استأثرت الرسالة الجِدِّيَّة لابن زيدون باهتمام الباحث نبيل الهومي فاتخذها متنا للاشتغال من خلال إعمال المقاربة الحجاجية التي أسعفت الباحث في استكناه مقومات الإقناع التي انمازت بها رسالة ابن زيدون. وقد خرجت هذه المقاربة، مؤخرا، إلى الوجود من خلال مؤلف وسمه الباحث بعنوان: “بلاغة الحجاج في الرسالة الجدية لابن زيدون: من التوصيف إلى التوظيف”، صدر عن دار فضاءات الأردنية للنشر والتوزيع.
يعد الكتاب محاولة جادة تسعى إلى التنقيب في ذخائر الأدب الأندلسي، وكشف ما طُمِرَ من روائع هذا الأدب تحت ركام النسيان. ولا مراء أن هذا الهدف الآسر حدا بالمؤلف إلى اختيار جنس نثري توافرت له دواعي الاشتهار في بلاد الأندلس؛ إذ كان التفنن في كتابة الرسالة أداة موصلة إلى اعتلاء المناصب السامية، وتقلد المهام الجسام. إضافة إلى أن هذا الاختيار له ما يبرره سيما وأن ابن زيدون عرف بإجادته لهذا الفن النثري من خلال إبداعه لرسائل قرت في كتب الأدب وعند المشتغلين بفن الرسالة، ومنها الرسالة الهزلية التي كتبها ابن زيدون إلى صديقه ابن عبدوس.
تنقسم مادة الكتاب إلى قسمين: قسم نظري؛ قدم فيه الكاتب تصورا عاما عن بلاغة الحجاج بداية مع السوفسطائيين وأفلاطون وأرسطو، ثم مع شاييم بيرلمان وفيليب بروطون، كما فصّل القول في السياق التاريخي الذي أنتج فن الرسالة في بلاد الأندلس، والبناء الفني الذي حكم هذا الفن النثري، إضافة إلى رصد مواطن الائتلاف والاختلاف بين الرسائل الأندلسية والرسائل المشرقية.
أما القسم الثاني من الكتاب فقد اختص بتحليل الرسالة الجدية لابن زيدون، التي كتبها إلى ابن جمهور حاكم قرطبة، وقد كان وزيرا له، يستعطفه فيها، ويطلب منه إطلاق سراحه، تحليلا حجاجيا، توسل فيه الكاتب نبيل الهومي بالأدوات الإجرائية التي تتيحها بلاغة الحجاح، مثل الحجج، بنوعيها الصناعية وغير الصناعية، والسلم الحجاحي والتفاعل النصي ثم استراتيجيات الحجاج.
ومن بين الخلاصات التي انتهى إليها الكتاب أن الرجوع إلى الأصول الأولى لميلاد بلاغة الحجاج كفيل بتصحيح كثير من الأوهام التي ارتبطت بمؤسسي هذه البلاغة، وتحديدا السوفسطائيين الذين وسموا بسمات التغليط والتضليل، ولم تأت الدراسات التي قاربت بلاغتهم بأي مزية لهم، وتبرير ذلك أن الأحكام التي جُوبِهَ بها حِجَاجُهُمْ صدرت بأقلام خصومهم، كما أن إسهاماتهم القيمة في مجال الحجاح لم تخرج إلى حيز الوجود. وقد مكن التنقيب في بلاغة السوفسطائيين الكاتب من الوقوف عند إسهاماتهم القيمة من قبيل تقسيمهم الخطبة إلى أجزاء، وابتداعهم مفهوم الاحتمال الذي يميز وضعيات التخاطب بين الأفراد. إضافة إلى ذلك فقد كشفت الرسالة الجدية عن غنى ثقافة ابن زيدون وتنوعها، وبينت نجاعة حِجَاج المتكلم؛ إذ كان سرده للوقائع، على امتداد أقسام الرسالة، معززا بالأدلة والبراهين، ليقينه بأن الادعاء المعلل آكد في نفس المخاطب من الادعاء الخالي من الدليل.