمدة من النقد الجديد ك(البنيوية-السائياث-التفكيك-التأويل…..والأسطورة، والسميائية) حتى يتمكن من فهم كيف يوظف النص، لإدراك أعماقه المنسية.
فالقارئ إذن عليه أن يسلك دروب الاكتشاف الجديد بكل تقلباته، نظرا للعلاقة بين الفكر و الواقع، فهذه العلاقة تجد مداها بين النص الأدبي، و الواقع الاجتماعي(1). لأن النقد تأويل و خطاب وصفي.
إذن يطرح النقد صعوبات قرائية نظرا لما تحلفه به التجربة النقدية من وسائل غير معهودة، و طرائق نظمية التي تتم على قوة إبداعية، أكثر ما تتم عن قوة تأليفية كلاسيكية و يقول الناقد “لابد من تمثل حقيقي للمنهج النقدي”(2) أما الناقد يهدف إلى تفجير اللغة من أجل وظائفها و قدراتها، و هذا اختراق لقواعدها، وهذا الاختراق ملازم لهذه الصفة الإيجابية التي ترتبط بطبيعة المنهج الذي يكون الإنسان فيه هو الرؤية، و التاريخ(3) و كذا المعرف و المكتسب، لأن هذا التنوع لهذه المعارف هو تأسيس جديد يحترم كل التمفصلات النصية و الوصفية.
و يستعيد الناقد العاطفية و الفكر ليماثل السيرورات الإدراكية ذات الطابع الإخباري و التواصلي، لأن التمثل المنهجي أكسبه طابعا منهجيا مما أعطى للدراسات النقدية خلقا جديدا، و ثقافة متنوعة التي راكمت جميع البنيات الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية، الشيء الذي رسخ بعض المفاهيم العامة عن الممارسة النقدية الإبداعية، و السيرورات الاجتماعية كصيغة غير تيبولوجية و ذلك بالتمثل السليم و الشامل و الإحاطة الشاملة بمكونات هذا المنهج.
لأن المفاهيم السوسيولوجية ذات الطابع الوجود القومي أدى به إلى عدم الانتقائية، و التأكيد على التجانس النص، و ذلك من أجل إمحاء التناقضات المنطقية و الذاتية، فابتداء بالنقد التأثري و وصولا إلى المنهج الماركسي(4) و انتهاء بالتفكيك، جعل هذا التعدد يختلف من مرحلة إلى أخرى، مما يستوجب التوافق بين التنظير و الممارسة و بين الفهم العميق للمنهج و ضبابية الموقف الذي يتبناه الناقد، لأن نتعرف على الجهاز المفاهيمي و الأدوات الإجرائية و هي تشتغل بمصطلحاتها المتوفرة أو المترجمة لقراءة التجربة النقدية، فالتحولات الثقافية حسب النقد، مكنت تجربة الناقد من حفر تضاريس النص لمعرفة الأشكال الطبقية، و كذا كل الترسبات الماضية. و الحاضر من تحديد بداياتها الجوهرية و التي تعود إلى عصر التراث أو بما يمكن تسميته بلعبة الكتابة التراثية، غير أن مسألة المنهج تسير بخطوات تأثيرية و ذاتية بغض النظر عن السجلات النقدية التي سادت فترة السبعينيات، في الوقت التي استطاع الناقد أن يطرح إشكالية التأسيس النقدي و الأصالة التراثية، و ذلك في ظل الأوضاع العربية، و بذلك كانت خطواته دائمة البحث عما يحقق توجهاته الفلسفية، و انخراطاته السياسية و الفكرية في الواقع العربي، التي هي رؤية مكتملة التقنيات و الأدوات الإجرائية.
مع التأكيد على إمكانية التحقق من المواصفات الإنسانية و خاصة العربية، من هنا نؤكد أن تجربة الناقد تسعى دوما بالخروج من الجاهزية التي تفرضها الدراسات القديمة بكل براعتها التفسيرية و التقويمية إلى التنوع و الثراء في المعلومات و المعرفة، لأن كثيرا ما يساعده على تأسيس النقد كخطاب، فهذه الأنساق التصويرية لهذا النقد جعلته يتجاوز الإطار التنظيري و الإيديولوجي إلى اعتناق أسئلة المثقف بكل خطاباته و بمعطياته الجديدة حيث التي يتدخل فيها ما هو تأملي، ومتعالي بما هو التزامي و اجتماعي.
لذا أرى في هذه التنوعات أن جل التحولات النقدية لها ما يبرزها في السياق الفكري الذي هو منبع الإرادة و الفكر، و الحرية لأن صياغة المقارنة سمحت لنا بالتعامل مع الواقع و الأحداث بمنهجية منطقية مفتوحة على التعددية، و الاستمرارية، و ذلك بأدوات تعمل على تشريح للمقولات المعرفية و النقدية لمعرفة ما تمارسها الخطابات المفاهيمية من آليات الحجب على النص، (أي على الواقع الاجتماعي المفتوح على التغيرات و الانقطاعات و المفاجئات و الذي يحتاج معه إلى منهجية نقدية مرئة يتحرر معها الفكر من سلطة المقولات و شرطة المؤسسات و حتمية الأشياء)(5).
انطلاقا من هذه القولة التي تشكل عتبة عليا التي من خلالها أنها مثقلة بالانكسارات و الترجحات العربية، تلتمس وظيفتها المشروعة في إعادة مراجعة الواقع العربي بوعي متجدد و مرتبط مع عقلانية مجتمعية و مع تاريخه لمعرفة “عملية انفتاح متواصل على الكينونة”(6).
إن فهم هذه الظاهرة الانفتاحية ينبغي أساسا استجلاء مفهوم أساسي و جوهري و هو مفهوم الكينونة الذي يميل إلى مجال فلسفي وجودي ينبغي أن تتموضع فيه كذلك الإنتاج النقدي، حيث أن إشكالية الوعي المنهجي(7) هي إشكالية حملتها هذه الرسالة و التي أفضت من خلالها إلى بلورة منهج متميز راكمت من خلاله المفاهيم الجديدة التي اتخذت مجموعة من الاكتشافات النقدية الجديدة لكن مع الصحوة التي عرفها العربي. عرف سؤال الهوية عدة تحولات و منطلقات فهو من الناحية ينطلق من الضرورة لاتخاذ المعايير النقدية مقياسا لنجاحها كسؤال يعمل على فهم العالم من أجل تغييره، لأن الهوية لا تعيش بحيوتها في الزمان و في التاريخ و يقول جمال باروت “إنها أمة في كيان يساوي واحد(8) إذن يتميز خطاب الهوية بحيويته، لأنه يشكل طوق نجاة حقيقي للإبداع، حيث يبقى السؤال يحتمل كل التأويلات، و هو يقارب معنا الهوية بمعانيها الموجودة، لكون هذه الهوية لا تعني التطابق، و التماثل، بل تعني اختلاف الواقع و التاريخ و الابداع، لعل هذا ما يعتبر في بعض الأحيان شيوع ظواهر فلسفية كالمثقف، و الأنا/الآخر، و النحن و الآخر و السؤال، و الكينونة، كلها تنائيات الآخر/و نحن و الآخر/ والسؤال و الكينونة، حيث احتلت موقعا جوهريا ترتبط بالأفراد و المجتمعات، و يقول خلدون الشمعة “بأنها علاقة ما بين ثقافة غازية و أخرى مغزوة”(9) فالمثاقفة هي مسألة احتكاك و سيطرة و تغير مجلوب من الخارج، يخضع لبيئة محلية و وطنية دون استيطان الآخر أو ما يسميه صورة جديدة و نوعا نضاليا، يتخذ شكل العودة إلى هذه الأنا/ في بعدها الحضاري و الثقافي و به تتحدد حقيقة التبادل الثقافي و التقني و العلمي/ و يجعل من العرب محورا معيارا كونيا يؤسس لنفسه مفاهيم و آليات معكوسة من التمركز الذي ينفي الآخر، و يقول أحد الناقد “يجب ممارستها في هذه المرحلة… نقد الفكر الغربي السائد في ثقافتنا الحاضرة لاستنباط الطرق السلمية التي يمكننا اتباعها للتغيير عوامل التسوية(10) فهذه القولة تنطوي على درجة من الوعي المعرفي، لأنها تجعل هذه الذات العربية قادرة على نقد هذا الفكر العربي المركزي، و لكن لا تعرف ما هو نوع هذا النقد، و كيف يتم هذا التفاوت و كيف نغلق عقلا محتضرا و ليس همجيا، أسئلة تعمل على تأسيس وعي جذري يبدأ بنقد الذات، من أجل تأسيسها للكشف عن علاقتها بالآخر و من أجل توليد رؤية موضوعية عملية التي تجمعنا بجانب الغربي في قارة ابستيمية واحدة تلغي الترجسية لتكون لنا معالم متكاملة، و متجانسة نسبيا مع الفكر والمواقع الإنتمائية.
إن عبد الرحمن بن زيدان لم يشر إلى نوعية القراءة و إلى مسالكها، هل بكونها نقد جديد أم إبستمولوجية كونية، أم أنتولوجية؟ أسئلة كما ذكرنا لا تحجب عنا التاريخانية كمقوم خطي، بل تهدف إلى كشف أسباب التفاوت الفكري و التقني، و المنهجي و تنتقل من البسيط إلى المركب في إطار علاقة نظرية بين التطور الاجتماعي، و التطور الفكري العربي، فالإنسان “منتجة متحرك غير مغترب عن تراثه و لغته ووطنه”(11). فالناقد بن زيدان حسب هذا الطرح المقولاتي قد أصبح يقع في مرحلة ما بعد الحداثة التي فككت بديهيات النمط التاريخاني، و ذوبت مسلمات الشمولية و الاطلاقية و التي شكلت البنية التمركزية الغربية، و لم يعد مفهوم الهوية المغلقة على نفسها، بل أمست هجينة جديدة تلغي المرحلة التاريخية الراهنة من أجل معرفة ما يريده العرب المثقفون لشعبهم”(12). فالمراجعة النقدية تحولت إلى بعد داخلي من أبعاد البناء و التأسيس و الاختلاف’ لمحو غربة الإنسان العربي، و استهلاكه للآخر، من أجل بناء هوية عربية”(13)، إذن فالإنسان العربي يعيش التعددية بما تحمله من رغبات و مصالح جديدة، و بعدا من أبعاد النظام العالم الجديد كي (تملأها بقيم ثقافية و حضارية بديلة ذات حمولة استعمارية جديدة”(14). إذ لم يعد الإيمان الكلي بالتفوق العلمي، و الثقافي على نحو مقرط، بل أمسى الاختلاف هو الأجدر و الأقوى من أجل إقامة نوع من التوافق(15) الماهوي الذي يؤكد على إدراج إشكالية الديمقراطية و الحرية في شكل حوار جديد يقوم على احترام حقوق الإنسان، و المبني على الاختلاف والتعددية.
لقد وظف الناقد كما ذكرنا عدة مفاهيم نظرية أساسية التي تحققت في التربة و حددت بعض معالمها و وظفها توظيفا نظريا و ممارستيا، بهذا الشكل الذي يجعل من الممارسة ضرورة ملحة بتطور الصراع الطبقي، و بالشكل الذي يتحدد فيه الصراع بالقاعدة المادية للبنية الاجتماعية، فهذه العملية النقدية لها علاقة مباشرة بالنصوص سواء في إدراكها و تصورها للواقع، ثم الأشياء الفنية التي يحتويها خصوصا تحت تأثير الإشكالية المادية و خاصة الإيديولوجية(16)، و يقول ألتوسير، “إن الإيديولوجيا هي دائما نسق من التمثلات و لكن غالبا ما تكون صورا، بل حتى حين تحزن تصورات أو مفاهيم، فإننا نفرض وجودها على الأغلبية من النائب و الجماعة، باعتبارها بنيات دون أن تمر عبر وعيهم”(17). فالإيديولوجيا حسب ألتوسير عبارة عن تيمات ثقافية. و فكرية ملموسة و معاشة، لأنها تؤثر وظيفيا على الإنسان و ذلك في إطار صيرورة تتجاوز قوة الإدراك الفردي، و تبعا لسنة التطور النقدي و المنهجي والقانوني للممارسة الإبداعية فالإيديولوجيا تمر عبر صورة اللاشعور، للتعبير عن علاقة الناقد بالواقع، إنها أيضا بمثابة وحدة تجمع علاقة الإقرار بالظروف الاجتماعية. إذن فالإيديولوجيا تمثل حسب ألتوسير مجالا رحبا و حيويا من شأنه أن يدعم التعالق المجتمع بظروفه في جوهر العلاقة المتخيلة نفسها(18). وانطلاقا من هذه الأرضية يصبح من الضروري معرفة المشكل الاجتماعي لما يحمله من انكسارات وتراجعات معتبرا إياها كمشكلة نظرية ذات أهمية قصوى، لأن جل القرارات التي تعاملت مع الفكر الماركسي لم تستطع أن تتجاوز مفاهيمه للدخول إلى أبعاد نصية و جمالية و من بين هؤلاء محمد بنيس في كتابه “ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب، ص46 و يمنى العيد في كتابها “مسارات في النقد الأدبي”، ص5، و كتاب “الجهود الروائية”، و كتاب “البطل في المأزق”، ص84، و نبيل سليمان في كتابه “مساهمة في النقد انتقد الأدبي”، ص141 و ادريس النافوري صاحب الكتاب “المصطلح المشترك” و المصطفى المسناوي، و نجيب العوفي، و ابراهيم الخطيب، و محمود أمين “العالم و غيرهم”.
لقد حاول الناقد العربي التفكيكي بدوره إيجاد واقع نقدي يربط بين البعد المنهجي، و الواقع الاجتماعي لكي يكسب هذه المفاهيم قوتها و شرعيتها لتأخذ محوريتها داخل الحقل الهيرمينوطيقي، لأن المشروعية حسب Poulntesas بولنتزاس “هي مسألة جوهرية بالنسبة للعلم الساسة الحديث و المعاصر”(19). فهذه الشرعية هي شرط الزامي موضوعي للواقع بكافة حيثياته و وفق آليات جمالية، يتأسس النقد ليتخذ مفاهيم متنوعة لا تخرج عن إطار الخصوصية التواصلية و المعبرة عن مختلف أنماط الفلسفة السابقة و المعاصرة و القادرة على تحويلنا من التغييرات الكمية إلى التغيرات الكيفية (20) حسب تعبير أحمد محمود صبحي. و وفقا لهذه الرؤية التعبيرية يرى الناقد العربي نفسه أمام التشيكات المفاهيمية بين النص و اللغة لإقامة تجانس مع التراث، و التاريخ، و المواقع، و المتخيل، و لخلق نموذج خطاب فقدي يتحكم في سيرورة السرد من خلال دعم البني الفكري، و الثقافي، و من باب توسيع مدارك القراءات حسب تعبير الناقد (عبد الرحمن بن زيدان) (21) فهذا الأخير تعامل مع الإبداع النقدي من خلال بعدين بعد واقعي و بعد جمالي، و عبر هذين البعدين اتخذ نمطا خاصا به خارج عن إطار البعد الإشكالي الذي اعتمده جورج لوكاتش J.Loukatchكوسط في إذكاء جذوة الصراع الإيديولوجي (22) و مستفيدا من لويسان كودمان Luicien Golidemo فيما يخص بتماثل البنيات الإبداعية و البنيات الاجتماعية لكي يمتلك تناصية جديدة(23) و التي لا تقف عند سوسيولوجيا المضامين، إذ يحاول أن ينطلق من هذه المضامين لكي يوصلنا إلى أبعاد جمالية و فنية دراماتيكية، لأن هذه السيرورة التوليدية أحدثت رؤية جمالية للتاريخ النقدي، و كذا بناء معطيات جديدة سواء في تجلياتها اللغوية أو في استيعاب ماهيتها، حيث تكون إمكانية الإبداع كوعي يربط الراهن بالماضي بغرض التواصل مع التراث لينتج “الفرصة للتفسير و التعبير لكثير من السلوكيات الغامضة”(24). إن جملة هذه التحولات النقدية كان لها ما يبررها في السياق الفكري، و الاجتماعي، المثقل بالهزائم و الانكسارات لتلتمس طريقتها المشروعة في إعادة مراجعة الواقع العربي و بناء نسق و حدوي قومي جديد.
إذن فالناقد هو الذي يريد معرفة الجزء الخفي من حياة المبدع، و تفجير ذلك السر المسيج بالكتمان و الذي يصعب إنشاؤه، إنه يريد أن يستحوذ على انتباه الجمهور و يجعله يعيش معه، لأن النقد عبارة عن بؤرة يكتسب دلالة من حيث الإغناء الوظيفي، ليجعله يرتبط بما وراء النص، حتى يعين المرجع على الواقع المادي الملموس.
إذن فالنقد هو إشكالية جديدة ترتبط بما عرفه المجتمع الحديث من تغيير و تحول في مسار الفكر و السياسة و التاريخ و يقول محمد نديم خشفه: إن أي فكر أو أي أثر إبداعي لا يكتسي دلالته الحقيقية إلا عند اندماجه في نسق الحياة أو السلوك، زد على ذلك أنه لا يكون السلوك الذي يوضح اللأثر، هو غالبا سلوك الكاتب نفسه، بل سلوك الفئة الاجتماعية التي لا ينتمي إليها الكاتب بالضرورة”(25).
يبدو أن المراجعات التقويمية التي تتم اليوم ببعض الطروحات و المفاهيم داخل النقد لازالت لم تتخلص بعد من بعد القراءات التبسيطية و التي لا تتجاوز حدود الذاكرة. لأن النزوع إلى خصائص بعينها، يصبح فيها طابعا يميزه عن غيره من الصفات، حيث يبدأ بسيطا ثم يثور من دواخله، ليكون مركبا، فهذا النوع من الثورة هو الذي يعطي للتاريخ زمنه و انفراده، في عالم متحرك و وفق تطورات البنيوية، إنه التيار الذي يعتمد على الأسس الخاصة و العامة، و في نفس اللحظة نفسها يفتح أبواب الحداثة ليحدد أدواته المعرفية ويقول محمد زكي العشماوي: إن هذه الظاهرة من التجديد مألوفة و طبيعية، تعمل وفق حاجات التطور، فالطبيعة تتجدد من داخلها و ضمن ظروف خاصة تفرضها حياة و ملابسات معينة، و يبقى التجديد في هذه الحالة تحت نجاح الأصولية و ضمن الضوابط المعروفة(26).
فهذا السعي هو تأسيس حركة جديدة لكل من النقد و كذا المحددات الفعالة في المجتمع، و إعطاء الأهمية القصوى في التوضيح الإجتماعي على العناصر التي يتأسس عليها عمل بعض المشتغلين و المهتمين في هذا الحقل، لأن الوصول إلى فهم الملاحظة و الموضوع و البرهان و دقة التجريب، توزع التيارات النفدية كما قلنا تبعا لسنة التثوير و التطوير و الاختيار، لدى عمل النقاد باستعمال هذه المفاهيم و التيارات في الحقول المعرفية و النصية كتوظيف و صياغة ملاحم الصراع السياسي و الثقافي في هذه المجتمعات البورجوازية، لأن هذا الاستعمال و التوظيف جعلنا ندرك أن التوازن بين الدولة و الفرد بدأ يتبلور من خلال أدبيا تندرج في أفق السوسيولوجيا و السياسة الوظيفية و في إطار المنظومة السياسية الحيوية التي يعرفها هذا العهد، و يقول سعيد علوش: إن كتابة ما تريد قوى العصف أن ترغمهم على كتابته، بهذا الرفض تظل أبواب مشروعة أمام الكتابة كفعل للتضامن تاريخي من أجل أن يملك شعبنا كل شيء”(27).
فهذا التبلور في صيغته الاصطلاحية و السياقية يرادف المجتمع السياسي المبني على التعاقد الاجتماعي و الثقافي، مما يدعو إلى إعلان النوع و التجاوز الميتافيزيقي، للتحرر من جميع الأوهام النقدية، و يقول ميشيل فوكو (MICHEL FOUCAULT): “إن هؤلاء المفكرين ذوو النزعة الإنسانية الذين يؤكدون على إلغاء اختيار سياسي… و يرون أن الإنسان ينبغي أن يكون حرا، و يطرحون الأسئلة المتعددة سواء عن الإنسان أو عن كينونته و ماهيته…..”(28).
فهذا التأكيد على ضرورة الاهتمام بالإنسان، و العلم و التطور الثقافي جعل الناقد يحل نحو مضمون ملموس و إجرائي، يسمح لنا بالإمساك عن ضرورة الحد من الادعاءات الكلاسيكية و الرومانسية، و يمنح لنا إمكانية تحويل الواقع إلى جاذبية يكون الإنسان هو محورها، إنه بمثابة علامة جديدة تعطينا فكرة عن مكانة الإنسان و حقوقه المدنية و الثقافية و العلمية. فتطوير إمكانية النقد باعتباره مشروعا تدعم مصداقيته بالتطور المستمر للإنسانية، و تقدم معارفها كشكل لا يقف عند النص، بل يدعو إلى مراجعة التفكير في صيغة جديدة، و توجيه جديد حول الوضعية المشروطة، و يقول أحد الباحثين: “فمعرفة فعلة بالأوضاع الثقافية القائمة، بما هي أوضاع ملموسة للصراع الطبقي و الإيديولوجي، بل تنحصر وظيفته الأساسية في طمس العلاقات الفعلية التي تنظم الممارسات الثقافية و تحددها، و هذه الوظيفة السياسية لأنها شرط أساسي لأحكام العلاقة السلطوية في حقل الممارسة الثقافية و تحددها، و إخضاع الممارسة الثقافية للجماهير، كممارسة للطاقات المسيطرة”(29). فهذه الثورة النقدية و الفكرية دفعت إلى نوع من المغايرة و الاختلاف في الأسس و الفكر و الحركة، سواء التي بينتها الكلاسيكية “العقل- التجربة” أو الرومانسية “الفرد- الحرية- الذات”، حيث ولدت الطبقة الوسطى و الشعبية، فهي حصيلة و نتيجة لنوع التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد. فلابد للمبدع أن يساير هذا التطور، رابطا بينه و بين المجتمع عن طريق النسق الفكري، باعتباره صنيع المجتمع الذي يعيش فيه، لأن النهج الاجتماعي يسعى إلى تحقيق ثروة اجتماعية بواسطة الإنسان، وإلى معرفة ما وراء بين الظاهر، و إدراك البداءة، و إجراء الراهن… و بين الوظيفة كعلاقة بين العمل الثقافي و الإبداعي للإنسان و الصبغة لأن حاجياته البيولوجية ترتبط عنده بنسق كلي، كما تختلف بطابعها الشمولي، على أساس لا وجود في السوسيولوجي لأي عنصر ثقافي أو تاريخي أو أدبي لا يستجيب لشروط حاجيات الإنسان. هكذا عمل الناقد على مناهضة كل القيم، و قد كان “ابسن” و “برناردشو” اللذان غيرا وجه المسرح، جاعلان منه فاتحة غير نهائية و موضوعا قادرا أن يستوعب كل التناقضات و الانكسارات، و قادرا على محاكمة كل الأفكار المشوبة بالبداهة و الاستغلال، لذا نجد ابسن قد أدمج الواقع في مسرحياته المتنوعة كهدف نقدي لكل الأوضاع المحيطة به. يقول أحمد فوزي فهمي: “فقد هجر الموضوعات القديمة التي اصطلح على تسميتها بموضوعات العصر الفيكتوري، و كتب “بيت الدمية” و “عذر الشعب” و “الأشباح” و “البطة البرية” التي تعرض للأوضاع الراهنة في مجتمعه”(30). فالاعتقاد أن هذا الطابع النقدي لا يعني الاقتصار على ما هو واقعي، بل يهدف إلى النشر في كل الأجناس المرتبطة بالبعد التأويلي و التفسيري، ثم تحديد بعض السمات المتنوعة لكل الجنس عبر توظيفاته الإيديولوجية، باعتبارها مرآة للعصر و المجتمع، فقد عمد إلى تصوير سائر الجوانب السلبية لهذا المجتمع، جاعلا منها قوة جديدة تحل محل القوة القدرية، من هنا كان ابسن بطلا فاعلا و فردا لا ينصاع للأوامر و لا النواهي، و على هذا النهج سار انطوان تشيجوف الذي عمل خلخلة مجموعة من الثوابت الاجتماعية بصيغة فنية، حيث يكون فيها البطل من الطبقة الشعبية، يمتزج بكل الرؤى التي تنادي بالتعبير. و يقول ابرودان حميد: “و الخلق في المسرح هو اكتشاف الحلول لمشاكل الشكل من ناحية الفضاء المسرحي و من ناحية التركيب و البنية الدرامية للنص الأدبي، و كذلك من ناحية الهندسة الداخلية المسرحية، فإذا امتلكت هذه العناصر و تناسقت بدون اصطدام كان الخلق المسرحي و جاء التطور”(31). أما برناردشو فقد ساهم في إبراز مفاهيم الصراع الطبقي و البنية الفكرية، في صياغة رؤية فلسفية سياسية متطورة، بالمقارنة مع التحولات السياسية السائدة. فبرناردشو يدعو إلى بذل جهد نظري في إعادة بناء منظومة واقعية اشتراكية انطلاقا من الواقع. و تبعا لسنة التطور و قانون الممارسة الإبداعية، فالنقد هو أسئلة مفتوح، ومن هذه الأسئلة لماذا تم اختيار النقد كموضوع للبحث، و لماذا يفكر منهجه، و لماذا البحث عن المفاهيم الفكرية الإيديولوجية، و الجمالية الموظفة، أسئلة لها دلالات وجودية تتحدث من خلال الصيغات التالية، لماذا سؤال الهوية؟ و لماذا الاختلاف المعرفي و النقدي و هل سؤال الناقد قادر على إبراز خصوصيته بدون الاستعانة بالمعارف الأخرى؟ فالناقد في متونه ينصهر في عملية التركيب ليصبح هذا النقد كينونيا. و مكسبا لتطور الفكر العربي المعاصر، لأن هذا المفهوم النقدي أمسى كقاعدة جينيولوجيا يظهر في الفكر الاختلافي (32) فالناقد كما ذكرنا يطرح العديد من الأسئلة الوجودية، و المعرفية، فأين نحن من فكر الاختلاف؟ و أين نموقع الناقد من هذه التحولات الجديدية؟ إن النقد خاص حربا ضد فكرة القطيعة مع التراث، لكي يؤسس لهذه الذات الغير التراثية تحققاتها الفاعلية من أجل التخلص من اليقينيات الكلاسيكية، و يقول محمد مزوز: “إنه لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام ما دام العالم منغلقا أمامنا، و الانغلاق الفكري هو الذي يحكم انغلاق العالم، أي ترسيخ التصورات الكائنة، و تثبت الرؤى التقليدية، لا زلنا نعتبر الحديث عن الخلاف الأصولي أو الخطاب النهضوي، حول الطريق قادر على تغيير وعينا و تصوراتنا للعالم، الدروس التي تأتينا من التراث، و الدروس الواردة في الغرب هي تقليد مزدوج اللغة و الرؤية، و استهلاك هذه الدروس بدعوى أخذ العبرة، لا ينطق عن منطق الوعظ و الإرشاد”(33) فالمتأمل في هذا الطرح المقولاتي سيجد نفسه مشدوها أمام مجموعة من القضايا يمكن اعتبارها العتبة العليا من خلالها نلج عالم المثقف باعتباره عالما إجرائيا يدرس القضايا التي لم يستطيع أن يتخلص منها هذا النقد، ليرتقي إلى مستوى أنطولوجي قادر على التفكير خارج المؤتلف، و المغلق، حيث يقول في هذا الصدد “القضاء المطلق على كل فكر قديم لأن الماضي ليس مجرد قول عابر، بل هو بنية الوجود، و ليس هذه النزعة القرائية إلا تحولا في كيفيات التأويل و نمط البحث عن الحقيقة ضد النمط العام لجوهر العمل المسرحي هو مكزناته”(34) فبعث الحياة في هذا الماضي هو أساس التفكير الذي يجعل من فكر الاختلاف قيمة جديدة داخل القارة الدراسية، و ذلك من أجل إقصاء ميتلفيزيقيا النص، و منطق و التمركز اللغوي داخل القراءات الكلاسيكية، لأن النقد بحث في وجودية النص، و إثبات فواصل الذاتي، و رغبة في الوصول إلى الجوهر عبر الكلاسيكية، لأن النقد بحث في المؤتلف و المختلف و في التضاد و قصد القبض على المتقابل.
“و الإحاطة الشاملة بمكونات هذه المناهج”(35) إذن المهمة الجديدة للاختلاف تعيين مفاهيم تفكر في الانفصال، كالعتبة و القطيعة و التحول(36) M.Foucault و هذا ما جعل المثقف يبعد النظر في بعض المقولات الأرسطية التي تعتمد المطابقة و زرع بذور الاختلاف “فمفهوم أن صور الواحد على عدد صور الهوية و العلم الواحد، بالنظر المطلق في هذه الصور، و معرفة ما هيئه، أعني لعلم واحد النظر في المثقف و التشبيه “و سائر الأشياء التي تشبه هذه و غيرها، و في النهاية تنسب جميع هذه الأضداد إلى هذا العلم الأول”(37).
فتجاوز المطابقة و الذاتية، تعني عدم الاختلاف و هنا تتساءل هل هذه الوحدة في الماهية، أم في وجود الاختلاف الماهوي، فرغم تأكيده على المطابقة، في الوحيد، الذي له القدرة للإمساك بالمقابل دون أي تغيير جوهري، لأن الاختلاف حسب أرسطو Aristote هو اختلاف و تضاد في النوع و هذا ما سماه جيل دولوز la différence spécifique(38) فالاختلاف يظهر هوية التنوع المقولاتي (التوزيعي)، لكي يأخذ البعد التعددي شاعريته و وجوديته، و أنه يتوفر على بعد حسب مفهومي، حر من الأسس المنطقية و الانغلاقية، و أن تكون هذه العناصر محددة بكيفية عقلانية تتمتع بعلاقة تبادلية غير مستقلة، و أنها ترتبط بالبعد الحيواني الذي يتجسد في شكل تعالق معاصر (39) فهي داخل الاختلاف تتجدد المفاهيم و تتخذ شعريتها الأنطولوجية و التاريخية كطبقات لأنها الثقافة هي سؤال انطولوجي يبحث عن الأصل المفقود، و المعنى اللامشترك، ليجعل ملكات الخيال المتعالي ينتعش(40). فالسؤال النقدي يتحدث كما ذكرنا كأنطولوجية لا نصية، و غير منطقية(41) فالأسئلة حسب دولوز يسميها بلعبة النرد، و هذه الأفكار المتداولة هي إشكاليات مركبة في كل لعبة، و لا يمكن أن تكون سوى للفكر المغاير، و لا تتحقق إلا من طرف الإنسان، فالبفكر يتخذ كل الواقع الاجتماعي، و يتجدد الإنسان حسب تعبير دولوز Deleuze في كتابه “منطق المعنى” ص68 و ذلك خارج كل النزاعات التاريخية و المركزية الذاتية(42). فاللاحضور يفكر من خلال الحضور المركزي أي أن الماضي و الحاضر و المستقبل يتجدد على شكل ماضيين و حاضرين و مستقبليين، إذن كيف تتحدد فكرة الاختلاف عند المثقف و عند تولوز Deleuze؟ و ما علاقته بالوعي و اللاوعي؟ و بالتالي هل يمكن للفكر المرتبط باللاوعي التراثي أن ينتج معرفة جديدة تتجاوز المقولات الأرسطية؟ أسئلة حسب دولوزDeleuze تتوزع و تتشتت و تتنوع حسب التنوع القرائي، و ليس في حاجة إلى الوحدة القرائية البسيطة لتشكيل خطابه، و دولوز بدوره يحدد الأفكار انطلاقا من البعد الاختلافي الغير الماهوي(43) فالمثقف العربي لا يرتبط بالعدد الماهوي و الذاتي كما يرى عبد الكريم رشيد لأن الفعل بين ما هو اجتماعي و ما هو نفسي هو فصل تعسفي، لأن الإبداع خلاصة للصراعات بين الذات و الموضوع فالنقد هو ضرورة لوجودنا، و لتكوين هويتنا، و معرفة لذواتنا، لأن معرفة الذات لذاتها تعد مدخلا لمعرفة الآخر؟ فبرشيد يؤكد على معرفة الآخر عن طريق المعرفة التي هي بناء نظري يتم بين ذات و موضوع، و تتجه نحو وعي الآخر و إدراك تجاربه، إما عن طريق المشابهة أو عن طريق المماثلة، فالناقد عبد الكريم برشيد لا يعتبر المتلقي كآلة و لا قبعة، بل هو ذات يعيش الحميمية مع العالم الخارجي(44).
فالنقد البرشيدي ليس سوى نقدا فلسفيا و اجتماعيا، و نفسانيا، لأنه لا يهادن الواقع برؤية تبسيطية، و لا يتصالح معه، بل ينتقده و يخالفه، لأن الإنسان في حقيقته الجوهرية كائن يتغير و يغير أشياء “فالناقد يسمح بالاتجاه نحو حضارة الإبداع و المعنى، بل حضارة التي تقوم على قوة التملك، و تكريس الفوارق بين الجماعات و الأفراد، إذن فالنقد هي بناء و تشكل سياسة المعرفة الإبداعية، و كذا التأويل و التبلور و التدبير، و تنمية القدرات و استدامة التفاعل السوسيو-معرفي، و الإبداعي، لكن نجد بعض الفاعلين المسرحيين الذين يقولون بأن ليس هناك نقد إبداعي درامي يساير العروض المسرحية، بل بقي النقد في رفوف المكتبة، و أن الأساتذة يعتمدون على الورقي “الكتب” دون تنقل أو رحلة لمعاينة العروض المسرحية، و هذا يخلق لنا أزمة النقد الدرامي على الساحة المغربية و العربية و هذا القول قاله المخرج “حسن العلوي المراني”، و لكن رغم هذه الحسرة و السأم، فإننا واجدون نقاد يواكبون هذه العروض و لكن قلة، فما أحوجنا إلى هذه الصيحة التي ناد بها المخرج حسن العلوي لكي تخرج من المختبرات و التسيج النصوص، لإعطاء للبصيرة و للبصر حرية الرؤية، و المشاهدة لأن النقد انفتح على مسالك ومعارف متنوعة و بمقتضى ما تقترحه هذه الشهادة من آليات التواصل المعرفي من أنواع الخطابات النقدية، إنها دراسة مفهوم التواصل الإنساني يمكن أن تكون بديلا ديناميكيا عن دراسة العلوم الإنسانية و الأدبية بصفتها منتوجا لغويا و فكريا و اجتماعيا، و سياسيا.
و أخيرا نطالب من المسؤولين الثقافيين و أصحاب السياسة أن يعطوا أهمية للإبداع النقدي و الفكري، و أن يفتح للمبدع أبواب الاعتراف، دون أن نهمشه أو نسجنه في غرفته الذاتية كما يقول الفيلسوف بيرجي، لابد أن يتم التواصل عبر معرفة الغير، كما ترى الفينومينولوجية (البينداتية) كما يقول هوسرل، فالوعي بالذات الناقدة تمكننا من معرفة ذواتنا و الغير، فهو الوسيط لمعرفة المجتمع و الأفراد و الحياة، كما يؤكد كل من حسن المنيعي و عبد الكريم برشيد، و عبد الرحمن بن زيدان و عبد الله العدامي، و أحمد المعداوي، و حميد الحمداني و مطاع صفدي، و أدونيس… فهؤلاء عملوا على تطبيق المناهج النقدية الغربية باعتبارها قواعد و أسس لمعالجة الأجناس بكل أنواعها، لأن الإبداع هو تنقيح و مراجعة، فعن طريق الفهم و الإفهام والتأويل توقض النصوص لنضفي عليها الطبيعة التي نريدها مع إرجاء الظوائر الاعتيادية و الالتفات اليقظ إلى روح الإبداع النقدي، و وضع كل شيء على محك النقد و التمحيص لأن الحياة التي لا تخضع للنقد هي حياة لا تستحق أن تعاش كما يقول سقراط ما صاحب كتاب “تأملات لغير زمانها” نيتشه يرى سؤالا عن الذات الحقة، ويجدد الطريق إلى وجودها و وحدتها، لأن الناقد يحيا حياته الإبداعية مستسلما للنقد دون الغرق في بحر العادات و الرغبات، فالناقد كما يرى نيتشه هو “كن نفسك” فأنت فوق نهر الحياة ما من أحد غيرك، لأن الإبداع هو مواطن العالم و الكون مدينته و الإنسانية إخوته. لذا فالنقد هو فهم و تأويل، و تفسير و تفكيك.
الهوامش:
(1)- كارل مندركس فريد ريك انجلز، الإيديولوجية الألمانية، د فؤاد أيوب، دمشق ط1، ص:76.
(2)- انظر الحوار، مجلة الدوحة، ع10، ص:24.
(3)- الإيديولوجيا الألمانية، ص:37.
(4)- Goldman.Jg Ledieu caché : GOL- pais- 1995 P16.
(5)- علي حرب، “الممنوع و المهتم نقد الذات المفكرة”، المركز الثقافي العربي، ط2، من 2000. ص:234.
(6)- ع بن زيدان، “إشكالية المنهج”، ص:42.
(7)- ZARAFFA (R). Roman et siciété. PUF- paris 1971 p : 46-47.
(8)- محمد جمال باروت، “الدولة و المنهضة و الحداثة”، ط1، سنة 2000، ص:63.
(9)- خلدون الشمعة، “المنهج و المصطلح”، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1977، ص:77.
(10)- عبد الرحمن بن زيدان، (أسئلة المسرح العربي)، سلسلة الدراسات النقدية – 7- دار الثقافة للنشر و التوزيع – الدار البيضاء، ط1، 1987، ص:273.
(11)- عبد الرحمن بن زيدان، “أسئلة المسرح العربي”، ص:38.
(12)- المرجع نفسه، ص:244.
(13)- ع بن زيدان، أسئلة المنهج، ص:38.
(14)- ع بن زيدان، بيان آخر العلم الثقافي، ص:3.
(15)- تدوروف سيزفتان، فتح أمريكا- مسألة الآخر، ترجمة السباي- سينا للنشر القاهرة 1992، ص:183.
(16)- ليوس ألتوريس، من أجل ماركس فرنسوا ماسيرو، باريس 1980، ص:239.
(17)- المرجع نفسه- Ibd.
(18)- لويس ألتوسير، “من أجل ماركس”، ص:241.
(19)- Poulrt zzas – NICOS pouvoir politique et classes sociales François Masper-paris 1982 p 239.
(20)- أحمد صبحي، “في فلسفة التاريخ”، دار النهضة العربية للطباعة و النشر بيروت 1994، ص:222-223.
(21)- ع بن زيدان، أسئلة المسرح العربي، ص:54، و انظر كذلك نحدد مفهوم الشعرية في الكتاب شعرية القراءة و التأويل في الرودية الحديثة، فتحي بوخالفة، ص:365.
(22)- ياسين بو علي، سليمان نبيل، “الأدب و الإيديولوجيا في سوريا”، دار ابن خلدون بيروت، ط1، 1974، ص:65.
(23)- Julia Kuistiva : Sémiotike , Recherche Jow sémanlyse, ed ; seul paris, 1969 et le texte de Roman. En Mouton 1970.
(24)- خوريش فاروق، الموروث الشعبي، دار الشروق القاهرة – بيروت، ط1، 1992، ص: 61.
(25)- د.محمد نديم خشفة، تأصيل النص، دار العلم للملايين بيروت، 1986.
(26)- د.محمد زكي عشماوي، المسرح أصوله و اتجاهه المعاصرة، مرجع مذكور، ص:111.
(27)- د.سعيد علوش، الرواية و الايديولوجيا في المغرب العربي، دار كلمة النشر، بيروت 1981، ظهر الكتاب لمحمد برادة.
(28)- Micheal Foucault : Les Mots et les choses, Gallimard, Paris, 1966, P, 336.
(29)- الفطواكي حسين، الثقافة في حركة النضال الديمقراطي بالمغرب، مقدم، مجلة الجسور، عدد5، السنة 2، 1982، ص:97.
(30)- فوزي فهمي أحمد، المفهوم التراجيدي و الدراما الحديثة، و المرجع مذكور، ص:26.
(31)- ابرودان حميد، هل تطور الفعل المسرحي المغربي؟ محلق أسبوعي لجريدة الأمة، عدد2-8 اكتوبر 1983، ص:4.
(32)- جيل تولوز، الاختلاف و التطرار طب في السنة 1976، ص:238.(الفرنسية).
(33)- محمد مزوز، “اغتيال الفلسفة و إحياؤها”، مجلة الوحد، ع 60، ص:73.
(34)- عبد الرحمن بن زيدان، “التجريب في النقد و الدراما”، منشورات الزمن سلسلة شرفات رقم 3، مطبعة النجاح 2000، ص:10.
(35)- ع بن زيدان، إشكالية المنهج في المسرح العربي، مرجع مذكور، ص:32.
(36)- ميشال فوكو، حقويات المعرفة، ترجمة ساهو ياقوت، ط 1 1986، ص:6.
(37)- Artistote «Metaphysique Tome lecol Goll>>. P22-23.
(38)- Gille denleuze <<déffet répétition>> ect FUF – Année- 1976-p 46.
(39)- G Dalaude : Deffe et répétition p247.
(40)- Ibdm p57.
(41)- Ibd p57.
(42)- J. Derrida, l’écriture et la différence seul 1967 p120.
(43)- IBID P236.
(43)- عبد الكريم رشيد، مجلة البيان تشريح النقد المسرح بالمغرب، ع 193، سنة 1992، ص:11.