إنجاز: د الغزيوي أبو علي
يناقش هذا المقال المفهوم الجوهري للقوة الإلتزامية التحليلية لعدم تقديس ما هو مقدم من الوزارة الوصية، وتحريما هو محرم على المدرس، وتنزيه ما هو منزه لدى المدرس، لأن الخطاب المؤدلج والمتبلور كجوهر لا يعطي للمدرس مسافة التفكير ولا الحرية ولا مساءلة الذات، بل يجعله منغلقا في المؤسسة دون مجاوزة ما هو محرم من طرف الوزارة الوصية، لأن المرحلة التاريخية التي نعيشها هي عبارة عن تراكمات للحكومات السابقة واللاحقة، الشيء الذي جعل الأستاذ عبارة عن كيس من المعلومات المعولمة التي تنفصل عن المنطق التاريخي للصيرورة التطورية النقدية، ولقد ساد الاعتقاد في تاريخ التربية أن الأستاذ هو عماد المجتمع، لكن تحول من دائرة الإبداع والتفكير إلى دائرة الخضوع والمراقبة والسلطة ما يقول الجابري في كتابه “مشكلة التعليم”، لكن مع ظهور الجهاز التنسيقي الوطني بدأ التحول في المفاهيم والرؤى وتزايد الاهتمام النظري والتجريبي بتدخل النقابات من خلال متخصصين في السياسة وبالتالي اختلاف المقاربات باختلاف المنهجية والرؤى والمعالجة التطبيقية، وتفاوتت من هذا المنطلق النصوص التي ألصقت بظاهرة تحكيم النقابي من قبيل الصحوة، وتنوعت الخرجات المبررة لهذا الاستسلام، مثل البحث عن الذات، والهوية، والمهنية، والشخصية والكفاءة، والمهارة المهنية، والأجور والعقوبة، حيث لا يمكن من معالجتها بالمراهنة على حساب الأستاذ بتحسين الأوضاع الاجتماعية المادية، وإنما بإزالة كل البنود التي تشخص مكامن العجز والتخلق، لذا اتهمت النقابات الأكثر تمثيلية بالاستغراب وبالسقوط أما الداخلية لا أما رجل التعليم، لأن المتتبع لقراءة ولأصداء هذا النظام الأساسي أنه كتاب الأزمات، وعقيدة لزمن الشؤم، حيث يتبين أيضا من مضامينه أنه كتاب إشكالي قاتل للأستاذ ولشخصيته، وحمال لقضايا ساخنة على المستوى القانوني وعلى المستوى الخصخصة، لأن الأستاذ في هذه الدولة يحس بنوع من التحقير والخيبة لانتقاء الصدى المطلوب في دعوة إصلاحية جديدة، فالتنسيقيات كشفت عن وعي تاريخي، فاتحة الباب على مصراعيه من أجل إعادة كرامة الأستاذ وشخصيته، ومن هذه الناحية عملت من موقع موضوعي لمعانقة وعيا تاريخيا وعارفة بوعي اجتماعي تربوي، المعانق للتاريخ الاجتماعي والنظامي، لذا تنوعت المقاربات في معالجة هذه القضايا التربوية وهي أقرب ما يكون إلى مؤرخ اللحظة الذي يحدد المفاهيم المرسومة في النظام المطبوخ من طرف الشركاء النقابيين ومن طرف الوزير الوصي، لكن هذا الاتفاق السري لم يأت تلقائيا، بل جاء كاستجابة عن الأسئلة التي تشغل النقابيين والسياسيين وليس الأساتذة، لذا التنسيقيات التعليمية شوهت هذه العقدة السرية بوعي فكري وتاريخي وبرؤية نقدية تحدد السابق باللاحق والبداية بالنهاية المفتوحة، وذلك بمقياس علمي يرسم وجهة المدرس القادر على عدم اختزال التجربة العمرية في زيادة الأجر، بل في تفكيك لكل البنيات الفوقية وكذا لكل المراحل التي حولتها إلى تقليد ووصاية، من أجل الكشف لنقاط الانكسار الذي كونه الخطاب النقابي المسيس، وفي هذا التنافر الذي ينتمي إلى الإشكالية الخطابية التربوية المنقب والحديث التنسيقي اللامسيس جعلت الأستاذ يخضع لمنطق الصيرورة التاريخية ليقوم التفكير الحر والمبدع بإنكار قانون المراقبة والعقاب حسب تعبير ميشيل فوكو، كل هذا يشكل ظاهرة سوسيولوجية تحررية تنتشر داخل الأنسجة المؤسسات التربوية التي لا تنفصل عن الحق القانوني من أجل إعادة الاعتبار للأستاذ وللباحث التربوي، إن منطق النقابي اليوم لم يعد مقبولا لدى الإنسان المثقف، فلابد من المادة النظر في الهياكل وفي الموارد البشرية من أجل تلقيحها بلقاح معاصر لكي تكون لديها المناعة الإقناعية والاستعابية لكل الفئات التربوية، لذا عملت التنسيقية بتجاوزها والاستمرار فيها مع الرفض للاعتراضات عليها ولو كانت صائبة كما يرى أركون في كتابه (الفكر الأصولي) ص14، إن التركيز على إلغاء هذا النظام الأعرج هو تقويض للخطاب السياسي المغربي الذي يعمل على الاستنساخ لروح العولمة دون البحث والنقد لصيرورة الوعي الاجتماعي والتربوي، لأن الأخذ بهذا النظام هو اغتراب الأستاذ عن وطنه وهويته، لأن الوزارة أرادت أن تصنع إنسانا خاضعا للأوامر والنواهي، والانصياع والرضوخ وهذا ما لم يكن في السبعينيات والثمانينيات، ولا يكون اليوم وغذا، لأن التراكم يولد الانفجار ويحاول الأستاذ سواء المتعاقد أو غيره أن يعيد القراءة الجديدة بمفهوم تأصيل النظام الأساسي المعطوب برؤية ابستمولوجية لكي يؤكد عدم تكامله وعدم تفوقه على السيرورة التربوية الآن، فالخطاب النقابي الراهن ينكر وجود أية مقاربة بينه وبين الوزارة الوصية، أي بين ما أصلته النقابة وأفتت فيه وبه وبين ما عرضته الوزارة كما هو سائد في المسودة العرجاء والمعطوبة تقنيا ومنهجيا، لكن الفكر التنسيقي المر حول هذا المرسوم إلى رسم استراتيجي لغير مواقع التربية وإلى تحديد هوية المدرس المستقلة والمراهنة على عملية التفكير في عملية التغيير للنصوص المقدمة قصد امتلاكه خلاصة التغيير في شروط ترتبط بشخصية الأستاذ وحريته، وبالتناول للكثير من الأسئلة المتعلقة بالمجال التربوي المعاصر، لذا افتتحت التنسيقيات منظومة شعاراتية تؤكد على الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالمنطق التسويقي والتخصيصي على أنه ليس جهدا عقلانيا، ولا يمكن إخضاعه إلى جملة من التصورات الموضوعية المرتبطة بتراث التربية المعاصرة.
إن الحلم الذي يسعى له الأستاذ هو إعادة النظر في المنظومة التربوية نظريا ومنهجيا وما تشكله هذه القضية على المستوى الوجودي وأيضا على المستوى الموضوعي العلمي، لأن النقابات أتت لنا بالمعرفة التي لا تعصمنا من الزلل حسب تعبير أركون، وقد انتهى بها الأمر إلى حالة العزل والإقصاء من الحلقات والوقفات النضالية وهذا ما سمح للتنسيقيات إلى تجاوزها وانفصالها من أجل الوصول إلى منعطف تاريخي جديد وإلى موضوعية منطقية تجعل الأستاذ سيد الكون، وإلغاء لكل اللقاءات اللاموضوعية بين هذه النقابات والوزارة الوصية، من هنا نطرح السؤال المركزي: هل الوزارة الوصية قادرة على محاورة المجلس الوطني للتنسيقيات بالرغم من حضور النقابات؟ سؤال مركزي يتمثل وفق ترتيب عمودي يراعى فيه شخصية الأستاذ وهويته، وأناه ووعيه وفكره، لا أن يكون وريثة شرعية لسلطان النقابي والوزير، لذا يتبين من خلال الشعارات المرفوعة أما المديريات والنيابات تؤسس لوعي مضاد مستنبط بالعقل النقدي للإيديولوجية السائدة، غير أن الأهم من كل هذا هو إسقاط منظور النصوص المؤسسة على الظلم والتحقير والمقصورة على عدد لا محدود من الوصايا المهينة كما يرى بيير بورديو، هكذا ضاع اللين وقت الصيف كما يقال، لأن النقابات الأربعة ناهضت التجديد ورسمته بالبدعة وقصرته على إحياء ما تعثر أو ما خفي عنها، بذريعة النهوض برجل التعليم ماديا دون تشييد ممكة لهذا الأستاذ، فهذه الذهنية الأرثودوكسية غزتها الحناجر وقام أنصارها بعملية تشذيبها وتنزيل لما هو مغاير ومقيد بالواقعية والعدالة كما يرى بيير بورديو، ولم تكتف التنسيقيات بعملية التشذيب لكل الخطابات المؤدلجة، بل التفوا حول الأستاذ لكي يحقق ذاته بذاته ويكون قادرة صارمة مفادها أن كل مخالف معدوم كما يقول عبد الله العروي، (ما بعد التاريخانية) ي25، هكذا أعلنت هذه التنسيقيات بعدم التوقف إلا بعد التجديد والتميز ورحيل بروميثيوس، هكذا يكشف التوجه التاريخي ضرورة الاستماع إلى الشارع باعتباره صورة شعب قبل أن يدون في نص مضبوط بالجريمة والمراقبة والعقاب، ومن ثم فإن التربية لا تعني إعطاء المعرفة وإنما الإنسان هو الذي يصنع المعرفة والتاريخ، وهذه الميزة لا تراها الوزارة ولا الإدارة الوصية بل ترى الانضباط والصمت والقهر منذ قرون، ولكن هذا الشرط الاحتجاجي هو سر انتشاره السريع، وإضافة جديدة غير خاضعة لنور النقابات، وهذه القفزة النوعية أفرغت النهاية من معانيها، ودفعت إلى عدم التسليم بأن الأصل هو الباعث على تحويل المدرسة من تلقائية وعفوية إلى إبداع منهجي عقلاني، وهذا هو الأصل والمنبع لأنه يجسد القوة المحافظة باعتباره مشروعا بنائيا، وحرية اختيارية، وحمال لتأويلات متنوعة، فهي المكان الذي تخرج منها المثقف، والمفكر والفيلسوف والعالم والشاعر أو بالأساس أنها تمثل ذاكرة ذات آليات منطقية وتأثيرات مستمرة بالتميز والعقل التحويلي كما يقول بورديو (أصنام النظرية وأطياف الحرية على حرب) ص137، إن المنطق الجوهري في هذا المقال هو ممارسة حرية التفكير المضاد بعيدا عن المصادرة والمراقبة حيث أن تاريخ الاحتجاج يشهد بأن العلاقات مع المعرفة والحرية لا تخلو من الحجب والإقصاء والتزييف كما تقول النقابات وبعض السياسيين، من هذا المنطلق يجري الدخول إلى صلب الاحتجاج ليكون ذاتا متعالية وعالمة محل التقدير.
ومهما يكن من أمر فالمهمة من هذا الاحتجاج هو التحرر من الوصايا التي تمارس على الأستاذ باسم المراقبة والتقويم والتكوين المستمر، والإقصاء بقدر ما هي إلا تفكيك لكل المشاريع المسيجة من طرف الوصي والأمر، لأن الرهان هو تغذية التربية بوعي نقدي لا استهلاكي، وغير متصالح على ما هو سائد ويقول بايارد راستن <<إنه لمن الخطأ أن يمكن إحساس جماعة بالذنب وشعورها المازوخي بأن تحمل مسدسا تهدد به باسم العدالة>> حنة أرندت <<في العنف>> تر ابراهيم العريس ص104، إذن فالأستاذ تخطى حيزا هائلا من طروحات النقابات ورسم لنفسه أفاقا جديدة للتفكير في مسألة الاحتجاج، دعوة منه إلى الخلخلة أو الاستقرار مسببا إليها طرحات موجعة إلى كل توجهاتها الماضوية والكليانية مبتكرا أسئلة متساوقة مع هذه المرحلة المعاصرة لتفكيك كل الزعامات التي انتهت إليها الأحزاب المفبركة، حيث تمثل هذه الاحتجاجات أسئلة جديدة وأحداث فلسفية لا تدعو إلى الإجابة بقدر ما تلهث مراء إعادة الاعتبار إلى الأستاذ في واقع مستهلك ومخوصص، وليحيا الإبداع المغاير والتساؤل الذي لا يخرس صوته، ولم تزل الاحتجاجات تمارس سحرها الأخاذ وإن أبيح لها القول ليس على المستوى النظري فحسب وإنما اتسع التأثير ليصبح نبراسا فكريا متميزا تعكس ألوانه أطياف المتحيزات الإنسانية في الحقول المتنوعة وصول إلى السياسية والأخلاقية، وهذه الفعالية الفاعلية ليست عملية تشخيصية لآلام المدرس كما ترى النقابات، لأن هذه البدائل المسمات “التنسيقيات لا تعرف لا السياسة النضالية”، ولا تملك مشروعا رؤيويا، ولا تستطيع أن تحرك هذا الفعل التربوي إلا عبر بث الإرادة فيه – إرادة المساءلة – من أجل التخلص من العفوية ومن المألوفية والتلقائية لذا يجب التخلي عن العنترية والتمني المادي من أجل مقاومة الفناء إلى إبداع رؤية لتجسد أقصى الغايات في الحياة المدرسية إذن هل ينبغي للإنسان أن ينتصر ولو بالرمز على طوباويته؟ سؤال مركزي لا يدعي لنفسه أنه قبض على أهدافه وغاياته، وإنما العكس لا تكون المحاورة عبارة عن مطاردة إذا ما توقف الحوار بين المخزن والنقابات أكثر تمثيلية، فالتفكيك لا يستبطن نوايا حزبوية ولا سياسية في مقارعة الدولة الرأسمالية أو الهيمنة الاقتصادية المعولم، على حساب الطبقة الشغيلة والمفكرة والمستهلكة، فالنقابات تؤكد في بيانات أنها ناهضت منطق الحكومة اللبرالية وعبرت عن موقفها وتاريخها الرافض لهذا الإصلاح المزعوم، لأن الوزير هكذا كل التماثيل التي شيدت النقابات من ذي قبل، فقالوا من فعل هذا الدمار، قال لهم الوزير اسألوا الحكومة، فردوا عليه أف لانت ومن معك، فظهرت التنسيقيات التي أدمجت بين مفهومي الأستاذ واللغة الاحتجاجية ليتمطهر خارجيا للتمثيل السياسي البديل ودون وضع حدود بين الممارسة والشخصية، وهذا التحول يقربنا من نيوليبرالية التي تعمل على تسويق خدمة المصالح العامة وضرورة النهوض بالعملية التربوية لتقوم بدورها التنويري في تصويب مسارات العمل السياسي في مقاومة تكريس الهيمنة ومنهجيتها من الجهاز الحاكم في السياسة العمومية.
يهدف هذا المقال إلى تعريف القراء على مسائل الفلسفة النضالية والسياسية دون اقتراض وجود أي معرفة سابقة، وتعد النقابة مرجعا أساسيا هاما لكل مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي إذ نشأت من معطف السياسة ومن القانون المنظم من طرف الدولة، لذا فيروز التنسيقيات ليس كبديل للشأن النقابي، ولكن الدولة حاولت أن تورط النقابات في هذا المسار لتفقد صولتها وأنافتها النضالية، إذن لا غنى عن فهم هذه اللعبة المخزنية وأسراره الداخلية كما يقول ديفيد درفائيل في كتابه “إشكالات الفلسفة السياسية” تر عمر فتحي ص313.