إنه التصور الممكن للنقد الدرامي في الوطن العربي هو تصور لا ينفصل عن العوامل التي يعيشها على كل المستويات، من هنا ندرك أن التاريخ النقدي ليس فنا ولا علما، وإنما هو لغة وفكر، ومنطق للماضي على الرغم من أنه لا بد من وجود علاقة ما بين الحاضر والماضي وهي علاقة مبنية على أسس موضوعية، ويبدو البعد الاحتفالي في الوطن العربي محكوما بالماضي في توظيفاته الفكرية والسياسية والفنية والأدبية، أكثر ما يعيش الإشراف المستقبلي، ولذلك فليس غريبا أن نجد عبد الكريم برشيد قد رسم لنا خريطة زمانية مصغرة لهذا النقد من خلال كتاباته وبياناته وإبداعاته الدرامية، عارضا براعته الفكرية التي تنم عن قوة شاعرية أكثر ما تنم عن قوة تقليدانية فبرشيد مثل زارادوشت الذي وطد العلاقة بين الألم والحياة، معلنا أن الإنسان من حيث هو إنسان فكما نجد نيتشه قد عاش مع الماضي، حيث يحمل جسد الميت على كتفه مجتازا الصعاب والبراري إلى أن يشع في فؤاده النور، فيشعر أنه بحاجة إلى رفيق وليس بين الموتى، هكذا عمل برشيد كنيتشه في ميزان الاحتفالية لكي يقدم لهذا الإنسان الفرح والسعادة، لكن كيف تخلق السعادة كيف تخلق السعادة؟ هل من بداية الإنسان أم من بعده؟ وهل برشيد سار في طريق زرادشت؟ ومن هو برشيد؟ وأين ينتهي طريقه؟ أسئلة كثيرة ومتنوعة تنثال علي وأنا أقول وأدون لكي أعرف مرجعية هذا الاحتفالي النيتشوي، فلم أجد غير أسئلة الحياة وإرادة الفكر والوجود، لأن برشيد يحاول دوما أن لا يبتعد عن الأسئلة، لأن فيها الأنوية التي لا يمكن لأحد أن ينزل إليها إلا الراسخ في الوحل الدرامي، فهي أنساق الصوفي والمؤرخ والناقد، لا يكتفي باستثمار مقولة الخطاب الإنسانوي، بل يمتد بها لتفويض كل المتعاليات، معتقدا أن المسرح ليس لعبا ولا لهوا، بل هو دراسة وممارسة ودربة، فليس من فلسفة من غير حلم وتجربة مهما كان نوعها، فهي التي تضع هذا الخيار الإنساني لكي يكون موجودا قبل الوجود الآدمي، لذا عمل برشيد على مساءلة هذا الإنسان الذي لم يتطهر من الفوضوية والعبثية والتقنوية، فاتحا له الحياة لكي يختار ويتجاوز عتبة الصرخة الأولى من أنا؟ وكيف جئت؟ وكيف أعيش السعادة بدون شقاء؟ كونها أسئلة لا تتعدى أن تتخذه كموضوع ولا فائدة من اعتبارها علوما تتناول الإنسان (الكلمات والأشياء ص 283- 284- (فوكو)، ولذلك جاءت هذه الدراسة لكي تعيد النظر في النسق الثقافي العربي والمغربي، إذ لا يمكن أن نطرح الأسئلة على الاحتفاليين القدماء والمعاصرين دون نبش في قبور العروض الدرامية التي كانت تقدم الإيديولوجيا الماركسية واللينينية لكي تصوغ لنا التصور المستقبلي لهذا العالم، لقد شغلت التجربة الاحتفالية العقل والحس العربيين جماليا وروحيا، وإبداعا نصيا وإخراجيا وتصدت بكل اللهجات واللغات إلى استنطاق هذا الواقع الما العربي، لكي تشرع الناس وتحسهم أنهم يعيشون وهم ميتون، فلا بد من زرع الاختلاف في هذا الائتلاف، والوحدة في التعدد، لكي يعرفوا ما سينبغي أن يفعل ويصنع كما قال ما وتيطونك، فالاحتفالية بكل ترسناتها ومريديها لم تكن سهلة الامتلاك، بل كانت تمارس الإبداع والنقد لتظهر لنا البراءة التي تسكن هذا الإنسان الآدمي في هذه الأوطان، إذن هل استطاعت الاحتفالية أن تؤسس لهذا الإنسان وعيه النقدي؟ أسئلة كلها مرتبطة بالإديولوجية سواء من حيث الأسس الفكرية التي تنهض عليها، أو من حيث المصالح التي تدافع عنها،ـ الأمر الذي يستدعي التعريف بالاحتفالية الإيديولوجية التي ثورت التاريخ من أجل الكشف عن التأثير الذي مارسته أثناء التناول، وهذا ما يقربنا إلى رؤية ماركس الذي هاجم الفلسفة الألمانية ليثبت عدم جدواها وذلك في كتابة الإيديولوجيا الألمانية، من هنا وصفت الاحتفالية بأنها رؤية التي يعيشها الإنسان المقهور كما يرى ريمون بودون في مقال له: الإيديولوجيا” ص 30 – وبرشيد لم يكن ليعيد التيمات لهذه النار التي تحرق الاقتصاد واللغة والسياسة والوعي، بل استحضر التراث لكي يكون قناعا مساعدا على تنوير وسائل الإنتاج وإبراز خصوصية المجتمع المغربي في صورته الحقيقية، لأن استحضار الشخصيات، واللغة والخيال والأزمنة والأمكنة، كاستراتيجية التي من خلالها يحاول برشيد أن يستلهم هذه الحضارة القائمة على الفكر، ومتى ما فقد الفكر، فلن تجد أي إمارة قائمة على الفكر، لأن هذا الأخير غير قابل للإنتاج، وليس بالإمكان الحصول عليه من خلال البرمجة والتخطيط، لأن علم المعرفة هو العلم القادر على دراسة بنية العمليات العقلية الذهنية، وأنشطة التفكير والمعالجة المطلوبة في التذكر والإدراك وحل المشاكل، لذا تعتبر المعرفة هي الأرضية الدرامية والمعرفية لكل العلوم، كالطب والفيزيولوجيا وعلم الأعصاب، والحاسوب، والاتصالات إذن فعلم النفس المعرفي يعني بكل هذه القضايا العقلية التي يستخدمها الفرد في حياته الداخلية والخارجية وهو علم معالجة المعلومات كما يرى ريد Reed، هكذا حاول علماء النفس المعرفي بتحليل مجالاته كالإدراك، وعلم الدماغ والذاكرة، والتعرف على النمط – والانتباه، لأن الإنسان حسب برشيد يحتوي على طاقة إما حسية أو معرفية، فالإنسان في تعامله مع الخارج يستخدم وسيلتين هما الذاكرة والإدراك، حيث يتمثل كل فرد منا المثيرات البيئية بطريقة مختلفة عن الآخرين، ولعل هذا ما يسبب للقارئ بعض المصاعب في عملية التواصل، لذا يحول المعرفة إلى صور وبيانات ورموز، ويستعين بالصور الذهنية المرتكزة من أجل اكتساب المفردات ومهارات التعبير والاتصال اللغوي، لذا يشير برشيد هذا إلى النمو المعرفي وافدراكي وإلى التغيرات التي تطرأ على الصور والبناء للعمليات المعرفية للفرد كما يرى بياجي، ويعد هذا السلوك الدرامي أحد مرتكزات علم النفس القادر على التفكير والتعلم والتكييف من أجل حل المشكلات التي تعترض المتلقي أثناء قراءة المسرحية أو مشاهدتها، لأن اعتماد المثير والاستجابة هو ملية تركيبية معقدة، لأن الإنسان الدرامي يشبه الحاسوب، حيث يعتمد على الخزان، والذاكرة سواء المتعلقة بالمعالجة، أو المخارجة، وأيضا وحدة تصنيف المعلومات (cpu)، لذا فالمراحل كالترميز والتخزين والاسترجاع تخضع لعدد من التحولات والتغيرات حيث يحددها النظام المعرفي اعتمادا على الهدف من المعالجة الدرامية.
لذا تلعب الذاكرة الدرامية دورا مهمة في تخزين المعلومات من أجل تنفيذ عمليات المعالجة، لأن البعد الحسي أو الرمزي يرتبط ببعد الذاكرة العاملة /قصيرة المدى، أو طويلة المدى، فهي تعمل على التنشيط المستمر في الجهاز العصبي سواء كان مؤقتا أو سريعا، أو قصيرا، فالذاكرة لا يمكن قراءتها وفق النظام التركيبي الفزيولوجي، بل وفق الجهاز العصبي الذي يعطي لهذه المعايير التي تتمثل في كمية تخزين المعلومات، وأيضا شكل التمثيلات التي يحتويها كل نظام رمزي درامي وتدل عليه هذه المؤشرات الرمزية والسلوكية على فهم اللغة البرشيدية وتحويل الخارج إلى سلوك يحترم قواعد النظام الاجتماعي، لأن هذه العمليات المنظمة محكومة بقوانين التي يمكن دراستها والكشف عن طبيعتها والكف عن طبيعتها التي تنظمها، وهذا يساعدنا على استبصار العمليات التواصلية اللغوية من أجل تجاوز الرؤية السلوكية التي تنادي بأن الإنسان مخلوق سلبي، وهذه الرؤية تتطلب الدقة، والسلوك الثاقب لمعرفة طبقات الفكر الإنساني، لأن الاحتفالية لم تقدر أن تخاطب العقل، بل أيقظت فيه الطابع الديونيسوسي والباخومي، هكذا أصبح الإنسان لذويا وعرفانيا في المسرح الاحتفالي،
ويقول نيتشه “وأعلم الناس هم أقل الناس الذين سمعوا صوتي إلى اليوم، الفكر الغربي الأردكاني ص 162- وهذا التصور له أهمية بالغة نظرا إلى راهنيته، لأن علاقة الاحتفالية بالبعد النفسي هي علاقة الكشف عن حقيقة الذات بكل جوانبها المتكاملة والمتناقضة، لأن هذا الدور سيجعل الاحتفالي من الاحتفالية هندسة اجتماعية مهمتها تقديم الإنسان بأزماته ومؤسساته دون دراسته، فبرشيد لم يبحث في مجال المعرفة الإنسانية لتفسير خصوصياتها وفهمها، بل اعتمد الحدث والحس لكي تكتمل هذه الصورة عنده، وأيضا اعتمد على القراءات الغربية دون تمحيصها، فاتخذ المسرح كعملية وصيرورة من خلالها تتم تنمية وتطوير ملكات المقروء دون العودة إلى الممارسة لتطوير القدرات الذهنية أو النفسية التي تنمي الجسد والعقل معا (معجم العلوم الإنسانية) 1984 ص 105- فبرشيد اعتمد في دراسته الدرامية على العمل العضوي والميكانيكي في تسهيل دور الكتابة الدرامية دون البحث في البرامج الإنسانية الغير المرئية، مما جعله يهمل بعض الروائز كالذاكرة، والذكاء والتربية التاريخية والروحانية، وهذا يدل عن عدم أصالة وانسجام هذه الثقافة الدرامية في بعض مسرحياته كابن الرومي في مدن الصفيح وامرؤ القيس في باريس، فهذه الشخصيات ترتكز على الآنا وهي شخصيات شيزوفرينيا تدعى اللعب واللهو وجنون القوة كهتلر، ونيرون وغيرهم، كل هذا أخذت الكتابة البرشيدية ترتبط بالمجال الميتافيزيقي والأخلاقي، دون وضع توازن بين الحلم وبعض الأساطير ودون خلخلة الثقافة المهيمنة لمعرفة الدلالات: كالحرمان، والانتقام والكراهية إلا في بعض المناسبات النصية وهذا يقربني إلى التصدع الذي تعرضت لها الاحتفالية في ولادتها الأولى لأنها تغنت بالإيديولوجيي وعملت على تذويب الإنسان في شكل قالب اسمه –الاحتفال- دون معرفة مصدره ووجوده وديمومته، لأن الفلسفة الدرامية المعاصرة وجدت العلاج في إحياء ما أماته العبثية، والوجودية، فالاحتفالية، إحياء الإنسان –دون إحياء الدين- ولا إحياء العقل لتدب الحياة الإنسانية في مفاصل وجوده الكلياني وهذا يقربنا إلى جماعة فرانكفورت التي نادت بدورها إلى الدين وبأهمية الفرد والجماعة وهذا ما يعني نقد للإيديولوجية البرشدية، وأيضا بعض الكتابات الدرامية الحداثية وما بعد الحداثية، التي كتبها بعض النقاد وكل من أقصى من مجال الحياة الفردية والاجتماعية على السواء (بيرجربيتر “التحليل الثقافي تر أحمد أبو زيد – ص 93 و 95)، وبرشيد يقول كلماته وينصرف، ولكن هل كل من تكلم نعتبره فيلسوفا وشاعرا؟
سؤال جوهري فبرشيد يعيد نفسه لكي يرسي لنا بعض القواعد الصادقة، والآمنة من الاهتمام الإبداعي، بحيث يستطيع القارئ المبدع أن يرتكز عليها في تدويناته، ولم يكن المعالج، بل صاحب الصيدلية لا يشخص المرض، ولا يمده بتكوين صورة عن نفسه، ولا طفولته، لأن المعالج لا بد أن يحسن علاقاته الشخصية مع المريض العربي وأن يتفاعل معه، لكونه مرجعا يتيح للمريض أن يسقط معه القناع لكي يسمح له بالحديث والمصاحبة، وكلما زادت قدرة المريض على الارتباط بالمعالج دون افتراضيات سلبية مستمدة من الماضي، فإن قدرته تزداد ارتباطا بالاخرين في الخارج (ستور أنطوني- فن العلاج النفسي – الفصل -14-
وبرشيد كما قلت لم يكن انتربولوجيا، ولا نفسانيا، بل فحلا مبدعا يشخص الحدث والزمكان، والشخصية بالتنبؤ بمساراتها، وهذه الرؤية الإسقاطية لا تتفهم الموضوع الماورائي، بل تعتمد التراث والقصص التي يعطيها الفرد الساذج عن مكونات هامة في شخصيته، لأن اختيار الكتابة هو احتيار ذاتي وصراعي وسلوكي، لذا عمل برشيد من خلال ذاكرته ومتخيله إلى إبداع الخارج الفرداني دون النزول إلى النزعات المكبوتة وأنواع الصراع المختلفة (فيصل عباس أساليب دراسة الشخصية) ص -36-
ومهما يكن من أمر، فإن هذه المقاربة تبقى مهمة لأنها تسلط الضوء على كتابات برشيد من خلال الذاكرة وعلم النفس المعرفي والأنتروبولوجي، وتقوم على قاعدة مفتوحة محمولة بذاكرة ماضية لتنتج أسئلة حاضرة ولترنو نحو مستقبل قادم.
يقف برشيد في كتاباته بجانب التراث والإنسان وملكاته لكي يبني لها في بعض تحليلاته بما سماه باشلار سيكولوجيا الأعماق، ويبقى أستاذي كالطود العظيم الذي كان يقف أمامنا في مدينة الخميسات يسكب الخير ويهب لأهل هذه المدينة المسرح والثقافة وتحية لك.
ولنا عودة إلى الموضوع.
إنجاز: د الغزيوي أبوعلي
دة بن المداني ليلة