إذا نظرنا إلى المكان فإننا واجدون أنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالذاكرة وبالصور، لأنه يثور الخيال الذي يطمع إلى الحاضر والمستقبل، فالفرد له هذا الارتباط المركزي، لذا يعمل باشلار بدراسة هذا البيت باعتباره ذاكرة هذا المتخيل، حيث يمارس سلطة الإثارة، ويبرز أحلام اليقظة التي تربطه به، لأنه كون مفتوح على ذاته يمنحه الألفة والجمال والوجود،
إن المكان يجذب الإنسان نحو هذا الوجود الذي نسكنه، وهذه الصور التي تتخذ لها، حيث نسخ عليها قيما جديدة في جدل بين الذات والموضوع، جدل يسهم في إعادة بناء الوجود المكاني لهذه الذات ويشترك في صياغة عدة مفاهيم جديدة المرتبطة بالإدراك
ويقول باشلار في كتابه جماليات المكان ص 36 “بتصرف إلى البحث عن البذرة الجوهرية والمؤكدة والمباشرة لما يوفره هذا النوع أو ذلك من هناءة، إن أول مهمة للظاهراتي في كل بيت أن يجد القوقعة الأصلية فباشلار يدعو إلى نمط من المعرفة والذاكرة يتوخى هدفا إنسانيا في المحل الأول هو تحرير الإنسان لا تجهيله والسيطرة عليه، والمكان إذن لا بد أن يكون صورة تقدم لنا بوصف الأبنية الاجتماعية، وتحليل وظائفها للمشاركين فيها بمن فيهم الأصليين، والكشف عما يرتبط بها من أهداف وأساطير التي تخفى الواقع، هكذا وفي ظل ميل باشلار إلى تبرير الوضع القائم في المجتمع التي نشأ وترعرع فيها الكائن الحي، وارتباطه بالمكان الذي ظهر في نطاقه، وعدم عجزه عن تفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية المتغيرة ووضوح دوره في بناء الواقع الاجتماعي ونكوسيه مشروعات البحث لخدمة أغراض ذاتية واجتماعية، وقد أفضى ذلك إلى ظهور جملة من الاتجاهات النظرية البديلة التي اعتقد أصحابها أنها يمكن أن تحل محل الأمكنة الأخرى، فالإنسان يتعامل مع المكان فإنه يتعامل مع وجوده وذاته وليس بالمفهوم الهندسي كما يرى باشلار حيث تتحلى مركزيته في تجربة العالم (أحمد عويز الذاكرة والمتخيل عند با شلار ص 66، فالمكان إذن هو مدخل ثقافي تاريخي محدد إلى الأنتوجينيا تاريخي (نشأة الفرد في سياقاته التاريخية المتنوعة، وأيضا التطورات الغير المتجانسة، لأن التطور يتطلب انبثاق أشكال ووظائف جدية للتفاعل ما بين المكان وبين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه
تعد وحدة التحليل الملائمة لدراسة الحفز المتبادل بين الذات والتاريخ كمنظومة التي تضطلع بدور البيئة القريبة التغير النهائي،
فالمكان هو تحريك شاعرية الإنسان من خلال علاقة التلازم التي تسهم في تداعي الذكريات، ويفض إلى إبراز منجز خيالي بشكل مباشرن لأن الإنسان عبارة عن قارة من التخيلات والسلوكات والعواصف، والشعور، لذا فالمكان له تأثير مباشر على الذات الإنسانية، يجعلها إما في عيشة سعيدة أو في شقاء، لذا نجد العديد من الباحثين قد تطرقوا إلى علاقة المكان بأمراض العصر المعولم ، ومن بين هذه الأمراض الاكتئاب، والهذيان والوسواس القهري، والخوف، والزهايمر،
وتتميز هذه الأمراض بالاضطراب الوجداني المرتبط بالحزن والألم والصمت الدفين، وبكونه عادة مرتبطا بما هو بيولوجي أو وراثي أو نفس أو اجتماعي، لأن أغلب الأسر العربية تعيش هذه الآفة نظرا لتعقد الحياة، وغياب رفاهية الذات، وأيضا الترابط العائلي الذي لم يعد سوى نقطة انشقاق بين الذات /والعالم الخارجي وبين الجسم والعقل، لذا نعتبر أن المخ هو المركز للإحساس وليس القلب كما يرى علماء النفس الفيزيولوجي، لذا يرى باجلاي أن الاكتئاب هو نوع من جنون العصر والخوف من الغياب، وفقدان الجسد للأمل والإحساس بالملل والكسل وأيضا الإحساس بفقدان الشهية، إذن كيف يأتي هذا الاكتئاب إلى الذات الإنسانية؟ ولماذا لا نعيش السعادة؟ هل للسعادة مقاييس معينة؟ وهل للحالة النفسية عوامل أخرى كما يرى أيريك لاسون؟ أسئلة تقربنا من هذا الجسد الذي يتعرض لعدة عوامل سواء كانت خارجية أو داخلية الشيء الذي يجعله يعاني نظرا كما قلت إلى عوامل نفسية داخلية لا يستطيع المريض أن يبوح بها، فيحس بالنقصان والخجل، ويلتجئ إلى الصمت المطبق والوحدة، لهذا اكد علماء النفس أن هؤلاء هم الذين يعانون في الصمت لأنهم يحسون بأنهم فقدوا الحياة ولم يستطيعوا أن يعيشوا حياتهم كما كانت، ولذا أكد علماء النفس أن هذا المرض يبدو لنا من خلال بعض الحالات كالإرهاق، وعدم قدرة على رفع الرأس أو العينين وانحنا الظهر وظهور اضطراب الكلام بصوت منخفض ويصاب أيضا بعسر الهضم وآلام البطن وآلام المفاصل والقلب وأيضا بالبرود الجنسي واضطراب في العادة الشهرية
إذن لم يعد الاكتئاب لعنة العصر، بل قوة قاهرة التي لا يمكن ردعها، لكنه تطبيق منفصل ومرتبك تقريبا للقيود اللازمة لحفظ النظام الجسدي، لأن المحلل النفسي عليه أن يصغي للمريض لكنه بصمته من وراء الأريكة التي يستلقي عليها المريض يتحول إلى متابعة خالصة، صمت صاف ومتحفظ، قاض يعاقب ويثبت بحكم لا يهبط حتى إلا مستوى اللغة، لكن التحليل النفسي غير قادر على سماع أصوات الاعقل، فعال في بعض الحالات لكنه في النهاية يظل غريبا بالنسبة لمشروع اللاوعي المستقل تماما (الجنون والحضارة) ص 26 فوكو-م- فهذا الحكم الفوكاوي لا ينبغي أخذه بالحسبان لأن العلوم الإنسانية تتطور وتتحول تبعا لتطور بسنة الإبداع وقانون الممارسة التجريبية لأن هذا الاكتئاب كما قلت يكون إما وراثيا أو يأتي عن طريق الصدمة أو الخوف من العالم الخارجي، الشيء الذي يجعل الإنسان يتعرض للتوتر والإحباط مما يصنع لنفسه عالما غير العالم الذي نعيشه، عالم يكتنفه التسلط والحزن والألم والصراع والفشل كل هذا رغبة في عقاب هذه الذات، فلمكتئب تظهر عليه بعض العلامات والتغيرات في كلامه وفي سلوكه، نظرا لفقدانه بعض الكيميائيات المخ المنشطة فهذه المادة تتعرض للتشتت لعدم إفرازها السيروتونين والنورادرينالين بالإضافة إلى الغدة الدرقية التي تساعدنا على تنظيم حرارة الجسم وأيضا خفقات القلب كما يقول علماء الجهاز العصبي، والاكتئاب كما ذكرت لا يأتي هكذا عبثا بل يحمل في طياته مجموعة من المسببات كالطلاق، والتسلط واللاتربية وأيضا يرجحه بعض العلماء كويليم إريك إلى نقص في الكالسيوم مما يعطي للجسم التعب والعودة إلى الفراش، بالإضافة إلى مرض داء السكري، وقصور الدرقية كما قلت سابقا، وأيضا بعض الأدوية المضادة لبعض الأمراض كالقلب والصرع، ومنع الحمل والتهاب المفاصل، لذا فالاكتئاب يتخذ عدة تكوينات منها البسيط ومنها المركب، فالبسيط يتمثل في الحزن والبكاء واليأس والأرق والنوم أما المركب فيتمثل التفكير والتركيز وألم الظهر أو حالات الصداع في الرأس أو تشويه الذات أو العزل الاجتماعي كما يرى جاك لاكان
إذن هذا التدني في المزاج يفقد الإنسان قدرته في التحكم في سلوكاته وفي الأشياء التي يحياها، فيحس الإنسان بالتعب في المعدة أو في الدماغ وهذا ما يمكن تسميته بالاكتئاب الجسدي لذا يتوجب على المريض أن يبحث عن الطبيب، الخاص بالأمراض الباطنية وليس النفسية وهذا ما نراه في عالمنا العربي حيث ترى المنظمة العالمية للصحة أن هذا العالم العربي الذي ذكرته أن أغلب سكانه يعانون من اضطرابات نفسية بسبب فقدان العمل والبطالة، والأسرة، والقبيلة والحروب، والبعد الاقتصادي والسياسي، وتفي المنظمة بحماية الإنسان بالرياضة وأكل الجيد والتنفس الإيجابي والدعم الأسري والوطن وأن يتم التعامل مع المريض بالعلاج المعرفي السلوكي دون تناول العقاقير
ويقول باشلار في هذا الصدد: لماذا تتسم التأملات التي تحولنا نحو طفولتنا بهذه الجاذبية وبهذه القيمة الروحية، إن سبب هذه القيمة التي تقاوم تجارب الحياة، هو أن الطفولة تبقى فينا مبدأ حياة عميقة، حياة تتفق دوما مع إمكانيات البدء من جديد، كل ما يبدأ فينا في جو من نقاوة البدء هو جنون الحياة والأنموذج المثالي الأكبر للحياة البادئة، شاعرية أحلام اليقظة ص 109
إذن ينظر إلى التحليل النفس في عالمنا العربي برؤية قدحية باعتباره الوسيلة الأهم للإبقاء خارج المجتمع الإنساني، وهذه الرؤية كما قلت هوما يحيط بوعينا المشوه والمخادع في ظل مادات يعرف بالهوية المجنونة، وبالطب الخشوني، لكن البحث عن المنشأ والجوهر بدلا عن المنتهى العرفي والعرضي الفقهي والسحري هو ما يكسر هذه الممارسة الضيقة الأفق ويفتح للعلوم الحقة أن تخترق هذا لكائن الحي، فكريا وذهنيا ومعرفيا، لتجعله لا ينساق وراء الغيوم والأهواء، لذا فالعلم هو المركز والجوهر، فيه نسعى ونشقى، فإذا استخدمنا هذا العقل (علم قوانين الفكر) فإننا نعرف من نحن؟ ولماذا نغوص في تجارب الآخرين وننسى أنفسنا كما تقول ميلاني كلاين،
أسئلة كثيرة تجعل الاكتئاب النفسي مفتوحا على التجارب العالمية من أجل إيجاد ظرف جديد للتفكير والتأقلم مع الآخرين، ويوحي علماء النفس بالمحادثة وبالحضور الشخص قصد تقليص هذا الفيروس منها التنشيط السلوكي وأيضا العلاج بأسلوب حل القضايا الداخلية وأيضا تكون هناك رعاية ذاتية لرأب الفجوة في الجسد، هذا الاكتئاب فهناك من يرده إلى الشيخوخة رغم تناول بعض الأدوية المساعدة تبيت لو يرام وايبيتا لوبرام فإننا نرى لا مبالاة، والسودادية وضائقة القلق والبعد الذهاني والجامودية كما يرى الباحث هاملتون وبيك، فهذان الباحثان يقدمان مقاربة مهمة تسلط الضوء على الاختبار الذاتي ومكوناته وأيضا ملكاته، وانطولوجيا أخلاقه عبر أسئلة متنوعة من الصور التي تنتمي إما إلى الماضي الطفولي وإما إلى صور عالم محاصر يندمج فيه العقل إلى إنتاج رموزه، المرتبطة بالذاكرة ولا تتأسس على قاعدة منطقية فتبدأ بالتهويمات والهلوسة.
لذا يطلب المجتمع المدني م الدولة أن تهتم بهذه الفئات التي تعيش خارج العالم المحيطة بها، وأن تساعدهم على إعادة الذات إلى قاعدتها، لا أن نرفض هذه السياقات التي ذكرتها، فهي كلها سياقات تأتي إما بالوراثة الجينية أو بالعوامل الاقتصادية أو السلطوية أو بالأبعاد الأسرية والمجتمعية لذا لا بد أن نعيد النظر في هذا المرض الذي يمتص الإنسان ويجعله منعزلا عن العالم الخارجي.
ولنا عودة إلى الموضوع
إنجاز د الغزيوي أبو علي