بقلم : الاستاذ حميد طولست
صحيح أن أي حديث عن أي إصلاح أو ثورة دينية ينم عن وجود موروث فكري غارق في التراثي القديم ، ومنغمس في الخرافة المهيمنة على العقول والأساطير المكرسة لنزعات التواكلية واللامبالاة وإهمال العلم والمعرفة والابتكار ، وكل ما يحول دون انطلاق الإنسان نحو آفاق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والعدل وحقوق الإنسان ، وغيرها من القيم الإنسانية التي جاء بها الدين الإسلامي ،والتي لا ولن تتحقق إلا ببلورة قراءة جديدة لمضامين الخطاب الديني وأهدافه الكبرى في السمو بالعقل ، وغربلة التراث ، ونقد الفقه القديم ، قراءة وغير معارضة أو متصادمة مع تواثب الدين وقيمه السامية ومتوافقة مع العصر وقيمه الإنسانية ، كنموذج مثالي لتيار تنويري حقيقي ، يتسم دعاته بالواقعية واحترام ثوابت الدين المدعم للعلم والمعرفة والمحفز على التطور والتقدم ، ويؤمنون بأهميتها في الحياة الإنسانية ، والذي يصعب الوقوف على حضور مثيل له ضمن نوعية الخطاب التنويري الذي عاد من جديد للمغرب – على ظهر التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفها المغرب والتي جعلت الحاجة للإصلاح أكثر إلحاحا – بهذا الحجم المهول من دعاة الإصلاح بمختلف بواعث وخطط وأهداف تياراتهم المتنافرة ، وفرقهم المتصارعة ، وجماعاتهم المتناحرة ، وأيديولوجياتهم الشعبوية وتوجهاتهم العروبية منها والقومجية والعياشية من رجال الدين الذين هيمنوا – في العقود الأخيرة – على الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي ، وأصبحت لهم بها منابر كثيرة متنوعة البواعث ، تخطت حدود وظيفتهم المنحصرة فقط في شرح فروع الدين ، ليمروا بها إلى ما يخدم مصالهم الشخصية ، ويكسبهم الشهرة، ويقربهم من السلطة ، بعيدا عما له علاقة بهموم الناس ومصالهم الدينية والدنيوية ، الأمر الذي أثر في الساحة الدينية المغربية وعلى معالم تدين المغاربة، من خلال مضامين منشورات وتدوينات وتعليقات “الفيسبوكيين” التي فضحت حقيقة ماهية هذا النوع من الإصلاح الديني وكشفت كثرة دعاوى التنوير والتجديد المزيفة التي يتبع فيها المتنورون -رجال الدين والليبراليين- أساليب التنوير الاستعلائي الذي يعتمدون فيه أقصى أساليب الاستعلاء والصدمة والتحقير ، التي لا تزيد الناس إلا اقتناعا بأنه ليس الدين هو ما تخاف عليه غالبية التنويريين ويتنازعون من أجل حمايته ، ويدفعهم للنفور والتشدد في رفض تبني أجندتهم أو أفكارهم جميعهم بما فيهم دعاة الحداثة ،من صنف اللبراليين واليساريين الجدد ، الذين يعتقدون أن الإصلاح الديني ليس في استلهام واقتباس كل نظم الحداثة وضرورة الغرف من مدارسها فقط ، وأنه في إطلاق العنان لرغبات الطعن والتشكيك في الثوابت الدينية والسخرية منها وتقويضها ، وإيمانهم بأنه من الصعب أن يكون المرء تنويريا دون أن يطعن في كل ما يمت بصلة للدين، ويهاجمه ويلصق به كل نقائص الحياة أو تناقضاتها ، وبما فيهم رجال الدين ، من فئة فقهاء الجنابة وفتاوى نكاح الجهاد ، الذين كانوا طوال تاريخهم مصدرا للتخلف والدجل والقمع ومعاداة الانفتاح ورفض استلهام أي من أشكال الحداثة ، بدعوى محاربتهم البدع في الدين والسلوك ، ولاعتقادهم أنه لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، بينما حقيقة ذلك صادر من خوفهم على تجارتهم التي يخشون ضياع اقتصادياتها المعفاة من الضرائب ، ويحاربون لبقائها، المهدد بالزوال بانتشار وعي الناس بضرورة التحرر من وصاية الشيوخ والدعاة ، وثقتهم في قدراتهم على فهم الدين من دون وسيط أو توجيه من غير العقل السالم السليم ، والذي يعرض استعماله مراكز رجال الدين الاجتماعية ومصالحهم الأيديولوجية ، وشهواتهم الدنيوية للاهتزاز ، الذي فيه نهاية مزايا العظمة والتفخيم وباقي صفات التمييز والقداسة التي لا يستحقها إلا من يشتغل في حقول العلوم العقلية التجريبية ، من قبيل الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والهندسة والبايلوجيا والجيولوجيا وتكنولوجيا الكومبيوتر وغيرها من العلوم ، المناقضة كليا للفكر الديني ، الذي أوجده شيوخ الدين ودعاته لشرح فروع الدين ، الذي بمقدور أي إنسان الإطلاع عليها في بطون كتب الفقه والأصول وتفسير القرآن والعقائد، وغيرها كثير من المؤلفات البسيطة لكونها ليست في حاجة إلى تخصص ، لعدم اعتمادها على مناهج الملاحظة والتأمل العقلي والتجربة الحسية .
أعتقد جازما أنه أمام كل هذا الطابع التسلطي المقدس ، الذي يتقمصه رجال الدين – في المجتمعات التي تنتشر فيها الأمية والجهل – للتحكم من خلاله باسم الله تعالى في أرواح البشر وحريتهم وكرامتهم وعقولهم وأموالهم ، قد آن الأوان للتأسيس لسبل جديدة في التنوير تستفيد من جميع مناهج التنويريين القدامى والجدد البعيدة كل البعد عن أساليب القلة والبلطجة التي يستخدمها ،بعض من رجال الدين المتحجرين واللبراليين ضيقي الأفق الذين لا يخدمون القضية التنويرية، بقدر ما يعوقون انطلاقها في مساحات أكبر وأوسع..