بقلم الباحث الاستاذ : نجيب طلال
إهــداء: لكل أرواح أمهات هذا البلــد:
… ولكن اليوم استيقظت من نومي، لأحكي ما راج تحْـت سقفي الذي يغطي غطاء فراشي ، حينما توقـَف قريني عن الوشوشة وممارسة شغبه ما بين سطور ما كنت أقرأه ، أو ما أدونه ، حسب رغبته، التي لا أملك فيها سوى الانصياع كبهيمة الليل البهيم ، هكذا أشعر ! نعم أنام العادة بعد فراقنا، مسترخيا عظامي؛ وتسرب غيبوبة تامة ، ربما العياء أو ربما التعود ؟ وعلى ما يبدو أنني أنام كما ينام الشرفاء، بدون مخدرات ولا خمرة معتقة ، فرنسية الصنع تذيب المـخَّ وتدوخ العقل، لينسى ذاك العقل المفروغ من مـخه ! ما اقترفه صباحا في حق البلاد والعباد ، من قرارات جائرة وشطط بالتراتبية المقيتة، مادام هو أسير أسياده ! وعبد مُستعبَد لرغباتهم ! ونمت في هاته الليلة الحارة في عز فصل الخريف ، إنه التغير المناخي كما نسمع من قنواتهم ! ولكن ما أشعر به يقينا ففصل الخريف لم يعُـد خريفـيا على ما يبدو ! لأن الفصول اختلطت، كاختلاط الزرع بالشعير، هكذا كانت تقولها والدتي رحمها الله ، ورحم كل من سبقونا، واعتنقوا اللحد والأتربة الطيبة الطاهرة . بعيدا عن دنس طبقات التربة التراتبية ، والدتي كانت تؤكد عليها حينما تمطر السماء، وبرهة تشمس بدرجة حرارية عالية . ولكِـن كيف وصلت والدتي لباب شقتي ؟ عجبا أو عجبي لا فـَرق ! لأنها لا تعرف الشقة تأكيدا؛ ولا تعرف المنطقة لأنني اقتنيتـُها وهي متوفية ، في دار البقاء . مستحيل … ما يقع الآن… إنها لزيارة مفاجئة !! فتحـتُ لها باب الشقة بشوْق وعِناق ، لكن هاته المرة لم تكن فرحة ؛ مبتهجة بلقائي، ولا مبتسمة برؤيتي، إنها قلقة جدا ومنفعلة درجات ، ودموع الضعف تنهمر من مقلتيها العسليتين، الصغيرتين، المطلتان من فوق نقاب أسودٍ يلائم جلبابَ أهل الحشمة و الوقار في زمن الحياء والألفة بين الجيران والأهل والرفاق، واحترام الشيخ وتقدير الصبي… حينما استرخت على أول أريكة أجهشت ببكاء حارق. سألتها بهدوء ؟ لا جواب . أعَـدت السؤال بحيرة ؟ فـَلا جواب . كررت السؤال بتوتر؟ إلا و ازدادت دموعها انهمارا !
– لما البكاء ياولدتي؟ ماذا أصابك؟ هل توفي أحَـد أقربائنا ولا علم لي ؟ هل تطاول عليك أحَـد إخوتي ؟ أم أحَـد إخوتك ؟ نظرتْ إليَّ باشمئزاز، وخـَذها الأيسر البني كبشرتي، تسربت إليه مادة ” الكحول” الأسود الذي تزين به عينيها وتحفظهما من الرمد وشم العفونة ، نعم لقد رأيته جيدا: إنه الكحــلُ ! تقليد نسوي ؛ نسـائي؛ كان بين النساء اللواتي لم يعرفـن أين يوجد مستشفى الحي ! ولا عيادة طبيب مختص ! كـُنَّ أصحاء يقاومن عوائد الزمان وتربية الأبناء والأحفاد ، أيقظتني صرختها من السهو و التذكر…. أجل صرخـَت بشدة في وجهي، هل جننت حتى يُجَـنَّ إخوتي أو إخوتك ، ليتطاولوا علي… لقد تطاول علي “مقدم الحي”… قاطعتها بانفعال حاد: كيف ؟ مقدم الحي وغيره يعرفوننا جيدا ويحترموننا ، ويقـدرونك يا أمــاه.
أي نعم ، ولكن هاته المرة انقلب ضدنا وخان العشرة وزمن الطفولة ، فأبلغهم ، بضرر قالوا: يهَـدد الساكنة ، بعْـدما بللتُ عتبة المنزل بالماء، و الله وبرب العِـزة ياولدي ، دلو من الماء فقط . نظفت به أوساخ عتبة المنزل ؟ بكثرة جلوس شباب الحي عليه كل ليلة: فـَساح الماء من زقاقنا للأزقة الأخرى، نحو أزقة الشارع العام ، قالوا: ترك شقوقا في أرضية الأزقة المجاورة ! وحفـَرا في الشارع العام ! هاهي” الذعيرة التي توصلت بها يا ولدي(…) والتي سلمها لي ” مقدم الحي” هـذا الصباح؟ ” إنها السلطة يا بـُنـيَّ، تفعَـل فينا ما تشاء! ومتى تشاء ! أخذتها بلهفة من يديها، التي بدأت ترتعش ! اطلعت على فحوى الورقة بسرعة، حاولت أن أمزقها، ولكن تراجعَـت يَـدي. ما فائدة تمزيق حجة هي ضدهم أمام المحاكم ..بناء على الضرر الذي أحدثته السيدة (ميم) جراء رش المياه على عتبة منزلها الكائن بزنقة ( نون) والذي انهمر كالنهر الجارف نحو زنقة ( ألف) مما أحْـدث ضررا في شارع ( ميم ) من شقوق بليغة؛ تحتاج لترميم. حيث قررت لجنة المعاينة ، في فصلها الفريد أداء ذعيرة قـَدرها(9000.0 درهم) وكل تأخر في الأداء تنضاف إليه يوميا ما قـَدره ( .700.0 درهم)… تركتها تنوح ، ولا أدري كيف خرجت من الشقة ؟ ولا أعلم كيف وصلتُ لموْطن ولادتي ؟ لأمسك بمقـدم الحي من لحيته الشقراء ، رغم أنه عوْن سلطة حاول الهروب من قبضتي، ولكنه هَـددني بسلطته ، فـلم يجد مهربا حينما أشهَـرت في وجْـهـِه ورقة الحكم التي سلمها لوالدتي : كيف تـجرأ أن تتهم والدتي بإحداث الضرر على الزقاق المجاور للشارع العام ، هل رمتْ متفجرات على تلك الأزقة ؟ أم حفرتها ليلا بآلة “التراكس” ؟ نظر إلي بإشفاق ، ثم ظل يضحك ويسخر مني، وهو يحاول أن يهدأ من روعي وتوتري، وعيناه على الورقة ! لكنني لم أشعر كيف أخَـذها مني. أقصد ورقة “الذعيرة” فقال بدم بارد: ربما أصبتَ بالغباء أو العَـمى، ياهـذا ،،، هاته الورقة ، فيها حكم قضائي لصالح والدتك .
– كيف، أتستعبطني، أم تستحقرني أم تستحمرني ؟
– حاشا، بل أمزح معك من سراديب الحكاية !
– أي حكاية تقصد، وهل بيننا الآن حكايا ؟ فكل الحكايا كانت قبل أن يطردوك من المدرسة .
– لقد فعَـلوا حسنة في حياتي، قالها وضحكات النشوة تزداد وتزداد . ثم وضع يده الثقيلة على كتفي الأيسر، مقتربا من أذني :
– ألم ترفع والدتك دعْـوى لإفراغ شقتها من تلك الشمطاء؟
– لم ترفع أية دعوة قضائية إطلاقا ، ضد أي مكتري ، فالمكترية الوحيدة ، التي تقصد ، سلمت لوالدتي مفاتيح الشقة منذ شهور خلت .
– تذكر جيدا، بأن والدتك رحمها الله، رفعَـت دعْـوى الإفراغ منذ عشر سنوات على تلك المكترية السافلة، التي كسرت عظام والدتها؛ وذبحت قطة جارتها عنوة…
– ربما تحلم ياهَـذا الرجل ؟
– رجال السلطة لا يأتون في المنام بل في اليقظة ، وإن لم تتذكر ، من أجل مصلحة والدتك ، هاأنذا أمزق الورقة أمام أعينك النائمتين،،،، لم أستسغ إهانته لي ، فحاولت خطف الورقة من بين يديه ، لكن كانت يده اليسرى قوية ، كان يشغل في أوراش البناء بها دفعني بعيدا عنه ؛ اقتربت من يـَده اليمنى التي تتحكم في الورقة، فأمسكتها ، بقوة…لكن خـفـْت أن أمزق الورقة، التي هي حجة، ولكن ظل يهددني بتمزيقها، حتى لا تبْـق هنالك حُجـة بيننا وبين المكترية، حسب قوله. فاشتد الكر والفر والشد والجـَدب بين اليدين، فإذا بصراخ حاد، ينبعث من زوجتي، ويَـد ضربت صدري ، لا أدري هل يدها اليمنى أم اليسرى، لكـن ما أتذكره صرختها التي أيقظتني من منامي:
– لقد مزقـْت منامتي أيها الوحْـش .
نهضت مفـزوعا ! مهرولا ! خارج غـُـرفة النوم. أصرخ أيْـن والدتي: هل كـُـنتُ عندها أم كانتْ عندي…؟