محمد الكغاط بين الإبداع النصي والتمسرح الجسدي الدرامي

 إنجاز: د الغزيوي أبو علي

لا داعي للقول بأن اسم محمد الكغاط يشير إلى قطب من أقطاب التأويل، لأن ممارسته أصبحت متكاملة ومتداخلة سواء على المستوى العلاماتية أو التخيلية، حيث لا يمنع منحه تبني القراءة المضاعفة كأداة إجرائية واعية لهذا المتن التاريخي والمعرفي، والإيديولوجي، لأنه يسعى دوما إلى بناء تصورات جمالية لا متناهية، تجعل الوعي ليس كمعطى أولي، ولا مرتبط بالنص فقط، بل كفعالية دينامية في البعد الزماني، لأن العرض هو الذي يصنع الإنسان لغير ذاته، كحافز للمعرفة، وكفضاء ابستمولوجي بصري.

إن القراءة تجعلنا من هذه الشخصية نبراسا حاضرا برؤية بصرية، وحاضرا للمعرفة التي تندرج ضمن أسئلة الكتابة فالمؤلف يرسم للمؤلفات مؤشرات دلالية تنص على التأويلات التي يخضع لها هذا النص دون تصنيف وحيد.

قد تبدو لنا هذه القراءة الأولية غير منصفة، لذا يتطلب الوقوف عند هذا المتن كخطوة أولية وأساسية من جهة ومعرفة ناسخ مفسر، من منسوخ مبدع لأنه بدأ عاشقا، ورحالا ومتذوقا، وممارسا، وفنانا منذ بداياته الأولى، حيث بدأ قارنا، وانتهى تجريبيا، وجماليا، وهذه الرحلة الايستينقية البصرية جعلت المخرج لا يركن للنص بل سمح لنفسه أن يشكل أفقا لفكره المتنوع، وإشكالاته التمسرحية المعاصرة، والمخرج الكغاط لا يرتبط بتقويم الأعمال الدرامية وتأويلها بل يكشف القوانين الداخلية لأبنيتها وأنساقها الجمالية حتى تبني منهجا مفتوحا قابلا أن يستوعب كل الشرائط الفنية والجمالية.

إن تناول المخرج الكغاط لنظام الخطاب المسرحي يسمح لنا بالتمييز بين نمطين من القراءة نمط تقليدي، ونمط تجريبي جمالي، وعلى الرغم من أن الكغاط قد تبنى هذا التمييز في تناوله لعلاقة الخطاب المسرحي، بسلطة الركح، مشيرا إلى التداخل والتكامل الفرجوي بين هذين النمطين من التأويل وعدم تمايزها إلا من حيث الزاوية الجمالية التي ينظر منها كل واحد منهما لنفس الموضوع الممسرح، من جهة أخرى، فإن المخرج يتبناهما كأداة إجرائية واعيا بنسبيته ومحدوديته، هكذا عمل على مسرحة النصي؟ ولمن هذا التمسرح الإبداعي والجمالي؟ أسئلة غير مغلقة، تتناول الحقل المسرحي المغربي، والعربي بكل أبعاده الغير الأنطولوجية من أجل تحقيق هذه المتعة الجمالية التي تعكس مرحلة التبلور لهذا المشروع وبنفس الدلالة الركحية أيضا، حيث يظل فهمنا لهذا المشروع متوقفا على الإجابة عن السؤال التالي، ما هي طبيعة التصور الذي صاغتها التجربة عن الخطاب المسرحي؟ أو بعبارة أوضح، ما هي القواعد والآليات التي تحكم ممارسة المخرج؟ يكتسي هذا السؤال أهمية قصوى في الخطاب النقدي إلى حد القول، أنه يشكل لحظة موضوعاتية، واجتماعية ونفسية لفهم باقي اللحظات الأخرى من خلال خطاب المضاعف حول الخطاب الأساسي الأصلي عند هذا العبقري.

ونظرا للصعوبات التي تطرحها مسيرة المخرج فإن الخطاب المسرحي عنده لا ينحصر في الجملة أو القضية أو اللغة، لأن هذه النماذج التي تقترحها التجربة هي بمثابة شرط إمكان وجود هذه التحليلات ذاتها، لأن القراءة المضاعفة كما قلت لا ينبغي الوقوف عند النص وحده، بل في بعده المتعدد والمتنوع في شكل التيماتيكي المحسوس والمجرد في الزمكان.

فالمخرج الكغاط في ترحاله الفني جعل وعيه التجريبي يسعى إلى التمييز كما ذكرت بين القراءة كموضوع، وبين القراءة كفعل إبداعي “يختبر ذلك الموضوع ويدرسه ولا يقول بوجود تطابق بينهما”، مما يعنينا أن قراءة الكغاط هي قراءة بنائية وتشييدية للمفاهيم لكي تصبح علما جديدا، وذا بعد جمالي الأخاذ على مستوى الساحة المغربية والعربية والعالمية لأن المخرج من خلال هذه البيوغرافية يمكن حصر تجربته في مرحلتين:

1 – مرحلة الأرهاصات الأولية الدالة على فعل القراءة بصفته مفهوما يلح على الموضوعية وتفادي التبسيط والتسطيح خاصة في تعامله مع الأساطير.

2 – مرحلة التأسيس التي أضحت تفكر في ماهية القراءة النصية ككيان نظري ومنهجي.

فمرحلة التجريب التي أصبحت تفكر في النص المضاعف وككيان تطبيقي أمسى يسير في اتجاه تأسيس منهج ذي وظائف متعددة، وغايات مناسبة، فجعل هذه المرحلة الأخيرة من أشكال التجريب المعرفي والجمالي أرضية قابلة للانزياح والتأويل، وسؤال أنطولوجي يوجد بين الفكر والواقع ويرفض كل تجربة تتأسس على التجريب.

فمحمد الكغاط المؤلف والمخرج والفنان يظل يبحث في سلسلة مصطلحات يونانية وغربية وعربية من حيث مفهومها ومناهجها ونقدها، وذلك بدءا من الجانب الابستمولوجي الذي سيؤدي به إلى وضع شروط إنتاجية جديدة مؤطرة ضمن الإنتاجات المسرحية العربية، لأن ناقد الأدب هو المعرض لدخول عالم الإيديولوجيات، فالغاية من تقديم هذا المدخل حول تجربة محمد الكغاط يندرج ضمن المداخل والإطارات المتنوعة التي ستكون رؤيا نقدية وقرائية جديدة تنضاف إلى القراءات التي باشرناها مع عبد الرحمان بن زيدان، وعبد الكريم برشيد.

فالمخرج يرتبط بإبداعية الإبداع لا للإبداع ذاته، لأنه كان من العسير تبني منهج معين، لأن المخرج انخرط في التجارب الحديثة، والمعاصرة لتكون تجربته معرفية، وذوقية وتأملية ركحية في أفق سردي مفتوح، يقدم لنا احتمالات جديدة أكثر لعالمنا ضمن الممكن، فأصبحت هذه التجربة ذات العلاقة الوظيفية بين الذات والموضوع، ومن ثم فهي تساعد على اكتشاف العوالم الممكنة لقد صاحب هذا الانعطاف التجريبي النوعي في الكتابة الركحية من حيث الظهور وتجلي وعي ذوقي جمالي، أي إذا كانت الكتابة البصرية قد حققت تراكمها الكمي والكيفي وتحولها الجمالي، والبلاغي، والتلقي فإنها أيضا قد غدت مجالا خصبا للبحث والتجريب الذي يمتاح رؤاه من مختلف المناهج المسرحية والنقدية والمفاهيم الدرامية باختلاف منطلقاتها الإيديولوجية والأدبية وبمرجحياتها الاجتماعية واللغوية، وتجربة الكغاط قد ساهمت بشكل عميق في تحقيق تراكمها الكمي وتحولها النوعي، فهذا الوعي الوجودي يشكل قانونا ومبدءا يبعثر ويوزع الخطابات والصياغات الفنية قصد بناء رؤيا متشابكة ومتداخلة التي تكونه وتعطيه السمة الخاصة التي تميزه وتطبع وحدته التمسرحية عبر الزمان والوجود، والقيم، والمعرفة، لأن قواعد التكون الركحي، تشكل مفهوما أساسيا بالنسبة للتجارب التي تخضع لها هذه القواعد، والصيغ التعبيرية والاستراتيجيات، وكذلك التجريب داخل توزيع الخطاب كمعطى حسب “فوكو” في كتابه “ميشيل فوكو” ص30، فهذه التجربة هي خطاب يتمحور حول مجموعة من النظريات والموضوعات التي تشكلت من خلال تكون مجموعة من الأنوية النصية التمثيلية والصيغ التعبيرية، وهذه النظريات التجريبية هي ما ندعوها بالاستراتيجيات الجمالية، لأن هدفها هي كيفية توزيع هذه الاستراتيجيات الركحية عبر التاريخ المسرحي، وهذا التوليد الركحي هل هو رصد قوي أم ضرورة أو رغبة حتمية أم منتظم بصري، كتوزيع الأدوار – الديكور – اللغة – الشخصية – الإنارة – الموسيقى؟ فهذا الخطاب المتعدد يغدو خطابا يرفض أن يكون اكتشاف للمعنى، ووصفا برانيا على غرار فلسفات الذات، وبهذا المعنى فإن الاستراتيجية التمسرحية التي سلكها المخرج تكون صيغا تعبيرية للذات العارفة، ومشروعا نظريا يتمتع بالتاريخ وبالممارسات الأخرى الهادفة.

إن رفض النظر إلى خطاب النص باعتباره آلية كسولة كما يقول امبراطوايكو في كتابه القارئ الضمني، فعن طريق إبراز الذوات المتنوعة والتداخل مع الممارسات الخطابية الدرامية، جعلت القواعد والتحويلات الجمالية مكونا من مجموعة من العلاقات التي تنظر للنص لا في فرديته، بل في ترابطه وعلاقته الفرجوي والجمالي، زالإنساني الكوني، وانسجاما مع هذا التصور الجمالي فإن تجربة محمد الكغاط لا تسعى في رصدها المنظومة الكلاسيكية الأرسطية إلى إبراز عناصرها المتنوعة بقدر ما تسعى إلى تشتيت ترابطها العلائقي والمعياري لخلق تمايزات أرضية التي تتسم بها التيمات، بهذا الاهتمام البالغ بالعلاقات الجمالية والمعرفية والبداغية، واللغوية تكون هذه التجربة قد فتحت أفقا جديدا لتناول الممارسة المسرحية، أفقا لا يمكن أن تفسر فيه الأحداث بشكل ميكانيكي أي انطلاقا من دلالتها، ولا من ايقاعها بل من خلال الممارسة المضاعفة لتكون خارج لعبة الخطاب أو الدلالة، أي احلال لغة العرض محل لغة النص، بمعنى أنها ترفض أن تكون رؤية تفسيرية على غرار ما تقوم بها فلسفات مسرحية ذاتوية، وهذا راجع إلى كون أن المخرج لا يمثل لنا سوى معنى سطحي ومخادع، فالخطاب حسب هذه التجربة يتجاوز كل نزعة إنسانية أو فزيولوجية، معتمدا على الندرة بدل الوفرة، ويعيد النظر في الممارسات الركحية الكلاسيكية في بعدها التصوري البنيوي، التقليدي، فالتحليلات التي نهجها المخرج مع الخطابات النصية ككلية لا تنطوي على وفرة كما ذكرت، بل يرى أن الخطابات مؤولة لا تتلاحم إلا لتكون نظرية للعوائق على الرغم من تبنيها الكلية، ولا تحاول أن تظهر هذه التشكيلة الخطابية كبعد تفسيري فرجوي، بل تحاول أن تبرز العلاقات الأيقونية التي تقيمها هذه التشكيلة الركحية الجديدة مع خطابات الممارسة، لأن تيمة الولادة الإخراجية لا تقف عند المقولات التي ترتبط بالمناهج الوصفية بل تعكس الداخل الذي ينطوي على الذات المؤسسة سواء كانت فردية أو جماعية، ولهذا فإن عملية التأريخ الجديد أصبح صياغة جديدة واكتشاف داخلي لتوضيح دلالته وصقل بلاغته، وهذا يمكن اعتباره منطلقا جديدا في الظهور كأحداث، وكرؤية جمالية لا تعتمد البعد العقلاني المنطقي في قراءاته التمسرحية.

إن المخرج محمد الكغاط يعمل على تعليق أفكار النسيان، والأصل الضائع لتتحول إلى أنماط الوجود لبناء منظومات تشكيلية معينة بعيدة عن الخصوصية الفردية، ومقتربة من الوضعية الجديدة التي تتغير بفعل الانتقال من عتبة إلى عتبة أخرى.

  • المخرج بين اللاواعي النصي والرؤية البصرية.

إن تجربة المخرج محمد الكغاط لا تقف عند حدود النص، ولا تاريخ الفكر النصي باستعراض التصورات والتحولات التي شاهدها البعد التيمي، غير أن وعيه لهذا الولوج لم يكن وصفا بانوراميا، بل كان دخولا إبداعيا نقديا سواء تعلق الأمر بالقراءة أو بالفكرة، لأن يحيل إلى النشاط التركيبي للذات الثاقبة، وإلى التساؤلات عن المشروعية الجمالية، وذلك من خلال أوجه الاختلاف بين التواريخ، غير أن إقرار بهذه الصعوبة التي تواجهنا أثناء الكتابة لم يمنعنا بأن الفضول المعرفي والنقدي دفعنا إلى فهم التصورات الخفية المتعاقبة لتاريخ هذا الفنان، لأن تاريخه لا يبتعد عن تاريخ الفكر (النشاط – التطور – الكلية) ليقربنا فيه الجديد، والأصل المفتقد في التجارب السابقة، فز من الأسئلة كما تدعي الحفريات قد ولى، وانتهى ولم تعدلها قيمة إلا داخل النمط التاريخي التقليدي، ومرد ذلك حسب هذا الطرح إلى كون الانتظام الذي يخص هذه التجربة تختلف عن الذي يتحدث عنه الانتظام التجريبي هو عبارة عن شجرة الاشتقاقات التي توجد في شكل خطابات وتشكيلات غير مغلقة، والتي ترسم لنا خطاب فرجوي لا زماني في الزمن، وهذا ما سمح لنا بتفكيك الاتصالات التعاقبية التي يتحدث عنه الفكر التقليدي، كبعد مطلق، فتجربته هي ممارسة لها أشكالها الخاصة سواء في بعدها التسلسلي أو في الفجوات، والثغرات، وأفقا يلح على الانفصال بدل الاتصال، لأن هذه التحولات لا تصيب النص الدرامي وإنما تصيب قواعد البناء، بحيث تصبح الفضاءات تخضع لقواعد تكوين جديد.

يتبين من خلال هذه السيرة البصرية، أن الكغاط لديه رغبة عارمة في الرحيل إلى فضاءات سمعية ومرئية، بهوية لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، وهذه الرحلة هي دائمة الجديد لا موطن لها، بحيث لا ينقطع عن البحث عن الحقيقة، والمعرفة، إنها رغبة وإحساس، واحتراف لا ينطفئ نوره، واحتراقه، فهو شغوف للولوج إلى الحقيقة، وإرادة للمعرفة للوصول إلى المفتقد، فمحمد الكغاط أسهم في تفكيك الرؤية الانغلاقية وجعلها دينامية ومسار تطور في العصور والأزمان، لتأخذ بعدها التراجيدي والملهاوي الإنساني.

فاقتحام عالم القراءة والكتابة الركحية جعل فعل القلق يمنح لذاتيته منحى الشجاعة والبداية، وطاقة تتجسد على مستوى المتخيل، إنها رحلة إرادية، وانتماء للمسرح ليخترق حدود الأزمنة والأمكنة،وينسج تفاصيل لهذه الذات كرحلة موشومة على الذاكرة والجسد، لأن الرحلة المعرفة هي أحد المفاهيم في تصور الكغاط للمسرح، والفن، ويقصد به كل الجوانب التي من شأنها إعادة النظر في مقولة الجانب التجريبي والجمالي في الفن المسرحي، لأن النظريات السائدة غالبا ما تعطي الأولوية للأفكار، والمضامين على حساب الأبعاد الجمالية والإنسانية، وعليه فإن هذه الدعوة يمكنها أن تتمظهر مستوين:

  1. التصور الكلاسيكي الذي يعتمد النص كعملية استباقية وإطلاقية يكون فيها المؤلف هو المهيمن.
  2. التصور التجريبي، هو الذي يكتسبه المخرج من خلال تصورات ومفاهيم جديدة بالنسبة إليه.

فهذان البعدان لا يرتبطان بالمؤلف، والمخرج، بل لابد من معرفة المتلقي بكل تصوراته ومعارفه الخاصة به، وبقناعاته سواء أكانت قناعات فكرية أو سياسية أو جمالية فلسفية أو …

فالقراءة عند المخرج محمد الكغاط ليست عملية للتعريف على الحروف وبناء النص، والتلفظ بالأصوات، والتركيب الجملي بل أصبحت القراءة عنده إثبات ووجود ووظيفة ووفاء للانهائي وتفسير للوجود بما هو موجود، ومحاولة لمعنى الحياة بتجربة القراءة، وبالتالي أصبح مركز للاهتمام للنظريات وللتجارب المسرحية والتلفزيونية باعتبارها عملية لبناء المعنى وليس اكتشافه، فهذا الفعل هو بمثابة عملية توليدية وبناء تساهم فيها الذات المتعلمة بنشاط وفعالية حسب نوعية القراءة بكل أنواعها وأسئلتها ومفاهيمها وحجاجها.

  • المخرج والإيديولوجية:

ظل النقد المسرحي لعصور قديمة مهتما بالمؤلف وعلاقته بالنص، ثم جاءت بعد ذلك موجة جديدة التي سميت بالبنيوية والتي نادت بموت المؤلف، وظل اهتمامها على النص وليس شيئا غير النص، فظل القارئ مهمشا في كلا المنهجين – التاريخي، والبنيوي – مما سيؤدي إلى بروز مناهج جديدة تعيد الاعتبار لهذا المتلقي، وهي جمالية التلقي التي ظهرت مع “ياوس وإيزر”، فحظي المتلقي بأهمية داخل خطابها رغم الاختلاف الاصطلاحي والدلالي بينهما، فالكغاط اعتبر أن المتلقي هو المراد معتمدا استراتيجية تواصلية على المستوى الاجتماعي والسياسي، لذا لا يمكن دراسة هذا المتلقي إلا في إطار التنوع المنهجي الذي عرفته الممارسة النقدية في الغرب، فهذا التلقي يؤسس تصوراته الفرجوية على التعددية المنهجية أو على المنهج الواحد، فبعض الدراسات استفادت من المناهج: كالمنهج النفسي والاجتماعي في تحليل المتلقي، كمحمد النويهي، واسماعيل عز الدين، وعبد الرحمان بن زيدان، وعبد الكريم برشيد، وجورج الطرابشي، واستفاد المخرج من هذه المعطيات النقدية ليخلص إلى الحكم على توجه العمل الدرامي، واختيار استراتيجيته المضمونية وتمحوره حول الموقف السياسي أو الاجتماعي، ومن هنا تعرض المخرج لأثر القشية الفلسطينية وهزيمة يونيو 1967، وعلى موقف الحكام والكتاب على غرار ما نجد في مؤلف “نبيل سليمان” و”بو علي ياسين” في “الأدب الايديولوجيا”، كما أن النقد استفاد من مقولات الشكلانين الروس وامتداداتها عبر رولان بارت، وتودورف، وكريستيفا، وفوكو، وغيرهم، فالكغاط علمنا كيف نفكك النصوص لنعرف من يتحدث، وكيف تتحدث، ولمن تتحدث.

فالممارسة الإجرائية لا تقف عند منهج واحد كما ذكرت، وإنما تعاملت مع عدة مناهج متعددة الرؤى، حيث ساعدته على استخلاص الأبعاد الإيديولوجية والحضارة التي ينطوي عليها النص الدرامي، بالإضافة إلى التطور السردي الذي لا يلغي القيم العقائدية والفكرية في النتاج الركحي وعلاقته بالواقع.

فاختيار العناوين المسرحية حظيت باهتمام كبير على المستوى الإبداعي والتحليلي، لأنها تحمل وظيفة مرجعية للمؤلف، بحيث يعتبر النص توسعا للعنوان وامتداداته في الواقع وفي المتخيل الشعبي، لأن المخرج يمزج بين البناء الداخلي للنص والمكون الاجتماعي، والنفسي، وبين القضايا التي تفرض نفسها من خلال هذه المسرحيات، والتي تعلن عن هموم الذات المبدعة، والمجتمع، لذلك نكتشف أن المخرج لم يقصد من وراء ذلك اغراء المتلقي العربي وإنما تعرية الواقع العربي، وإحاطته الشمولية بمختلف مكوناته، وايديولوجيته وقيمته المعرفية لتبرز في التمسرح، والتأويل، باعتبارهما يطرحان بصلابة وجدية مجموعة من الأسئلة التي تتعلق، بالمبدع العربي، وبالواقع وبالإنسان، وبالوجود سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون، طارحا أسئلة يقظة تتصف بالتعقيد كما في مسرحية “الأساطير”، واختياره لهذه المسرحية ليس محض صدفة، وإنما عن وعي لا سيما وأن المرجعية الايديولوجية الخاضع لها هي امتزاج من تصورات قرائية ومعرفية وادراكية، بطريقة تجعل التيمات تتميز أحدهما عن الآخر، وهذا ما دل عليه قول هانس روبرت ياوس “إن العمل الأدبي معيار لتحديد قيمته الجمالية وذلك من خلال وقعه على القراء سواء كان ملبيا لتوقعاتهم أو متجاوزا إياها أو مخيبا لآمالهم”، ومن الواضح أن المخرج طرح ايديولوجية جمالية عربية من جلال شواغلها بمحورهما الثقافي والسياسي، وسواهما من العيش العربي خلال العقود الماضية من خلال الحرب العالمية، والعلاقة مع الآخر المهيمن، ويعني هذا أن الأبعاد الايديولوجية هي إجابة عن تصورات المسرح الحداثي ومميزاته سواء فيما يخص الشكل أو في البعد التكويني العربي، أو فيما يخص المضامين المتنوعة التي تناقشها المسرحيات كمسرحية “أساطير معاصرة” باعتبارها إنجازا تحديثيا وايديولوجيا أكثر من باقي الفنون الدرامية لكن ترى ما هو السبب في اختيار هذه المسرحيات كموضوع للدراسة غير، ولماذا البعد الايديولوجي كبعد سردي يخضع للتحديث، وكعلامة متميزة؟

إن المخرج الكغاط قد خصص هذا المجال التمسرحي للنقد لكي يصبح علامة كبرى في العمل المؤول المرتبط بالواقع وبالمجتمع، لذلك لم يستطع أن يتخلص من ضغط الايديولوجيا ومن سحرها، إذ ربط حضور الخطاب المسرحي بكل ألوان الإبداع عبر تمثل الذات، والسعي بها نحو تأسيس معرفة نقدية التي تتأسس بواسطة الأنا والهوية الاجتماعية والثقافية وخاصة نراها في تلك المنعطفات التاريخية في سيرته الذاتية والتي تتسم بتعدد الرؤى والمواقف، مما يجعل حضوره بشكل قوي في نصوص الذات الممسرحة، والتي تنطوي على بعد بيوغرافي، وعلاقتها بالذاكرة وبالتجربة الجماعية والتاريخية، فالخروج من نطاق هذا التقليد والاستهلاك والادعاء، والبناء النرجسي واتجاه التهميش والقمع الثقافي، جعلت المخرج يدرك العمق الإنساني المعقد، ولا معقوليته الصارخة، فكانت هذه المسرحيات انسلخت من ذلك كله لتصبح كتابة ركحية، ومغامرة حداثية التي تسمح له بإنجاز تركيبات فضائية ليستوعب التراث وأسراره اللغوية، فهذه الصورة لا تنفصل فيها النظرية عن الوقائع، بل تصبح نظرية اجتماعية تساعدنا على الدراسة والتوجه المنهجي، إن المخرج يهدف إلى فهم الواقع الذي نعيش فيه، والمساهمة في تطويره، وإذا كان فهم المجتمع لا يتيسر إلا من خلال الدراسة الفعلية.

ويتجلى هذا التأثير في كتابات موريس أبو ناضر ويمنى العيد، وأدونيس، وليزا قاسم، فالمخرج في تردده بين البنيوية والبنيوية التكوينية قد أدى به إلى عدم الاستقرار على عتبة واحدة، بل سمح لنفسه للانخراط في النصوص الدرامية المتنوعة بخلفية ابستمولوجية مؤطرة بأبعاد اجرائية ومعرفية، لأن اللاواعي الذاتي أضفى عليها نوعا من التعمق بمجرد تطبيقات آلية لخطوات إجرائية ركحية يتجاوز نطاق المهارة النصية ليطال طرح الإشكالية العربية والحساسية الجمالية المرتبطة بحقيقة الواقع العربي والحضارة العربية، وما تستوجبه من تعديلات فوقية لجعلها ملائمة لواقعنا الجديد، وكثيرا ما لجأ المخرج إلى تبني هذا التنوع دون تحديد أسسه وأدواته الإجرائية، لكن تحديد هذه الأسس المنهجية والايديولوجية يتم غالبا عندما يمسرح النصوص كمسرحيات “الممسرحة على الركح”، فهذه الافتراضات التي تحتويها تجربة الكغاط تعكس بطريقة أو بأخرى التوجه الايديولوجي، والتزاماته الاجتماعية، كما أنها تمارس تأثيرها عليه وعلينا في مجرى دراسته لأية مسرحية اجتماعية وذلك اعتبارا للعلاقة الأنطولوجية التي تربط البعد النظري بالبعد المعرفي في ميدان التمسرح البصري، كما أن توليدات المخرج تمارس توجها اجتماعيا يربط بعضها بالبعض في شكل نسق فرجوي يأخذ صورة الإطار الايديولوجي للباحث.

فإذا كان الكغاط سيسلم بالجوهر المادي للواقع الاجتماعي كواقع متغير ومستمر حيث يتضمن صراع الأضداد باعتباره صراع جدلي الذي يحرك التاريخ والمجتمع البروليتاري، كما أنه سيعتمد البناء الاجتماعي بنية أساسية لفهم البعد التاريخي، معتبرا أن الفرد وخصوصيته الثقافية والعقائدية والنفسية عبارة عن متغيرات تفترض أن الإنسان قادر ليس على تفسير واقعه، بل على تغييره وذلك عن طريق فهمه للقوانين المادية التي تتحكم فيه.

  • المخرج والخطاب التجريبي:

ينحو المخرج “محمد الكغاط” منحى نقديا حيال الذات والواقع، وتفاعلهما الفني مع البنية المستخلصة، إذ يعتمد على مؤشرات تاريخية، وفنية كمرجعية تناصية تقوم على أسس تجريبية، تكشف عن جذورها الباطنية وأبعادها الداخلية في البنيات الأساسية للمتون النصية التي قام بدراستها وتمسرحها كبغداديات، وأساطير معاصرة وكان حضور البعد التجريبي ذو المرجعية التاريخية، والواقعية ضمن بنيات تناصية عبر العلاقات الجدلية بين المتخيل النص، والتمسرح الركحي، وضمن هذه التوليدية يبني التجريب دلالته الفكرية والفنية معا، وبذلك يتجاوز النص الدرامي من أجل تأسيس رؤية اجتماعية وسياسية، يكون فيها هو المبدع، والمهندس الصانع، وهذا يعني أن التفجير الذاتي أخذ تمعنا في مساءلة شكل النص، وبالتالي الانكتاب في المكشوف لخلق لعبة الفضاء الركحي الجديد، فهذه الأسطرة للواقع وإخفاء البعد الغرائبي على الوقائع، جعلت الرؤية التجريبية تتحاور مع المألوف لتؤسس العجيب، والممكن على خشبة الواقع وليصبح النص الموازي واقعا مسرحيا مع استخدام البعد التناصي إحدى التقنيات المميزة للرؤية التجريبية وكتحاور بين النص المضاعف ونصوص أخرى تتناص مع التاريخ، والسياسة، والثقافة، وهذا ما أكده في “أساطير معاصرة”، و”جحا المحامي”، وفي بعض الأعمال الأخرى، لأن التجريب هو استثمار وكتابة جسدية، ولغوية وعلاماتية تبنى الرؤيا بمعمارية غرائبية، وبعشق يضيئ تاريخ المسرح، فاهتمامه بحضور النص المضاعف كتأويل جديد، لا يتحكم في أفق انتظاره إلا عبر هذا التأمل الباطني وعبر هذا التشظي، الذي يرصد حضور الممثل على الخشبة كخطوة مبدئية يغديها، ويمدها بالطاقة الإبداعية وهذا ما يجعلنا نستكشف أن لعبة التجريب لا تكون خارج الذات التنظيرية الإخراجية في تأثيث الفضاءات، والمسافات التي تكون نفسية، إنها تمثل لغة دراماتيكية لا تعتمد التيه والرعب، بل مشحونة بدفعات الوعي الإبداعي التجريبي، ويكون ذا طابع ضارب في التاريخ المسرحي ينبتق في لحظات الماضي عبر استرجاع واشتغال الذاكرة أو عبر التوليد بمفهوم كريستينا الذي يكسر نمطية الزمكان، معتمدا فعل القراءة المضاعفة كعتبة عليا لليوم، والكتابة الركحية، وكزمن لا واعي النصي والمناقض للموضوعي النفسي، يكمن سر اهتمام الكغاط بالتعدد التجريبي في كونه شديد الارتباط بالواقع، والحدث، واللغة، والإنسان، فينسج عبرهم سحرا وجوديا، وجماليا فهو ملح الإبداع وقوام الشخصية، مما جعل هذا الفعل التكتيفي كما قلت خلقا إبداعيا، وصيغة تعتمد الإيحاء والإقتصاد على مساحة الركح، لأن محمد الكغاط أراد أن يستنطق العالم الخارجي لجعله عبارة عن رؤى تمسرحية كما في “النواعير”، بغال الطاحونة” و”بشار الخير” و”ألكترا” و”مرتجلة شميشا” و “الشجرة الناطقة”، وهذا التنوع التجريبي لون المداخل والاستنتاجات المتنوعة وساهم في تكوين هذه العملية الإخراجية، وكل هذا يتبين لي أن النصوص الممسرحة قد غيرت من أنماطها المعمارية الكلاسيكية لتتخذ تيمات تتوالد من خلال السرد والفراغ النفسي، والعبث، فهي تيمات تجريبية منبعثة من السواد النصي والاغتراب التأملي الذاتي، واللاواعي الاجتماعي، الشيء الذي جعله يرى في التجريب مشهدا آخر ضمن الواقع يتحقق وجوده بمجرد التفوق في أداء وظيفته الجمالية، ولعل هذا ما يجعلني أن أقول بأنه لا يركن إلى جانب النص وحده بل يعتمد المغامرة والمشاركة القرائية، واللعبة التمسرحية، والتدوين الجديد، وهذا الفهم لا يستدعي الاستغراب الذي لا يسمح ببعد المسافة بين النص والمتلقي كتيمة مركزية التي تتخطى إمكانات المؤلف المسرحي، لأن هناك إضاءات توجد في مواطن الذات، وفي البناء التجريبي الحداثي، لأن هذه النقلة النوعية أصبحت عتبة التفكير في قضايا وإشكالات ما تزال في حاجة إلى التفكير في قضايا إنسانية وإشكالات حاضرة وماضية والتي ما تزال في حاجة إلى التفكير العملي، وليس المطلق لقضايا الإحاطة بها في مسرحية واحدة، إن التجريب عنده هو عبارة عن عتبة مفتوحة على الحداثة والنهضة والواقع، تفرض نفسها على مستوى صيرورة الإبداع الثقافي، وعلى المستوى الميتانصي الدرامي لتكشف عن مناهج نقدية وإبداعية لتتضح من خلال ما يلي: أسئلة الواقعية المادية، أسئلة الوعي الذاتي والعربي، المسرح والإيديولوجيا، المسرح والتجريب، المسرح والحساسية الجديدة، المسرح والممثل المضاعف، فهذه العناصر المكنونة للبنية التجريبية كلها تهتم بكل العناصر المكونة للبنية الداخلية، ثم العلاقة الدينامية بين العمل الدرامي وفضاءه وهذا ما يميز الاتجاه التجريبي الذي يعتني بالكيفية التي يظهر عليها العمل الممسرح، فتصوره للدرامي هو تصور يرتكز على كيفية لا كمية وحماسية لا سطحية، وهذا ما يهدف من وراءه المخرج بالجماليات الركحية، رغم أن البعد التجريبي يهتم بالكم أو المضمون هو الذي يلعب الدور الجوهري في تكوين الوعي الجماعي، وتأسيسا على هذا التصور تم إرساء الخلفية الإبداعية الركحية التي تنطلق منها كل المقاربات التجريبية عمده كما عند لويسان كولمان وبيير زيما، وجاك لينهارد، وعبد الرحمان بن زيدان، وعبد الكريم برشيد، وحسن العلوي المراني، وبلهيسي، وابراهيم الهنائي.

  • المخرج بين سلطة النص وشعرية الركح:

إن الكغاط لا يكتفي بالنص وحده، بل يجعله معرفة غير ثابتة، وغير نهائية، بل أدرك أن النص هو الذوق والمعرفة والتجدد والأخلاق وملاحقة الخيال كما في مسرحياته.

فهذه المرحلة البينية لا تكتفي بالاعتماد على نهج واحد وبشكل مطلق، وإنما هي ضرورة متنوعة لا ترتهن بالذوق وحده، بل تؤسس للقراءة المضاعفة التي تنهض على مرجعيات نقدية عاشقة، تقدم الفعل الإبداعي المسرحي كإدراك لهذه الخاصية من حيث هو بناء أساسي لتقبل الواقع كما في نداء المسيرة، لأن المخرج لم يرتبط بالجانب النقدي وحده، بل عمل على مسرح الواقع دون نفي عنه صفة الإبداعية الذوقية كما في مسرحية “إلكترا”، حاول فيها أن يحاكم الواقع من خلال أقنعة لا متناهية وزئبقية يدرك فيه الواقع العربي الذي هو حوار مفتوح وغير منجز، ومرد ذلك إلى نفسية الجمهور ومشاركته في نسج رؤيا لهذا الموقف، إنها مشاركة نقدية تؤثر في الواقع، وتشكلنا مثلما تشكل الفنان من ذي قبل، وهذا يعني أن المخرج ينطلق من خلفية ايديولوجية تحرك شخوصه وإبداعاته، ودراسته النصية، بالإضافة إلى العناوين التي ذكرتها، يعطينا انطباعا ليجعلنا ندرك مواقفها وملامحها اللاخطية النقدية والتمسرحية، إذ يهتم في تمسرحاته للعمل الدرامي بعناصره المكونة للبنية الداخلية والعلاقة الدينامية بين العمل الممسرح وواقعه كما في مسرحية “الحقارة”، وهذا ما يميز اتجاهه الجدلي الذي يهتم بالكيفية التي يظهر عليها العمل المعروض، على الركح، لأن تصوره للعرض هو تصور يرتكز على مخاطبة الواقع بجماليته ولغته الدرامية برؤية تغريبية وتجريبية، معلنا أن النهضة الدرامية لا تتم إلا بالوعي الجماعي، وتأسيسا على هذا الاتجاه العملي (المضموني) ثم إرساء الخلفية الفلسفية، والحضارية والسوسيولوجية الجدلية.

إن السمة الأساسية للتاريخ الدرامي تتحدد أساسا في تنقل مستمر، مرورا من العائق الواقعي، إلى الممارسة الاندماج في الخطاب المغاير، بحيث يلعب هذا التصور التكويني الجدلي دورا في انسياب اللغة في الذات، والإنسان والتاريخ، فالمخرج محمد الكغاط فتح المجال لهذه الذات المبدعة لتكون رؤية استمولوجية لهذه الذوات، جاعلا منها رؤى لا تتحدث عن ذاتها، بل تقترح قواعد تكوينية جديدة، نظرا للتحولات الاجتماعية المستخلصة كما في المسرحيات، “بغداديات”، و “النواعير” 1970، و “بشار الخير” 1978، ومثل “دورك” 1980، و “فلاش باك” 1980، و “ابو الهول الجديد” 1985، و “مرتحلة فاس” 1988، و “مدينة بلا مسرح”، “أساطير معاصرة” 1992، و”مرتجلة شميشا”، و”جحا المحامي”، و”رجل ورجل” و”الوقوف في مرتفعات الجو”، وغيرها من المسرحيات، إذن فهذه المتون الدرامية جعلت، هذه المرحلة التمسرحية في وضعية مغايرة، تتجاوز فيها هذه التجربة إشكالية المفاهيم الكلاسيكية، لتترك مكانها للنهج الاحتفالي التي تعيش عصرها الذهبي في الانتولوجيا والتاريخ، وعلم الاجتماع، والتراث، وهذا الانفتاح جعل هذا النهج عتبة جديدة تفصله عن الفكر الكلاسيكي، وبالتالي تجعل حداثة العرض هو محصلة الأسئلة بالأجوبة، والحداثة بالاغتراب، والأصالة بالتجربة، ويتم الانفصال بين المهيمن والمهمش، لأن المقامة القردية هي محاكمة للفكر والعقل، واختلاط النهايات بالبدايات، وهذه العملية التمسرحية شكلت خيارا ورؤى متشابكة، يعلن فيها الممثل الهرب من مواجهة الحاضر، عبر اللجوء إلى صياغات بلاغية، لجعل الإنسان في الموجهة مع الواقع كخلفية تركيبية، بعضها يعلن اللاعقلانية، وبعضها يبرهن في جنون طوائف الأحلام والخيالات ويقول حسين الفطواكي في هذا الصدد.

إن معرفة فعلية بالأوضاع الثقافية القائمة بما هي أوضاع ملموسة للصراع الطبقي الايديولوجي، بل تنحصر وظيفته الأساسية في طمس العلاقات الفعلية التي تنظم الممارسات الثقافية وتحددها، وهذه الوظيفة سياسة لأنها شرط أساسي لإحكام العلاقة السلطوية في حقل الممارسة الثقافية وإخضاع الممارسة الثقافية للجماهير للممارسة الثقافية للطبقات المسيطرة“، وانطلاقا من هذه المنظومة الفكرية نستنتج هذا النوع من التمسرح الإيقاعي والإبداعي، أن تجربته بنيت وفق السياق الثقافي المغربي والعربي والغربي، لأن التغيير يشكل انزياحا مستمرا في التجريب والتأويل، وهذا يعني سوسيولوجيا أن المخرج الكغاط المبدع وعى موقعه الاجتماعي والثقافي، مما دفعه إلى التغيير عن الإحساس عنه كذات قارئة كما في مسرحيته المذكورة، لأن توليد هذه المسرحية على الركح جعلت العرض عبارة عن سيرة ذاتية المرتبطة بالواقع وبتجربة الذات والذاكرة الفردية، وفي نفس الوقت تتمسك بأصوات الشخصيات ليبقى حضور المثقف كدور وكوظيفة داخل المجتمع، غير أن هذه المسرحية هي وثيقة اجتماعية أكسبت للمخرج رؤى متنوعة، وإثباتات تعبيرية مغايرة لما هو كائن، لأن التجربة هي التعبير عن أرائه ومواقفه من اللغة ومن الظواهر السياسية، إلا أن هذه الصورة لن تكتمل إلا بحضور رؤية المخرج التي تكون ناتجة عنه وفاعلة فيه، فالمخرج الكغاط يطمح دوما إلى تثبيت وجوده رغم الحصار والتهميش الذي عرفه المسرح منذ بداية الثمانينات، ويعد من الأقدام التي كسرت هذا الأفق المغلق، لتنخرط في القراءة الركحية والكتابة المغايرة للأصل / المؤلف، ولتجعل الأوضاع الاجتماعية هي الناطقة كما قلت في وجدتك في هذا الأرخبيل وبشار الخير، وبغال الطاحونة، حيث ساهم مساهمة فعالة في إبراز التيمات: كالصراع الطبقي، والخداع، والنفاق الاجتماعي، وفي هذا المناخ الاحتفالي تميز محمد الكغاط باتجاهه المتنوع دون الالتزام المنهجي المعياري التقليدي، لأن القضية الإبداعية الممسرحة ليست قالبا مفرغا يفرغ المضمون في الممثل، بل يأخذ المضمون لباسه المتجدد والمتلون، كما يتحرك الحدث والحوار واللغة والشخصية بارتباط كلياني مع التقنيات الفضائية المفتوحة التي تفرض نفسها داخل أعماله فنجد المجتمع – الإنسان – التاريخ – الوطن – الحرية – العدل، فهذا الاختيار التيماتيكي هو اختيار يعيد أزمة الإنسان في الوطن وداخل مجتمع بتاريخ مؤدلج، وبلغة سطحية وحرية فطرية غير مكتسبة، مما منح الخطاب الإيديولوجي لكي يوجه الرمح صوب سلطة النص، لأن المخرج في مساره الدرامي اعتبر أن الإيديولوجية باب مشرعن أمام الكتابة كفعل للتضامن التاريخي من أجل أن يملك شعبنا كل شيء، فالتصور الدرامي العاشق لدى المخرج هو بنية مشتقة لها اشتغالها الدلالي الخاص، ومستوى يروم فيه الإنتاجية التيمية والإيروتيكية لهذه البنية الركحية، تتخطى المتاريس، لتتجه إلى الأثر المسرحي على الواقع، وهذا الانعكاس هو مكون من سؤال هل هو احتفالي؟ دعوة مفتوحة تفترض في المسرود له، أن يساءل تجاربه الدرامية التي تفضي به إلى سلطة الاحتفالي، لأن كل شخصية مبدعة تتأثر بالكائن والممكن حسب تعبير هومي بابا في كتابه الثقافة ص200، وهذا التأثر أمده بالتميز ليكتسب خصوصية حقيقية بعد هذه المرحلة التي ذكرتها، لأن الرؤى تتقاطع في اللحظة وفي الإخفاق في تحقيق التكامل، تميز لا يولد نقيضه المرتبط بالكراهية، بل في رؤية الأشكال والأشياء التي لا تختزل في الزمن المغلق والنهائي، فليس للماضي قيمة، بل الساعة التي أنت فيها حسب بعض الشعراء، ويقول حسن المنيعي: إذا أردنا أن نحقق لمسرحنا طفرات بعيدة المدى، فإنه يتحتم علينا ألا نؤطره في شكل واحد، بل أن يجعل الابتكارات سواء كانت مستمدة من التراث أم لا تعكس إحساسات شعبنا، وتطرح قضاياه وتعالج انهماكاته، وتهتم بتفتح الجماهير وإجراء كل فرد.

وانطلاقا من طرح حسن المنيعي، يبدو لي أن محمد الكغاط لم يكن جبريا ولا قدريا، ولم يجرم المسرح، بل عمل على احتواء الطاقات الإبداعية تحت سلطة التأويل، مما أكسب لتجربته أبعادا يستحيل الاتفاق على تحديدها بمقاييس تحدد كونه مقلدا أو محاكاتيا، وهذه الرؤية في توصيفاتها تتميز بالتجربة المتعاقبة والمتواصلة مع الإنسان والتاريخ، لأن هذا الوجود الإبداعي لا يستوعب إلا من خلال الصفات التي تسمو على الفردانية، وتساهم في خلق مجتمع متجدد، ويقول المسكيني الصغير: “إن التراث كما نعلم اليوم تحميه مؤسسة لا تترك لأحد حرية التأويل، فمن أراد أن يحيي كلام البعض من مفكري الماضي، فإنه لا محالة مدفوع إلى إحياء الكل، وهذا سر موقف المؤسسة التقليدية، عندما تصفق لإحياء كل قسم من التراث القديم، مهما كانت الأغراض والظروف، إنها تعلم أن النتيجة هامة وستكون في صالحها، الواقع أن عملية الغربلة التي يدعو إليها البعض، لا يمكن أن تتم بكيفية مرضية، إلا في ظل سلطة ثورية حيث تظهر المؤسسة التقليدية نفسها لتنتحل موقف أبي ذر الغفاري في مواجهة عثمان ومعاوية“، يتبين لنا من خلال هذا الطرح الذي طبع العلاقة بين البنية التقليدية والبنية الحوارية الجديدة، جعلت الكتابة المضاعفة عند المخرج مؤولة بالشروط الاجتماعية التي أفرزت هذا التنوع، وأمدها بزمن غير زمنها في تأسيس كتابة ركحية، تروم البحث عن الذات، وتتسعى لتحقيق وضع اعتباري داخل المشهد المسرحي المغربي، وقدراته على تأصيل الإبداع المسرحي المغربي، وذلك انطلاقا من موضوعات التي ذكرتها والتي تتعلق بخصوصية الإنسان العربي كمعطى ثقافي، وعقائدي وفكري، واجتماعي، وسياسي، وكذا من العلاقة التي ينسجها مع الأجناس الأدبية والفنية، ومن رؤيته إلى العالم بما هو عالم، تظل سلطة المخرج المبدع لا المفسر، هو المهيمن بكل تجلياته التقنوية، وضمن هذا التميز السالف الذكر بما هو تميز جمالي للواقعي وللخيالي، ونزوع نحو بناء جمالية نصية بناءا على شفافية الشخصيات، واللغة الدرامية التي توسع من دائرة النص الممسرح دون تبطينها، لتصير الكتابة التمسرحية عنده تمردا على معالم الوحدة، لتؤسس الألفة بين المتفرج والمؤثثات الركحية، ومن ثم فهذه النظرة التأويلية هي إعلان عن تفسير وتفجير نبع الحكي والسرد، لكي يكون موضوعا للدفء لدى المتفرج.

خاتمة:

إذن تغدو الرغبات الفردية والجماعية مشمولة بالجدل التأملي لهذا التاريخ المنبثق من الاتصالات التي تتم عن قوة تأليفية، أكثر ما تتم عن قوة يقينية كما ذكرت سالفا.

إن نتيجة هذه المقاربة التمسرحية هي ما يشير إليه المخرج بعقلنة الجسد التجريبي، حيث لا تتطابق أفكاره مع الواقع الخارجي كما في مسرحية “إلكترا”، فهذه المسرحية هي إظهار التجربة الإنسانية المتمركزة حول الإنسان بدلا من قوة خارجية، لأنها تتعلق بالتدخلات السياسية والفلسفية والأخلاقية للنقد الحديث، وهذه الرؤية هي مشروع لم يكتمل بعد، بل ظل تفسيرا وتحولا مستمرا لمفهوم الجسد، في الحقبة التي يعيش من أجلها، ويفتح ذراعيه لإبداعات المستقبل حسب تعبير (هابرماس)، فالمخرج الكغاط يهدف دوما إلى تغيير لغة النص، واختيار حدود التمثيل، واللغة الدرامية، لمواجهة توقعات المتفرجين حول طبيعة هذا التوظيف المسرحي، وهذه الرؤية الطليعية تكشف عن مسافة التوتر التي تنطوي عليها النصوص المسرحية، وذلك تحديدا من خلال قراءتها، وفهمها، وديناميتها التوليدية، وصولا في النهاية إلى عالم البعد المضمر، الذي يظهر على الركح، وبهذا الصنيع يثير المخرج بطريقة غير مباشرة إلى هذا الدور الذي يلعبه الجسد، كونه محقق على نطاق الفعل، لأنه يعيد كتابته ونظمه بنفسه، وعبر فجواته أيضا ليؤثث هذه الجغرافية وليكسبها تحققها الجمالي، وعليه فإن المخرج سيشخص في بحثه عن المعنى المؤجل في النص المسرحي دون أن يذكر ذلك صراحة، وهذا المؤجل قد يتطابق مع مسافة التوتر كما ذكرت، ومن خلال التغيرات التي تسود النص المسرحي، فالمخرج يتعامل مع العالم الخارجي تعاملا غير ميكانيكي، ينقلنا من الثابت ليدمجنا في وجودية النص الممسرح، ليصبح فيها المتفرج كذات فاعلة ومنفعلة، ويكون الممثل هو الواسطة بين الذات والأشياء، مؤسسا على الانحراف والعدول كبعد تركيبي ودلالي، وهذا ما نراه في المسرحية المذكورة حيث أن درجة العدول تخلق توترا في بنية الوعي، وعمقا أقرب إلى الفصام الذي يأتي فيه الواقع بسبب انقطاعه عن أي سياق سياسي، قبل جسد الممثل الطبيعي، إذ يحمل شحنة غائمة من التأثير يمكن وصفها هنا بشكل سلبي كقلق الوجود، والقيم، ولكن يمكن للممثل أن يتصورها تماما من ناحية ايجابية على شكل نشوة ورأي جميل وبعبارة أوضح، إن تحول الخبرة الجسدية إلى تدفق التأثير قابل للتبديل، حيث ينتج كل شيء موجود للرؤية فقدانا لواقع مرعب ومقلق في آن، لم يعد هناك أية أرضية للتجربة التأويلية المغلقة كما في مسرحيته المذكورة في هذه المسرحية تستوعب قدرا من الكلام، وأقل مساحة من الزمن الكيميائي ذي المعنى والحدث، وهي ذات إيقاع درامي، استطاع المخرج الكغاط أن يلتقط من أعماق النص بتحولات ركحية التي لم يجرؤ الكثير على قولها، فهتفت الشخصية في وجه الواقع، ثم في وجه السلطة التي لا تقل عن ذلك المتسيد، هذا اللون يعكس لدى الشخصيات وعيا فنيا متقدما، تخطى مرحلة العفوية والتلقائية إلى رؤية عالية، قادرة على خلق التوازن والانسجام بين القضية والفن المسرحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *