- نـجيب طــلال
لا أدري ما سبب النزول أو كيف ارتميت في أحضان الورقة البيضاء ، لأخط ما اعتراني بعَـيد قراءة “حالة من حالات رجل سبعيني”(1) للقاص ع الحميد الغرباوي، الأخ والصديق والرفيق، هل هي رغبة في التواصل بين دروب الكلمات والمعاني، لتحقيق علاقة تقابل مجازي ؟– ربما- بحكم أنني لم ألتق به قبيل ظهور ذاك الوباء اللعين( كوفيد)؟ أو ربما ارتماء لاشعوري لقراءة النص، قراءة خارج المحفل النقدي على ما يبدو؟ بعد إحساسي بلذته السردية ، وصوره العميقة بعمق إحساس الرؤيا المكثفة بالتجارب والتمرس في دروب الحياة ؟ أو هُـو نوع من التماهي السلوكي، مستشعِـرا نفسي بأنني طرف في سياق النص، أو أنا /هو الذي انقطع عن المقهى، انقطاع يترادف عبر صور ساخرة من رجل سبعـيني ، بلغته ولكنته البيضاوية/ الشاوية ، التي تتداخل بين حياته اليومية وفي قصصه المتعددة لا فرق. (وتخيلت نفسي أرد عليه بسخرية لاذعة)* الفرق أنه صارم وجدي في طبعه، ساخر أمام صورة العالم ، بغية تفجيرها في ذهنية وأحاسيس القارئ المفترض ، وتفجيرها أمامنا في تلك الجلسات التي كانت في المقهى، وبعد ذلك : كلما زرت منطقة الحبوس إلا وأسأل عنه نادل مقهاه المفضلة ، فدائما كان الرد، لم يأت منذ شهور، هو ورفاقه المفضلين؟ إنها طبيعة الندل في المقاهي/ الحانات بحيث: ( أن ندل المقاهي والمشرفين عليها يحفظون أسماء زبائنهم ومواقيت وأيام حضورهم وغيابهم، وما يروج وسط الجلسات من أحاديث من غير تكليف، وبتكليف أحايين كثيرة من جهة خاصة، خاصة جدا.)*ممكن أن يكون صائبا في حكمه بناء على تعليل منطقي ( لا أثق في العاملين بالمقهى..علمتني التجربة، من أيام الشباب وانخراطي في العمل السياسي،)*هكذا كانت العلاقة بين النادل/ الرواد، وهـي ليست علاقة إلغاء أو نفي أو تضاد، بل ترتبط بالاحتياط ، ولما لا نقول : الخوف من العسس وبطش سلطتهم، وقتئذ : ( كل من يتمتع بسلطة فهو يسيء استخدامها، لذا يجب أن يكون لكل سلطة، سلطة أخرى تراقبها *« من يراقبها إذن؟)* ولكن نحن مراقبين، صيف شتاء ولاسيما أن:( المشرفون والندل ليسوا وحدهم المكلفين بمهمة المراقبة، ثمة آخرون مكلفون بنفس المهمة يجلسون إلى جوارك في المقهى باعتبارهم من روادها. وما أكثر كاميرات المراقبة البشرية في غير المقاهي…)*
فهاته حقيقة نلمسها جميعا، أينما ارتحل المرء أو استقر، ولكن تصدر عن عجوز لا تهمه المراقبة ، ولكن يتبين أن عزيزنا القاص ” الغرباوي” لم يتغير، بحيث لازال مشاغبا كعادته، لكن شغـب يحكمه الاتزان والمنطق ، والبساطة في تركيبية شديدة ، مقابل هذا صريح وخفي في آن واحد، (..أنا اليوم عجوز. والدنيا تغيرت.. ظاهريا لك الحق في المعارضة، في الاحتجاج والامتناع أو الرفض والإدلاء بالرأي باسم الديموقراطية وحرية التعبير، غير أن هذا الظاهر ليس سوى خدعة )* تلك قناعة نابعة من المراس وخبرات الدنيا التي يعشقها رغم مخاطر الزمن وتقلباته. أي نعم : عاشق للحياة، مقاوم عنيد، يحلم بالمستقبل وبالغد الأحسن رغم بلوغه “السبعين ” أليس كلنا يتماهى بحلم لمستقبل مائز ومتميز عن الحاضر ! رغم بلوغنا “السبعين”؟ طبعا هي مرحلة تندرج في باب المتغيرات العمرية ، ولكن تبقى الثوابت التي تتأطر في المبادئ والقيم، والتي تزداد نضجا لتحميني من الوقوع في وهْـم المغالطات والانفعالات المتطرفة ، وبالتالي: (ما الخطر الذي يشكله شخص في مثل سني؟ غبت عن المقهى. لم يرغمني أحد على هذا الغياب، شبيه بعزلة لا تعكس صدمة أو عقدة نفسية وإنما ردة فعل وجودية)* نعلم أن المقهى فضاء ترفيهي/علائقي/استشفائي/ /هروبي/ اجتماعي/…/ ولا خلاف بأنه جزء لا يتجزأ من المشهد الحضاري، ألم تكن المقهى مهد للحركات الأدبية والفكرية والفلسفية في العالم كله؟ والقاص عبدالحميد الغرباوي، استقى العَـديد من قصصه، الممزوجة بين المتخيل والواقع من المقهى، بحيث لا تخلو مجموعة قصصية من انوجاد المقهى كمكان فاعل في الحكي مثل- أكواريوم (2) دخان قهوة بحليب (3) وبالتالي فلماذا انقطع عن المقهى هكذا ؟:( للحقيقة، أجهل عدد أيام غيابي.. ولا أتذكر كيف ومتى أخذت قراري بالابتعاد عن المقهى فترة من الزمن..)*هل حالتي شبيهة به؛ هي سبب التماهي بحمولة النص؟ أو حالته شبيهة بي؟ هل لأنها لم تـعُـد ملاذا للعجزة ، وأكسجين للكائنات المهددة بالانقراض؟ ربّما بالمعنى الذي نريد أن نعرفه، لم تعد المقهى مكانا صحيا، مكانا للصخب والسخرية والضحك والمزاح بين الأصدقاء والرواد، نتيجة رحيل العديد من رفاق الدرب وأصدقاء الأيام، ناهينا عن تعقد الحياة وتركيبتها، أم السبب يكمن في المقاهي “المخملية” ذات طابع “الماركوتينغ” تلك الخارجة عن مدارات المدن، تلك التي استقطبت رواد وزبائن ما تبقى من المقاهي، لا فرق بين مقهى شعبية/ حضرية، الكل أمسى في شرود يفكر مرتين وثلاثا ، وتارة يهيم هذا وذاك في أعماق الهاتف الذكي ، حيث يبحرون في الفضاء الأزرق ، لتبدو أنت غريبا / وحيدا/ تناجي إما جريدة أو كتابا ، أو تساير القوم بهاتفك، ليموت الشغب في دواخلك، ليتوقف اللسان عن تمرن نطقه ، ومخارج حروفه لأنه:( ماذا يفعل شخص في حالتي غير أن يُنصت لعظامه ولأنفاسه محاولا ترتيب ما تشتت في عقله من أفكار وصور وأحداث وذكريات..)* طبعا هي حالة من حالات رجل سبعيني، ولكن إن لم يكن مبدعا / كاتبا / مشاغبا / رافضا للقواعِـد/ … فالذييقاوم الغياب بالحضور و يكافح ضد العدم من أجل قضية الإنسان أي: (أكيد لا يفكر سوى في أمر واحد هو أن يكون حرا طليقا في الفضاء الذي لا حدود له)* وبالتالي هل انقطاعه عن المقهى عزلة أم انسياق(كنا اتفقنا في آخر جلسة لنا أن نغيب عن المقهى مدة.. أتذكر ذلك؟ )* هي بالتأكيد غربة واغتراب وجداني ومكاني ! فحين العودة إليه، قصد استرجاع ما تبقى من حيوية الذكريات ، تشعـر بنوع من الاختناق والذوبان الكينوني في عزلة ذاتية كئيبة لأن:( نفسية الإنسان تصبح شديدة الرهافة مع التوغل في العمر، سريعة التأثر والانفعال.. وفي هذه الحالة، الأفضل أن يضع المرء، بين الفينة والأخرى، مسافة بينه وبين الناس..)* هذا ليس حلا. لأن المرء كائن اجتماعي، ولهذا السبب وبدون سابق إعلان ! عاد المبدع ” الغرباوي” للمقهى ليستكين للحظات، لكن المفاجأة ، يصطدم بحالتين – اقتحام شخص خلوته / مائدته، وهولا يتذكره و لا يعرفه :(دون أن أملك الجرأة لأعتذر لمحدثي، خشية أن يعتبر اعتذاري شكلا من أشكال الرفض أو التعالي.. جلس الشخص إلى نفس المائدة صامتا، مكتفيا بالتحديق في الواجهة الزجاجية العريضة)* ومصادفته مع نشرة الأخبار: ( استهلها مقدمها بخبر استمرار العُـدوان الوحشي على غزة. مشهد البنايات المدمرة والجرحى والقتلى تملأ مساحة الشاشة… كان قد وصلني توا خبر استشهاد كاتبة فلسطينية شابة* تحت القصف.).لكن المثير أنه استخلص الحكي/ موضوع الفواجع والتذمر، لما تقوم به الطغمة الإسرائيلية من مجازر في حق الفلسطينيين أطفالا ومدنيين !! (طال زمن الرجوع يا فيروز) * هل لأننا لم نعد نستحمل ما تم حمله من معاناة وهموم وأوهام وانتظارات كما انتظر[استراغون و فلاديمير] – [ كودو](4) لكي نبقى نستلذ بالوجع والحزن الإنساني !أم (ما زلت بحاجة إلى مزيد من الوقت لأكون على أتم الاستعداد لمجالسة أي أحد والدخول معه في حديث.. وسيان أن يكون الحديث قصيرا أم طويلا، المشكلة تكمن في الموضوع، موضوع الحديث)* وبناء عليه فالمعرفة ليست معطى قابل للاكتمال .
استــئناس:
1) حالة من حالات رجل سبعيني لعبد الحميد الغرباوي: في جريدة الإتحاد الإشتراكي بتاريخ 27 /10/ 2023 ع 13.582
2)) مجموعة ( أكواريوم) منشورات مجموعة البحث في القصة بالمغرب سنة 2008م
3) مجموعة (دخان وقهوة بحليب ) للقاص عبد الحميد الغرباوي عن مطبعة دار علي بن زيد للطباعة والنّشر
4) مسرحية – في انتظار جودو- لصمويل بيكيت. كتبها سنة 1948 ولازالت صالحة للعرض !
*) ما بين معكوفتين من النص – حالة من حالات رجل سبعيني –