إنجاز د الغزيوي أبو علي
إن تاريخ الفكر الفلسفي منذ اليونان إلى هيجل وفيا للذاتية والوحدة، وأصبح الوجود يتحدد بمنطق التناسب والانسجام وخاضع لما هو هندسي ورياضي، لكن كع ظهور نيتشه وفرويد وماركس، ظهرت المغايرة، والتنوع وأصبحت المعرفة تتخلص من الإرث الميتافيزيقي والتراثي، فعمل نيتشه بنقد هذه الفلسفة وتاريخها كقيمة وكعدمية، وأيضا مع هيدجر أمست هذه القارة الحاضرة التي تعتمد على العقل اليوناني كقاعدة وكمنهج تعرف تخريجات جديدة مع هذا الفيلسوف الذي غير كل الموازين جاعلا العقل خاضعا للوجود وذلك من خلال الاختلاف الأنطولوجي، فلم نعد نفكر في وجود الموجود بل أصبحنا نعيش اختلاف الوجود عنه الموجود وهذا الاختلاف هو التمدد والتنوع والصيرورة في البحث وفي الأصل الممنوع، فالاختلاف لا يعني التباعد، بل التقارب بين الشيء وضده، فهذه الثنائية المقولاتية لا تدعي الثبات أو النقصان كما عند أرسطو، فالهوية والوحدة هما شيء واحد، أي لا فرق بين إنسان هو أو إنسان ولا يدل إلا على ذاته كهوية، فهو الشبيه والمثقف والمطلق والماهية والواحد والذاتية، وعدم المغايرة والاختلاف، إذن نتساءل عن أي وحدة نتحدث؟ هل الوحدة لها علاقة بالوجود والشيء؟ وكيف نحدد ماهيتها؟ وهل الوجود سابق الماهية كما يقول سارتر؟
إن هذه الأسئلة تقربنا من ما هو نسبي، لأن التناقض لابد أن يحمل معه القدرة للإمساك بالتقابل، أما التضاد كما يرى أرسطو في ثنائياته هو الذي يقوم بالاتصال مع الاختلاف الجوهري، فالجوهري في ماديته تبقى عابرة عن متغيرات جسمية خارجية، سواء في النوع، وهذا التغير أو الاختلاف في الخصوصي كما يرى دولوز هو الذي جعله يستجيب لمقتضيات التمثل العضوي بكل مفاهيمه (كالتناسبية والتقابل، والهوية والتشابه)1، فهذه العناصر تنحصر في المفاهيم المحددة وداخل موضوعياتها، فالاختلاف إذن حسب الفكر اليوناني الأرسطي خاضع للتمثل العضوي الذي يركز على الذاتية والوحدة والتطابق، فالاختلاف المخصوص لا يمثل لنا مفهوما شاملا أو تصورا عاما بجميع الجزئيات وجميع دوائر الاختلاف2، فالاختلاف النوعي إذن أكبر من الاختلاف الخصوصي، لأن النوع يرتبط بالضد وأن الخصوصي يرتبط بالتناسب والتشابه، لأن النوعي يكون محمولا لاختلافاته في ذاتها، فإذا أخذنا الحيوان مثلا نقوله للإنسان والحيوان، فهذا المثال المعروض يمدنا بالجنس والنوع، حول ما نقوله وما نفكر فيه (جنس) أما النوع فهو يرتبط بما يقال، وما يفكر به وفيه، وهذا التقارب لا يمدنا باللانهائي بصيغة دائمة، ما دام الوجود له نسبة الزيادة أو النقصان، أو التباعد أو التقارب، فإن دلالته تميل إلى (دلالة جوهرية) وهي الوجود، فهذه التراثية هي عبارة عن تناسب وجودي سواء من حيث الجنس أو من حيث النوع لتؤسس الهوية، فهي هوية المفهوم، إذن لا ننتظر من هذا الفكر أن يمدنا بالاختلاف كما سنرى، لأن فلسفة المواضيع أو المقولات تعتمد التراتبية وكذا التوزيع النوعي الشبه المضمر، ويرى دولوز <<أن فلسفة الاختلاف الأرسطية تبقى سجينة هذا التسجيل المزدوج>>3، لأن الوجود حسب دولوز متواطئ لأننا لا نرى إلا انطولوجيا واحدة ووحيدة، فالوجود عند أرسطو كما ذكرت يتأسس ويمثل الوحدة من خلال مبدأ التراتبية، فرغم الاختلاف في هذه الإمكانية، فإدراكنا لماهية الوجود ينبغي أن تكون هذه الماهية مختلفة عن الوجود، وفي نفس الوقت يكون الوجود المعبر على هذه الموجودات وهذا هو الوجود المتواطئ، عليه أن يقول ذاته على جميع اختلافات الجزئية أو مكوناته الذاتية، إذن فالوجود يتساوى مع اختلافاته الجزئية، وهذا الاختلاف لا يحمل دلالة واحدة، فهذه الجزئيات المختلفة لا تغير ماهيته وليس لها نفس الماهية أو الجوهر، فالوجود يقول ذاته4، وهذه التواطئية حسب دولوز تعني التعبير الواحد عن كل ما يقال عليها، إنها صورة الصور، وهو حدث للكل له ماهية واحدة وهو نفس الوجود بالنسبة للواقع كما سنرى، لأن الذاتية كما قلت لها وظيفتين وظيفة التراتب والتوزيع، وهذا هو الفكر الغربي، لكن ينبغي أن نطرح السؤال التالي كيف يمكن أن نوزع هذا الوجود على الموجودات الجزئية؟ فالجزئيات هي التي تتوزع وتخضع للتراتب حسب أرسطو، لأن الفكر اليوناني مبني على التراتب والقيم والمعرفة مما جعل منه أرضية صالحة للغرب وفكره ولذاتيته، فهذه التراتبية هي آلية وميكانيكية تجعل العبد سيدا، والسيد هو العبد، مما يخلق الفوضى كما يقول دولوز، فإذا كان كل شيء في الوجود قيم عن طريق الوساطة، فإن تواطئية الوجود تتم عن طريق الجزئيات التي ترحل وتتواصل وتنتقل من مكان إلى مكان ومن كائن إلى كائن، وهذا الاختلاف هو ما يجعل الإنسان الفرداني يسبق الموجودات النوعية والجنسية لأن الفكر لا يتحدد بالوعي وحده، بل بالتعدد والاختلاف، كإحالة قضية للمتغير، وهذه الإحالة المتعددة لابد أن ترتبط بتراسل الحواس لكي يأخذ الفكر قيمته وبراعته المفهومية الجديدة، فالاختلاف لا يكون على المستوى البراني، بل كبعد جواني بنيوي يلغي الخارجي، أي ينبغي دراسة النص كبعد دالي ومدلولي حسب دولوز، لا النص هو عبارة عن أفكار وأحاسيس ومشاعر وسلوكات وأخلاق تتحدد كبنية الذي يجعل الفكر تؤسس نفسها بنفسها وتعيد بناء ذاتها لأن اللامفكر فيه هو الفكر ذاته، وهذا صعب الفهم والاستيعاب من خلال الحس المشترك ومن خلال الممارسة الاختبارية، فالمثالي يكون متحررا من كل قيد أو شرط، ومن المعنى المشترك وهذا ما نراه عند كولدمان في الإله المختفي في دراسته لعلم الاجتماع الإبداع الفني، حيث يرى أن اللغة هي المؤسس الجوهري للإبداع، لأنها لا تخضع للتجريب ولا للقياس والمنطق بل هي شعرية تتواجد بالإضمار وبالاختفاء لا بالتجلي، وتكون المعنى مفارقة للمشترك والعام، فالفكرة لا ترتبط بالماهية كما يرى دولوز، وإنما تأتينا من السؤال والدهشة، فالسؤال يكون كأوامر منبثقة من اللاوراء اللغة، وليست من الأنا كما يرى ديكارت لأن كل سؤال يتحدد كأنطولوجيا وينتمي للمنفصل وليس للمتصل والمتشابه، وعلى أساس خلخلة للواقع والأخلاق5.
إن اكتشاف هذا الهيكل الذي تأسس عليه الفكر العربي جعلنا نعيد القراءة النصية المتنوعة لتكون قراءة جماهيرية لتكون حقيقة لا وهما، فهذه الصيحة المعرفية هي خلخلة للقراءات الكلاسيكية المدرسية والحزبوية، لأنها تهتم بالمعنى الظاهر ولا تخوص في طبقات النص المدروس، فتجديد القراءة كزمن لا يعني حضور وفهم من خلال مرجع محدد في الحاضر، لأن كل فكر لا يتحدد كفكر إلا من داخل الحضور كما يرى ديريدا، فماضي القرائي لا يأخذ حضوره إلا في المستقبل، لأنه يتحدد كمفهوم آني يحيلنا إلى الزمن، والحالية كما يرى أرسطو، فالبحث في اللامفكر والمكبوت والمقموع هو بحث في الكتابة، ليست كتاريخانية بل في تنوعها واختلافها عن الذاتية والحضور عن الحاضر، وبهذا نرى أن الاختلاف لا يعني الإلغاء أو الإقصاء بل التأجيل والمسافة الموجود بين ذلك الماضي وهذا المستقبل، فمحو أسطورة القراءة التي تلقيناها كأصل ينبغي محوها من أجل التعدد التأويلي لتكون العلاقة بين النص واللانص هو ذاته6، فالكتابة هي تدوين جديد وإبداع مسافة مرتبطة بسيرورة الفضاء، لأن الاختلاف يعتمد على الانتقائية (الهوية والذاتية)، حيث أن المؤجل (الأصل) يحيل دوما وأبدا إلى اللاخلق والهوية إلى آخرها الذي يؤسسها هي نفسها كهوية، وهذه الأخيرة تحيل باستمرار إلى ذاتها، مانحا لها طاقة فعلية وحركية ومغايرة، لذا نطالب بإعادة بناء القراءة كبعد ذهني، ونفسي وعصبي، ولا جهاز عصبي بدون لغة، ولا لغة بدون لذة كما يرى جاك ديريدا، لأن منطق الهوية، والذاتية المؤسلبة تعكس نظاما ثقافيا مسيجا شاملا، إنه يجعل من الحقل التربوي فحولا بدون عقول ولا تفكير، وهذا ما نراه في جامعاتنا العربية رغم ظهور العولمة والتقنية، لذا ينبغي تفكيك هذه العقول من التراث، ومن حراس الجهل المقدس، ومن ذوي الفكر المدروش، لأن إنتاج مثل هذا المشروع الثقافي المؤدلج فكريا ومعرفيا وتاريخيا، يبقى هذا الكائن الحي بدون تفكير، ولا تحليل لأنه خاضع للهيمنة السلطوية الرمزية (هابتوس) بمفهوم بيير بورديو، فتفكيك اللغة والوعي، والإدراك، والمعرفة والوجود والمدلول، هو إدراك لهذا الحضور المهيمن والذي يحتمي بالسلطة الديداكتيكية النموذجية، إذن فلا وجود لهذه المفاهيم العالمة بدون اختلاف، إنه المبدأ الأساسي وكشرط للدلالة على التغيير وليس التفسير، فهذا الموقف الذي ذكرته ليس بسيطا بل مركبا لأنه يطرح طوبولوجيا أو ترسيمة يصور من خلالها الفلسفات والنظريات المتعاقبة وعلاقتها بالعلوم الحديثة، والإنسانية، حيث تغدو ذريعة انتفت عنها صفة الواقعية الموضوعية، وبالتالي تكون هذه القراءة دمرت نفسها بنفسها لفقدانها موضوع بحثها، فأمام هذا التهافت المنهجي، انبرت القراءة الذكية لثني القراءة عن البحث عن علم عام وشامل خارج التاريخ، تأسست القراءة الذكية على أرض التعددية الافتراضية للممارسات العلمية، ثم أخذت على عاتقها مهمة دراسة الذكاء، والفكر، والتنبيه والذاكرة لتغدو ابستمولوجيا بديلة ذات طابع تاريخي تقني جديد، مهمتها تعويض الكتاب بالشاشة أو اللوحة الإلكترونية التي أوكلت إليها مهمة إرساء الروابط بين الوسائط لتغيير أفق المتلقي، فمهمة التقنية الجديدة لم تعد محصورة في إطار ضيق رسم لها في فترة من الفترات الماضية، إلا أنها تبدل دوما حدودها بتبدل مفاهيمها، إذن ينبغي عليها أن تأخذ بعين الاعتبار التحولات الاجتماعية لكي تتفادى أن تصبح هي بدورها سعيدة بزمن كلاسيكي، إن التحدي اليوم هو تجنب الوقوع في فخ الذكاء المعولم لنصبح مستهلكين لا منتجين، إذن لابد من فتح أوراش علمية، ودورات تكوينية لمعرفة هذه الأدوات، وكيف نلاحظ ونفترض، ونقارن ونحلل دون السقوط في المثالية ولا في الذرائعية، لأن التطور العقلي هو تطور جدلي، إذ أن العقل العلمي كما حدده باشلار في كتابه “الفكر العلمي الجديد” ص36، هو تصويب للمعرفة التي تنظر إلى مفاهيمها وماضيها التاريخي لتدينه6، إذن فالقراءة هي ذكاء واختيار وتأويل لكل المتواليات التي نعتبرها وقائع تاريخية ويرى كانعيلهيم في كتابه السوي والمرضي، أن قراءة تاريخ العلوم ليست قراءة خطية، وليست سير العلماء بل هي تاريخ المفاهيم العلمية، فالكتابة هي فعل كما ترى الظاهراتية، وأثر كما ترى السمياء، فعن طريقها حاول ديريدا أن يهدم “المركزية” الكيانية والإنتاجية، فهي اختلاف وليس كلام، ونقش للإمضاء، فعن طريق الكتابة تتحقق الثقافة، والممارسة، وتنوع الأساليب وهو لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تصميمها في مناهج التعليم لمختلف مراحل التعليم العام والجامعي، فعن طريق صقل المواهب والمهارات بحلنا نخرج من التقليد والحفظ والانتصار، لأن التكنولوجيا أصبح لها دورا مهما في استخدام الفكر، والوعي، لأن العصر الذي نعيشه محكوم بقوة العقل وأصالة الفكر، فتقليل محتوى المادة المدروسة، والبعد عن التفاصيل المملة، وبث روح الاستمتاع، وإثراء الكتاب المدرسي بأنشطة واقعية، وذلك من أجل توفير المناخ الملائم للتفكير الناقد والإبداع، وبتنمية روح التسامح والحكم والاعتدال المنطقي، وتشجيع المهارات الإبداعية والعلمية، كل هذا يساعد على بناء الشخصية.
فتحديد الهدف والرغبة في بناء القوة القرائية يجعل البحث ينعش الذاكرة، ويوسع المعلومات التي توجه الباحث على تنمية التفكير، ويقول أحد الباحثين د سعد رياض في كتابه “البناء النفسي للطفل”، “إن إيجاد البيئة التعليمية المناسبة والتي تبعث على التفكير وذلك من خلال الاهتمام بكل الظروف المدرسية وتهيئة البيئة التعليمية وتنظيمها” ص80، وهذا الطرح يتطلب إيجاد مدرسة قادرة على تجاوز كل المشاكل العضوية والفصلية والإدارية والمؤسساتية لبناء إنسان على صياغة الأفكار بشكل صحيح، فالقراءة في مدارسنا كما قلت تعتمد الروتينية وتتعامل مع المناهج بأسلوب عقيم وتعمل على تشجيع على الحفظ والتلقين المتكرر عن طريق الدروس الخصوصية وغيرها من الأساليب التي تعيق عملية التفكير كما يقول سعد رياض في كتابه المذكور سابقا ص81، أسئلة كثيرة تساهم في تنمية المهارات وتطوير قدرات الطلبة العقلية تعلل ما رأيك، ما أوجه الشبه، أوجد العلاقة أو الاختلاف، قارن، حلل، اربط الأسباب بالنتائج… كل هذا ينمي المهارات وثقافة الإبداع نبل مبادئها العقلية والحركية، والاجتماعية من أجل حل المشكلات واتخاذ القرارات، لذا يتطلب امداد الطالب إعدادا يجمع بين معرفته بما يتطلب منه السوق والمجتمع، وأيضا استقلاليته في تفكيره، وتعويده على التفكير الناقد والملاحظة لما حوله من ظواهر، وتفاعلات حتى يساعد على التغيير الإيجابي في مجتمعه ويقول سعد رياض في هذا الشأن “تتكامل العملية التربوية بالعملية التعليمية في المدرسة، ولذا ينبغي أن تكون المدرسة محضن جيد للتعامل مع التلاميذ وخاصة التلاميذ المبدعين أو المخترعين وهذا يتطلب أن توفر لهم برامج خاصة لممارسة هواياتهم وتنمية قدراتهم وتهيئة البيئة المناسبة للتعبير عن ذاتهم، وتحويل مناهج التعليم إلى قضايا تنمي تفكيرهم” ص90، إن محاولة تعريف القراءة والأساس العميق للإبداع من جانب آخر، بشكل واجد من الانشغالات التي لا تنتهي، فغموض المسألة التأويلية والتحليلية لا تسمح بإنهاء المقول عند أفق موضوعي يجعل التعريف جامعا مانعا كما يقول المناطقة، فهذه الاستراتيجية هي زاوية فكر مخصوص تطبعه الفرادة ألا وهو فكر الإبداع الذي ينزل منزلة الاستفهام، لا ينتهي إلى حقيقة مطلقة وهذا ما يجعل تلك القراءة مجرد مفاتيح للتفكير وترسيمات لتعميق الإشكال المنهجي وتدقيق المسألة التأويلية والتحليلية والتركيبية، فالقراءة هي امتحان للكرامة والتسامح وحسن التقدير، والتعرف على الوجود وماهيته بدل إخفائه، السبيل الأنجع لعلاجها هو تجنب الانحراف الغير المجدي بنظر نيتشه، لكي لا تفقد القراءة قوتها وحضارتها، إذن هل القراءة قادرة على إبداع السلم والتغيير والكرامة الإنسانية؟ هل يستطيع الحوار أن يحل محل العنف الرمزي؟ وهل القراءة هي التي تحقق السلم والتفاهم بين البشر؟
المراجع المعتمدة:
1- Gille Deleuze « Différence et répétition » ed – OUF – Année 1976 p46.
2- Ibid p48.
3- Ibid p50 – 51.
4- Ibid p53.
5- G. Deleuze – Logique du sens p75.
6- Jacque Derrida « L’écriture