للعيون لغة خاصة ليست كباقي اللّغات لا تقل افصاحا عن لغة اللسان ، كما يقول قيس بن الملوح: إذا نظـرت نحوي تكلم طرفهـا ::::::وجاوبـها طرفي ونحن سكـوت. لغة ، تتقدم فيها الإشارة على الصوت ، وتبلغ أبعد من مبلغه في اقتحام القلوب ، وإثارة الشجون ، وإشعال الحواس ، والتعبير عما تفيض به النفوس من أحاسيس ومشاعر بشرية ، يقول أحد الشعراء بقوله: إذا العيون تحدثت بلغاتهـــــا :::::: قالت مقالا لم يقله خطيــــب. لغة لا يتمكن من قراءة معانيها إلا من أوتي حظاً من رهافة حسّ العشّاق والمحبّين وأصحاب القلوب المتيّمة وخبراء لغة الجسد لارتباط دلالاتها الوثيق بخبايا النفوس . لغة حفلت آيات الكتاب العزير بالحديث عن إيماءاتها وتلميحاتها القادرة على إظهار ما تضمره الخواطر من خلال ما يسمى في علم لغة الجسد بـ ( تبادل النظرات) كالتي جاءت في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) سورة التوبة 127 ، وفي قوله سبحانه: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت). لغة تشكل جزءا هاما في التواصل الإنساني غير اللفظي ، يوثق للعلاقات ويزيد الانسجام بين الناس ، إذا فُهمت تعابيرها التي غالبا ما تصعب السيطرة عليها ، لسرعة بواحها وعدم قدرتها على كتمان الأسرار المخفيّة التي قد لا يعرفها صاحبها عن نفسه من مشاعر الصدق والمحبة والرومانسية والإيمان واليقين وغيرها من الأحاسيس التي لا تستطيع قصائد الشعر المطولة البوح بها ، ولا تقوى الخطب الرنانة على الإفصاح عنها ، حتى قيل أن “الصب تفضحه عيونه ” و “ربّ عين أنمّ من لسان” وكما قال عثمان بن عفان :”ما أسر أحد سريرة إلا وأظهره الله علي فلتات لسانه ونظرات عيونه” . الأمر الذي أكده الشعراء ، والذي نكتفي منه بهذا النزر القليل: إن العيون لتبدي في نواظرها::::ما في القلوب من البغضاء والإحن إن البغيض له عين يصـــدقها :::: لا يستطيع لما في القلب كتمانا فالعين تنطق والأفواه صـــامتة:::: حتى ترى من صميم القلب تبيانا ويستخلص من المشتغلين بلغة الجسد ، أن العيون هي العنصر الأقوى في الاتصال الجسدي المباشر بين البشر، والحاسة التي تستطيع التعبير عما لا يُقال بالكلام المنطوق ، وذلك عن طريق الإيماءات ، وتعبر عما تبطنه النفس البشرية وما تخفيه عن العالم الخارجي ، وكأنها مرآة سقيلة تعكس مكنونات القلوب والأرواح والنفوس ، وتكشف أسرارها بلا كذب أو نافق ، وتفضح مشاعرها الداخلية بصدق وبلاغة أبلغ من أي كلام، لما تملِكة من قدرة خارقة على التعبير عن المشاعر والمعاني المتضادّة، أمثال:الحبِّ والبغض، الحنان والقسوة، الألفة والجفوة، الحزن والفرح، الغضب والرضا، القبول والرفض، السعادة والتعاسة، الحسد والقناعة، الصدق والرياء ، القدرة الخارقة التي لخصها أحد الشعراء بقوله: العين تبدي الذي في قلب صاحبها::::من الشناءة أو حب إذا كانا.. يبدو مما سبق أنه بإمكان هذا المخلوق الضعيف “العين” ، أن تختصر حديثا من سبعين ألف كلمة في طرفة عين ، و تشير إلى أكبر المعاني القادر على بعث الأمل والحياة في نفوس المتلقين، أو تبذر عدم الاحترام والتآمر فيها ، بأدنى حركة من نظراتها الموزعة بين ، المُحبة الحانية ، والسارحة اللامبالية ، والحاقدة الثائرة الساخرة ، والمستفهمة المصممة ، والمستغيثة المهزومة المستسلمة، والحرجة الخجلة، المترددة الخائفة ، والقلقة المضطربة ، وغيره من أشكال النظرات التي استحقت عليها إسم “خائنة الأعين” التي سماها بها خالقها سبحانه وتعالى في قوله :”يعلم خائنة الأعين” التي تعني “النظرة المسارقة” ، أي النظرة المختلسة ، تلك المهارة التي يحسن إستخدامها أحذق التجار للحفاظ على المشترين المحتملين والمهتمين ، ويستغلها رجال السياسة والشخصيات العامة ، في استقطاب وتجييش الأتباع ، لمعرفتهم –تجارا وسياسيين- بأهمية العينين التي ليست وسيلة لرؤية الخارج فقط ، بل هي وسيلة بليغة للتعرف على ما يروج بدواخل الناس ، ولا أدل على ذلك من معاني نظرات والدي إليّ ، والتي كانت عيناه رحمه الله تفضحه مهما حاول اخفاء قصده، فأفهم ما وراءها من عقاب على ما قد أكون ارتكبته من تجاوزات ..