إن دراسة الخطاب عند فوكو هو الكشف عن اللاواعي الثقافي في الفكر الغربي، حيث أن هذا الفكر مر بمراحل، بحيث أن لكل مرحلة إبستيمي معين وهذا ما يميزه عن الفكر الآسيوي والإفريقي، لأن هذا التحول لا يرتبط بالتاريخ العام وإنما يرتبط بالتحول لهذا الخطاب، هكذا أظهر لنا هذا البناء الخطابي المغلق الذي اتخذ العقل الغربي، وأيضا العوامل التي أدت بهذا الخطاب إلى التطور والتحول، فالخطاب عنده نسقي وفكري، وانعكاس لحقيقة هي في طور التحول والنشوء والارتقاء، إلا أن الخطاب عنده لا يحتمل معنى واحد بل يندمج مع كل العلوم الإنسانية والأدبية والمعرفية، إنه ميدان خصب من الملفوظات والمنطوقات وكل الوحدات التي تتشكل فيه(1)
وكثيرا ما استخدم المنطوق كجزء من الكل، لأن الخطاب هو مجموعة من المنطوقات ينبغي مقارنته باللغة واللسان، والكلام، فهو الواقعة التاريخية التي تحدث وتتحقق في المجال الفعلي، إلا أن هذا المنطوق كما يرى فوكو يدرس حسب ارتباطه بالتشكيلة الخطابية كما يرى في كتابه نظام الخطاب وأركيولوجيا المعرفة، فإذا أخذنا مفهوم الجنون في العصر الكلاسيكي فإننا واجدون خطابات كالخطاب الديني، والطبي والسياسي والسلطوي، فهي عبارة عن أبنية لاواعية اشتغل عليها لأنها تنتسب إلى نظام التكون كما يقول فوكو، فالهدف حسب رأيه هو إقصاء الذات من عملية إنتاج الخطاب، لأنه ينتج نفسه بنفسه، إذن فالخطاب يهتم بذاته في ذاته.
إن الخطاب حسب فوكو هو مجموعة من المنطوقات التي تشكل بدورها مجموعة من التشكيلات لتجاوز التشكيلات الماضوية والتقليداوية حول الذات والزمكان والمؤلف، وهذا ما سايره في كتابه اركيولوجيا المعرفة، فاعتماده الأركيولوجيا التي هي الوصف المنظم للخطاب ليجعل منه موضوعه
فالبحث الأركولوجي إذن هو ذو طبيعة وصفية قائمة الذات لا تحيل على شيء آخر ، لأن الهدف من كل هذا هو دراسة المعارف في حاضرها كخطاب وليس كأثر تاريخي قديم، فالمنهج الأركيولوجي عنده الذي اعتمده في دراسته للعديد من النقاد لا يعيرون الاهتمام معتبرين إياه ناقلا للمعارف وليس منهجيا في فكره وفي تخريجاته، إلا أن هذه الرؤية اللانقدية لا تتساوق مع شروط المعرفة الموضوعية، وتبعا لسنة التطور وقانون الممارسة الإبداعية فإنه جعل من هذا الخطاب تأويلا جديدا لا يلغي الخطابات الأخرى فهو يريد تحديد المبدأ الذي يتحكم في ظهور المجامع الدالة وحدها، والتي تم التلفظ بها كما يسعى إلى سن قانون الندرة “(4)
إذن فلغة الخطاب لها وجود أصلي يتجسد في الأرشيف، ولأن المؤلف يزول لكن الخطاب المدون أو المنطوق ويبقى كل هذا قصد اكتشاف نمط الوجود الذي يميز المنطوقات سواء من حيث انتظامها الخارجي، أو من حيث الداخلي، لأن البعد الآركيولوجي يشير إلى الخطاب في بعده الخارجي قصد السعادة الظواهر في حالة تبعثرها واستكشاف تأثيرها كحدث وكممارسة خطابية تكون خارج الذات، لذا حاول فوكو تحديد أهم العناصر لهذا المنهج الأركيولوجي وهو على الشكل التالي:
- الأسباب التاريخية لظهور الخطاب
- الخطاب له وجود متراكم يتجسد في الحوليات
- النذرة ويعني بها الخطاب الذي يصور ويعبر عن المكبوت الثقافي الغربي
ورغم هذا الاهتمام المتزايد لديه جعله يستحضر البعد الجينيالوجي لدراسة الأصل وكيف يتطور ويرقص، لأن المعنى مرتبطة بمجالات عدة أهمها الأنواع البشرية، ومجال الفلسفة، والتاريخ والمجتمع لأن الأركيولوجيا كما ذكرت تقف عند حدود الوصف والتحليل البسيط، بينما الجينيالوجيا تدرس العلاقات البشرية على المستوى البيولوجي، وأصل الأخلاق، كل هذا من أجل الوصول إلى تشكيل الخطاب داخل الجسد والسلطة والمعرفة، فهذا الجسد له ارتباط بالسياسة، حيث تخترقه السائدة ويتيح للغة أن تفيض خارج حدود ذاتها لتؤكد الكينونة(5)
أما دولوز فهو يشكل بدوره حدثا مميزا في تحليل الخطاب، جاعلا منه خصوصية فكرية ودراسة تاريخية جديدة حيث، أدمج فيها مفاهيم جديدة التي تعبر عن حقيقة الوضعية الفلسفية الراهنة كالتاريخ والسطح والأرض والشعوب، ولقد اهتم بتاريخ الفلسفة المرتبطة من حيث منطق المعنى والاختلاف والتكرار، وأيضا انخراطه في التحليل النفسي الغواتاري، وعمل معه على إعادة النظر في أسطورة أوديب التي صنعها فرويد، فأصدر كتابا عمل ضد أوديب، لهذا اتخذ الخطاب عنده عدة تأويلات غير حداثية وغير ذرائعية، بل هو قوة تريد العودة لى إبداع جديد، وبعث السيرورة في تجربة المعيش كأسلوب حياة،
وفوكو كما ذكرت يغاير المألوف اليوناني الغربي برؤية نقدية تشابه رؤية بيكون وديكارت، لكن فوكو أراد أن يحاكم وعود عصر الأنوار ومجالس الحداثة العقلانية، من أجل ترسيخ فكر مختلف مستلهم لتكون حصانته من حاضره وزمانه، لأن الحقيقة كما يرى تسكن في الهامش، ولم تعد صورة الحرية والوجود والمصير قادرة على المسايرة والمساءلة، لذا تأسست الرؤية الخطابية الجديدة وبدأت ميكانيزما لطعن في هذه الحقب التاريخية التي تحاول الحكايات الكبرى أن تضفيها على الممارسة والتاريخ(6) لذا اتخذ الخطاب تعدده واختلافه مدخلا جوهريا لاستيعاب المضمون الواقعي والسياسي، والسلطوي، وتحول هذا الخطاب من جنس ذاتيي إلى هيئة تفتيتية وتفكيكية، حيث عمل فوكو على إبراز اختلاف الخطاب الحداثي وحدوده ونقد أوهامه المتعالية، كل هذا من أجل أن يدفع بفعل لخطاب نحو الاختلاف والتأويل والتعدد، لذا جاء مشروعه يوافق مشروع دريردا كمحاولة لاستنطاق الثابت بوصفه غنيا بالدلالة والعلامة وإرجاء لتحقيق الهوية في انغلاقها الذاتي(7)، ويرى فوكو أن علاقة الخطاب بالسياسة هي علاقة نقدية وتحليلية للموضوعات المتصلة بالسياسة والمنفصلة عنه، لأنه يقيم حدودا لمحو التعارضات الشكلية مع إلغاء الفروع العلمية الأخرى،
فالخطاب الفوكاوي يهدف إلى تـأسيس تاريخ عام بدلا من تاريخ شمولي وكلياني غربي، وعلى أساس هذا التمركز التحليلي، يمكن أن نحدد مختلف العلاقات بين الخطاب والسياسة وتحديد الجزئيات لهذه العلاقة والدور الذي تلعبه السياسة في الواقع (8)، فالذات المؤلفة والمسيسة تخاف من الخطاب المؤسس على السلطة، فالتخوف يعني التوقع ووجود صراعات وجروح عبر الكثير من الكلمات والجمل، إذن فالخطاب سلطة مادية تملك القدرة والقوة، سلطة تعبر الذات والمؤسسة على السواء، لتؤسس وجودها المستقل والمنفصل، فالخطاب حسب فوكو يكون مراقبا ومنظما ومتحكما في ماديتهالثقيلة والرهينة(9) فالخوف من الخطاب هو الحد من سلطته وهذه الآلية يحددها فوكو في ثلاث مجموعات وهي عمليات القمع والقسمة والرفض وإرادة المعرفة كما ذكرت سابقا، لمعرفة ما هو حقيقي وما هو خاطئ، وما هو عقلي وما هو جنوني، لأن الخطاب يبدو لنا شيئا بسيطا لكن أشكال الموجودة في الواقع تظهر لنا عند ارتباطه بالسلطة وبالرغبة، فالإجراءات المتخذة ضد الخطاب تكون إما خارجية، أوداخلية، لأن البحث في تاريخ العلوم الإنسانية قد ازداد بشكل كبير في الأوساط العربية والغربية، حيث انصب الاهتمام على البيولوجيا والمنطق والرياضيات لدراسة هذا الجسد ولغته وخطابه، الشيء الذي جعل فوكو يعيد قراءة الخطاب الغربي وفق رؤية نقدية جديدة لا تعتمد المفاهيم الأساسية التي يستخدمها الاتجاه البنائي الوظيفي ولا الاتجاه الماركسي المحدث، لأن المهم ليس القائل أو المؤلف وإنما الخطاب كما في الكلمات والأشياء، حيث ناقش تشكلات خطابية دون العودة إلى مبدعيها، لكونها تشكل اللحظة بدون المؤلف، بعينه، وهذا المحو يقرينا من الوضعية الاجتماعية التي تتحدد بالهوية وشكل الأنا الفردانية ويقربنا من جماعة تيل كيل، كبارت الذي ناد بموت المؤلف، لأن اللغة هي التي تتحدث وليس أنا، وقول الحقيقة يشكل بدوره عملية مراقبة إنتاج الخطاب، لذا فالخطاب سوف يظل مراقبا وجعل مجاله مقلقا قدر الإمكان كالتقنية العسكرية والدينية والمذهبية والتربية،
إذن يدعو فوكو إلى تفجير هذاالخطاب وذلك بواسطة الإرادة المعرفية، وإعادة النظر في الحدث الخطابي، ورفع سيادة الدال كل هذا يعني التخلي عن الذات وإرادة المعرفة وإعادة النظر في الخطاب باعتباره حدثا داليا ودون إدماجه في تأويلات خارجية دراسته دراسة سطحية وما يرسم لها من حدود، لأنه يشكل سلطة في ذاته كما يقول في كتابه (إرادة المعرفة)، وأن المعرفة والسلطة تتمفصل في الخطاب، وأن الثقة هي التي تجعله يأخذ مصداقيته.
ففوكو في كتبه يهدف إلى تحديث المفاهيم التي قد يواجهها طلاب القانون والسياسة والفلسفة والآداب وفي كل مصنفات النقد الما بعد الحداثي، أو التي يجابهها الطالب في تحليل النص أو المؤلف، حيث ينتمي بعضها إلى مفردات اللسانيات، والبنيوية، وبعضها ينتمي إلى التاريخ والسيسيولوجيا وأخيرا يشير فوكو إلى القراءة البصرية، كذلك يمثل هذا الخطاب عنده عملا انتقائيا لأنه يحمل هدفا شكليا وتاريخيا جديدا منها الإيطوس ethos حيث أن هذا المفهوم ينتمي إلى البلاغة ويحدد الطريقة التي يجب أن يقدم بها المتحدث نفسه من أجل إقناع المتحدثين الذي يخاطبه إنه جزء من الثلاثي الأساسي: الايطوس والباطوس واللوغوس ص 163 (10)
أما إذا أخذنا الخطاب السياسي العربي هو خطاب مؤدلج، الشيء الذي يجعله مرتبطا ارتباطا وثيقا إما بالعشيرة أو القبيلة أو بالسلطة أو بالذاتية المطلقة (الكاريزماتية)، مما يجعلنا لا ندرك دلالته ولا لغته، لأنه يحمل مرجعية متنوعة، مما يجعل الإنسان العربي يهرب من السياسة ومن لغة السياسيين، لذا أطالب أن نعيد النظر في خصوصية الخطاب؟ وكيف يتشكل؟ وما علاقة الخطاب بالسياسي؟ وهل السياسي قادر على اختراق لعبة السلطة؟
أسئلة تجعلني أكتشف أن السياسي العربي ينام على الأمجاد الماضية ولا يستطيع أن يخترق لغة السلطة ولا المؤسسة الوصية، لذا يبقى أليفا لها ومقيدا بها، فلا يظهر أثره إلا في المجالس الإدارية والبلدية والبرلمان، إذن متى يستطيع هذا المخاطب أن يكون مع لغة الجماهير،
ولنا عودة إلى الموضوع
إنجاز د الغزيوي أبو علي باحث
دة بن المداني ليلة باحثة
المراجع المعتمدة
- نظام الخطاب تر محمد سبيلا –بيروت 1987 ص 74
- مشيل فوكو: حفريات المعرفة تر سالم يافوت المركز الثقافي العربي ط 2-بيروت 1987 ص 26
- حفريات المعرفة ص 100
- حفريات المعرفة ص 129
نفس المرجع ص 110
- مشيل فوكو: الكلمات والأشياء ص 278
- محمد الشيخ –ياسر الطائري- مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة- دار الطليعة بيروت ط 1 – 1496 ص 16
- جاك ديردا: الكتابة والاختلاف تر كاظم جهاد نقد علال سيناهر دار توبقال للنشر ط 2 2000 ص 32
- ميشيل فوكو “نظام الخطاب باريز دار النشر فاليمار -1971- ص 10 (بالفرنسية)
- نفس المرجع ص 11 Ibid (بالفرنسية)
- جويل جارد طامين –ماري كلود هوبر تر محمد بكاي ط1-2021-بيروت ص 163-